أن تُقرّر مصالحك السياسيّة والإقتصادية والعسكرية بعيدًا عن إرادة القوى العظمى، أو دون الإنصياع الكامل لها، أو أن تقبل بلعب دور بيدقٍ من موقعك الجغرافي لمصلحتها، هذا قرارٌ له انعكاساته الحتميّة على مسارك الداخلي الإقتصادي والسياسي، ولكلا الخيارين تأثيره وتبعاته.
تجربة تركيا في ظلّ الإنخراط شبه الكامل (قضية جزيرة قبرص هي الإستثناء) تحت مظلّة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي جديرة بالقراءة والتدقيق: كم نعمت تركيا بالإستقرار الداخلي؟ كم استفادت اقتصاديًا مقابل ما قدّمته للتحالف الغربي؟ هل كانت مؤثّرة ومشاركة في صناعة الأحداث الإقليمية أم كانت متأثرة فقط؟ في المقابل، يمكن طرح التساؤلات نفسها وغيرها عن الفترة التي حكم فيها حزب العدالة والتنمية، وهي الفترة التي شهدت مقاربة براغماتية لموقع تركيا ومصالحها. لا أحد يُنكر اختلاف الظرفين والزمانين، لكن أيضًا، لا أحد يُنكر أنّ حزب العدالة والتنمية صنع لتركيا شخصيّة أكثر انسجامًا مع موقعها وتاريخها وأيضًا مصالحها، حتى لو أخطأ ـ بتقديرنا ـ في العديد من الخيارات.
يومٌ لك ويومٌ عليك
الظرف والزمان لاعبٌ مهم، وفي بعض الأحيان حاسمٌ في السياسة، وأكثر من أدرك وعايش هذه المسألة، هو حزب العدالة والتنمية. لحظة ولادته الداخلية كانت استثنائية، تبعات الزلزال المدمر عام 1999، ثمّ انهيار كبير في قيمة العملة، وتباطؤٌ وتراجعٌ في الأداء الإقتصادي، والأهم، إحباط الناس من الوجوه التقليديّة التي حكمت تركيا على مدى عقود. كذلك اللحظة الإقليميّة والدولية، فمع انهيار الإتحاد السوفياتي، عملت القوّة العظمى على استيلاد عدوٍ آخر، هو “الإرهاب الإسلامي”، والذي بدأت أولى نتائجه، غداة 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 باحتلال أفغانستان أولًا، ثم العراق. في تلك اللحظة، كانت الإمبراطوريّة الأميركيّة بحاجة إلى دولة إسلامية وازنة ومعتَبرةٍ ومنخرطة ضمن المشروع الأطلسي، لتمنح الهجوم الغربي غطاءً أخلاقيًّا، وفي الوقت نفسه، ليكون هذا النوع من الإسلام المتحالف هو النموذج والبديل عن الإسلام الرّافض لهيمنة الغرب، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما أثناء زيارته لتركيا عام 2011، ثم في خطاب القاهرة الشهير.
اليوم تقريبًا تُعاد الظروف، لكن بشكلٍ معاكسٍ. آثار الزلزال الأخير تُرخي بثقلها على كاهل حكومة حزب العدالة والتنمية. أما كأس التضخم، فلن يستطيع إردوغان تفادي شربه، فمنذ يومين رفع وزير إقتصاد حزب العدالة والتنمية وحليف إردوغان السابق في مرحلته الذهبية، رئيس حزب الديمقراطية والتقدم المعارض علي باباجان، في إحدى مهرجانات إسطنبول الإنتخابية، ورقةً من فئة الـ200 ليرة، وخاطب الجمهور “بأنّ هذه الورقة كانت تساوي 135 دولارًا سابقًا، أمّا اليوم، فهي تساوي عشرة دولارات فقط”. مفاعيل أزمة كورونا وتضخم قيمة العملة وتبعات الحرب الروسية الأوكرانية، وغيرها من العوامل، كلّها أدّت إلى تراجع أداء الإقتصاد التركي، أي أن منطاد صعود العدالة والتنمية سابقًا يهوي اليوم بصورة دراماتيكية.
أمّا الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، فقد ملّوا نوبات إردوغان البراغماتية، وبالتالي فقدوا الرهان عليه، بل بات رهانهم كبيرًا على إزاحته وإبعاده بشكل كامل عن مركز القرار في أنقرة.
يُقدّر عدد الذين سيُصوّتون للمرّة الأولى بحوالي خمسة ملايين شاب وشابة، هؤلاء لم يعرفوا مرحلة ما قبل إردوغان، وبالتالي لا يشعرون بإنجازاته ولا بفضله في ما صنع. هؤلاء فتحوا أعينهم فلم يروا على المسرح سوى البطل الواحد بدون منازع، يلعب كلّ الأدوار ويختصرها بنفسه. من يعرف شخصيّة واحدة بارزة في حزب العدالة والتنمية غير إردوغان؟
أبرز نقاط الضعف الداخلية
مع بدء تراجع الأداء الإقتصادي للحكومة التركية بدأ التصويب على قرارات وتوجّهات إردوغان السياسيّة، وأبرزها قضية النزوح السوري إلى داخل تركيا. منذ عامين بدأت المعارضة التركية تُصوّب بقوّة على مسألة النزوح، وبرغم قرارات الحكومة القاضية بتقييد حركة وسكن وعمل النازحين، إلّا أنّها ظلّت قضيّة رأي عام ملتهبة استنزفت شعبية حزب العدالة والتنمية بسبب ربطها بتأزم الوضع الإقتصادي. المعارضة وعدت بإعادة هؤلاء النازحين إلى سوريا خلال عامين في حال وصولها للسلطة، الأمر الذي يستدعي بطبيعة الحال، إقامة علاقة مستقرة مع الحكومة السورية، هذا أولًا.
