كان لأتباع المذهب الأشعري سجالات (بعضها دموي) مع أتباع المذاهب الكلاميّة الأخرى في التقليد السنّي، خصوصاً المعتزلة (حتّى إضمحلالهم في القرن الثالث عشر) والحنابلة. لكن الطريف أنّ مؤسّس المذهب أبو الحسن الأشعري (ت. 936) تأثّر بالكثير من أفكار بعض علماء المعتزلة الأوائل كما بفكر أحمد بن حنبل (ت. 855).
أسّس الأشعري لمذهبه عبر كتابات أهمّها “كتاب الإبانة عن أصول الديانة” الذي يؤكد فيه أنّ كلّ شيء في الإسلام يجب أن يُبنى على القرآن والسنّة النبويّة، وأنّ المسلم ليس بحاجة لأي شيء خارجهما، وعلى أساس ذلك يدحض أفكار خصومه، أمثال الجهميّة ومعتزلة زمانه والمرجئة.
تأثّر الأشعري كثيراً بفكر المعتزلة، لكنّه رفض الخضوع للإتّجاه الفكري الذي أصبح مهيمناً داخل الحركة في زمانه والذي تمحور حول الأصول الخمسة (التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وتفسير الدين من باب هذه الأصول الخمسة. فانشقّ عن المعتزلة، لكنّه أبقى على معتقدات سابقة لعلماء من المعتزلة، كضرّار بن عمر (ت. نحو 805) وجعفر بن حرب (ت. 850) وغيرهما، والتي أصبحت في زمن هيمنة الأصول الخمسة من الأمور المرفوضة داخل الحركة (أنظر المقال السابق عن المعتزلة).
إذاً، يمكن أن نتصوّر أنّ الأشعري، في جوانب كثيرة من فكره، هو استمراريّة لاتّجاه داخل حركة المعتزلة تمّ القضاء عليه داخليّاً، فاضطّر إلى الخروج عنها من أجل أن يستمّر.
واستلهم الأشعري أيضاً بعض أفكاره في علم الكلام من علماء عُرفوا بأصحاب الحديث، خصوصاً ابن حنبل، وأخذ ما جادلوا به إلى خواتيمه المنطقيّة. مثلاً، يقول عن تأثّره بابن حنبل:
“قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل، وبسنّة نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما رُوِيَ عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، نَضَر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته، قائلون، ولما خالف قوله مخالفون. لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشكّ الشاكّين. فرحمة الله عليه من إمام مقدّم، وجليل معظّم، وكبير مفهّم”.
أخذ بعض الحنابلة هذا الكلام على محمل الخطأ ونسبوا الأشعري إلى مذهبهم الفقهي، بينما ما عناه هو أنّه تعلّق بجوانب من فكر ابن حنبل في علم الكلام، ولم يقصد الفقه.
أقول إنّ الأشعري أخذ ما قاله بعض العلماء المسلمين حول أسبقيّة القرآن والسنّة كمصادر للفكر الديني إلى خواتيمه، أي حَصَر الفكر الديني في كتب الوحي كأساس ينطلق منه المفكّر من أجل الوصول إلى معرفة الأحكام والمعتقدات والعبادات ولا يُدخل عليهما أي مصدر آخر.
الدليل العقلي يتطلّب أن يكون القرآن منزّهاً عن هذا النوع من الخطاب، أي تقبّل أن تكون آية ناسخة لآية تأتي بعدها، حتّى لو كان ذلك جائزاً من حيث المبدأ. بمعنى آخر، من دون العقل، يفقد النصّ الوهيّته ويصبح عاجزاً عن الإقناع
قبله، يمكن أن نقول أنّ معظم العلماء كانوا مقتنعين أنّ القرآن والسنّة ليسا بكافيين للفكر الديني، والمفكّر بحاجة إلى أدوات أخرى. فاستنبطوا لذلك أدوات ومفاهيم استخدموها مع القرآن والسنّة، أو حتّى قرأوا القرآن والسنّة في ضوئها. وهذا ما نجده مثلاً عند الشافعي (ت. 820) واستخدامه مفاهيم مثل القياس والإجتهاد والإجماع، أو الرأي عند أبي حنيفة (ت. 767) وتلامذته، أو تجربة المدينة المنوّرة (التي تشمل فترة النبي والصحابة والتابعين) عند مالك بن أنس (ت. 795) والتي أصبحت الركيزة في الفكر المالكي.
ويجب أن نفهم موقف الأشعري (وابن حنبل من قبله) كردّة فعل على قيام معظم علماء المسلمين في ذلك الوقت باختلاق هكذا أدوات ومفاهيم وقناعات ووضعها بنفس المرتبة كالقرآن والسنّة (ومن دون شكّ، استخدم كلّ طرف آيات من القرآن وأحاديث للنبي من أجل دعم ما ذهبوا إليه)، أو اعترفوا ضمناً بأسبقيّة القرآن لكن فعليّاً كانت الأسبقيّة لفكرهم وآرائهم. يقول الأشعري في كتاب “الإبانة”:
“فنبذ كثيرٌ ممن غَلبت عليهم شَقَوَتهم، واستحوذ عليهم الشيطان سُنَن نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم وراء ظهورهم، ومالوا إلى أسلاف لهم قلّدوهم في دينهم، ودانوا بديانتهم، وأبطلوا سنن نبيّ الله عليه الصلاة والسلام، ودفعوها وأنكروها وجحدوها افتراء منهم على الله، “قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين” (سورة الأنعام 140)”.
بمعنى آخر، رأى الأشعري هنا أن إدخال المفكّر المسلم لمفاهيم ومعتقدات وقناعات من خارج القرآن والسنّة تضعه في باب المساءلة وتقوده إلى الخطأ أو الكفر.
ومع الوقت والتجربة تبيّن لبعض أتباع الأشعري أنّ القرآن والسنّة ليسا بكافيين وحدهما للإجابة عن المشاكل الدينيّة والفكريّة التي واجهوها وأنّ مساءلة النصّ هي من الأمور الضروريّة، خصوصاً إذا كان النصّ يشير إلى أمر غير منطقي أو يرفضه العقل. لذلك أعادوا إدخال العقل (أو الرأي أو النظر)، ونتج عن ذلك إنقسام داخل المذهب الأشعري بين رافض للعقل ومصّر عليه. من بين الذين أصرّوا على أهميّة العقل وأنّ الأسلام لا يكمل من دونه نجد أمثال أبو حامد الغزالي (ت. 1111) وفخر الدين الرازي (ت. 1210).
مثلاً، في كتابه “المُسْتَصفى” يُعرّف الغزالي الدلالات (أي البراهين الدينيّة) بانها أربع: “دلالة بالمنظوم، دلالة بالمفهوم، دلالة بالضرورة والاقتضاء، ودلالة بالمعنى المعقول”. الدلالة بالمنظوم هي في أخذ النصّ القرآني (أو السنّة) بحرفيّته، بينما الدلالة بالمعنى المعقول هي في رفض المعنى الظاهري واستخدام العقل من أجل التوصّل إلى المعنى المقصود.
ويقول الرازي في كتابه “المَحْصول”:
“فإن من أهم العلوم الموصلة إلى معرفة أحكام الله تعالى في كتابه وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم علم أصول الفقه، فهو العلم الذي ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، فأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول الذي لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتسديد والتأييد”.
مثال آخر نجده في تفسير الرازي (المسمّى بـ”مفاتيح الغيب”) حيث نجده يرفض أن تكون الآية 234 من سورة البقرة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلنَ خَبِيرٌ) ناسخة للآية 240 من نفس السورة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَّزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، والذي هو الإعتقاد عند معظم الأشاعرة الرافضين للعقل، فنجده يلجأ إلى المتكلّم المعتزلي أبي مسلم الإصفهاني (ت. 934) من أجل الردّ على مزاعم خصومه الأشاعرة. يقول الرازي:
“واحتجَّ (أبو مسلم) على قوله بوجوهٍ أحدها.. أنّ يكون الناسخ مُتأخّراً عن المَنسوخِ في النزول، وإذا كان متأخّراً عنه في النزول كان الأحسن أن يكون مُتأخّراً عنه في التلاوة أيضاً، لأنّ هذا الترتيب أحسن، فأمّا تقدّم النّاسِخِ على المنسوخِ في التلاوة، فهو وإن كان جائزاً في الجملة، إلَّا أنّه يُعدّ من سوء الترتيب وتنزيه كلام اللَّه تعالى عنه واجبٌ بقدر الإمكان ولمّا كانت هذه الآية متأخّرةً عن تلك التلاوة، كان الأولى أن لا يحكم بكونها منسوخةً بتلك.. فهذا تقرير قول أبي مسلم وهو في غاية الصحّة”.
إذاً، الدليل العقلي يتطلّب أن يكون القرآن منزّهاً عن هذا النوع من الخطاب، أي تقبّل أن تكون آية ناسخة لآية تأتي بعدها، حتّى لو كان ذلك جائزاً من حيث المبدأ. بمعنى آخر، من دون العقل، يفقد النصّ الوهيّته ويصبح عاجزاً عن الإقناع.
(*) اللوحة للفنان المصري الزميل السعيد عبد الغني