ثاني نقاط ضعف حزب العدالة والتنمية، هو تغيّر خطاب الأحزاب العلمانية لمصلحة الخطاب الديني. في المقالة السابقة كتبت أن السيدة ميرال أكشينار زعيمة حزب “الجيد” وقفت أمام جهورها تزهو بأنها تصلي مذ كانت في السابعة من عمرها. وحتى كتابة هذه المقالة، كانت أكشينار قد كرّرت ذكر هذه القصة ثلاث مرّات، أما مرشّح الرئاسة المعارض كليتشيدار أوغلو، فأثناء أحد خطاباته الأخيرة، توقف عن الكلام حتى انتهاء رفع الآذان احترامًا له (أين أتاتورك ليرى ذلك ويسمعه). ما يعنينا من المسألة، أنّ القضيّة الدينيّة لم تعد مسألة نزاعٍ عميق بين الفريقين، لقد فقد حزب العدالة والتنمية واحدًا من الأوتار التي يشدّ من خلاله عصب الجمهور التركي “المسلم”، لدرجة أنّ إردوغان قال هازئًا من كليتشيدار أوغلو، “إنّه بات يُصلّي أكثر منا”.
النقطة الثالثة هي توحّد المعارضة للمرّة الأولى، والمروحة الواسعة التي يضمها تحالف الأمّة. صحيح أنّ المعارضة تكاد لا تلتقي إلّا على مسألة إزاحة إردوغان، لكن تعدّد الوجوه والتيارات والخيارات في داخله يُعطي انطباعًا بتمثيل أوسع لكلّ أطياف المجتمع التركي، وبالتالي هو يُطمئن الجمهور بأنّ سياسة الإقصاء التي انتهجها حزب العدالة والتنمية أثناء حكمه، غير واردة ولا حتى ممكنة في حال وصول المعارضة للسلطة، وللتدليل على ذلك، لم يتردّد مرشّح المعارضة عن الزّهو بخلفيّته العلويّة، ولعلّها سابقة لم تحدث من قبل في الإنتخابات التركيّة. كما أنّ انسحاب مرشّح المعارضة السّابق محرّم إنجه، قد يحسم الإنتخابات من الجولة الأولى.
النقطة الرابعة أن إردوغان لم يكتفِ بمحاولة تهميش وتهشيم جزء وازنٍ من القوى السياسيّة التركيّة، وتوسيع الفالق بين الحكومة والمعارضة، وبالتالي بين أطياف المجتمع، بل في ذروة قوّته شعر بإمكانية الإستغناء عن الجميع، والمسألة هنا ليست تقييم المُحقّ من المخطىء، بل القضيّة أنّ “أعجز النّاس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه، من ضيّع من ظفر بهم”، كما يقول الإمام علي بن أبي طالب. لقد استخف إردوغان بانفكاك أبرز الوجوه التي شهدت مرحلة صعوده ووقفت إلى جانبه: فتح الله غولن، عبد الله غول، أحمد داود أوغلو، علي باباجان، وغيرهم الكثير وإن كانوا أقلّ حضورّا، وقد يعي مرارة هذا الدرس بشكلٍ خاص، في حال هزيمته بفارقٍ بسيط.
تقدير النقطة الحاسمة
هذه نقطة تستحق النقاش والتحليل. نقطة قوّة تحالف الجمهور هي إردوغان، ونقطة ضعفه أيضًا أمام هجمات خصومه هي إردوغان أيضًا. هناك فارقٌ بين أن تُقدم مشروعك ثم تربطه بالأهداف والنتائج، وبين أن يرتبط مشروعك بشخصك حصرًا، في هذه الحالة، سيصعد المشروع مع صعودك، وسيهوي لحظة هبوطك. تقييم القادة العظام لا يكون عادة بمستوى إنجازاتهم الآنية، بل تقييم نجاحهم هو في استمرار المشروع والإنجاز من دونهم، بل وتطوّره أيضًا.
يُقدّر عدد الذين سيُصوّتون للمرّة الأولى بحوالي خمسة ملايين شاب وشابة، هؤلاء لم يعرفوا مرحلة ما قبل إردوغان، وبالتالي لا يشعرون بإنجازاته ولا بفضله في ما صنع. هؤلاء فتحوا أعينهم فلم يروا على المسرح سوى البطل الواحد بدون منازع، يلعب كلّ الأدوار ويختصرها بنفسه. من يعرف شخصيّة واحدة بارزة في حزب العدالة والتنمية غير إردوغان؟
أعتقد أنه في حال خسارة إردوغان، فإنّ العامل الأخير سيكون السبب الرئيس لها. لكلّ شيءٍ قدرٌ وحدٌّ، أنت تستطيع أن تعيش مرحلة الولد والأب والجد بكلّ ما تحمله كلّ واحدة من دلالة ومعنى، لكنك لا تستطيع أن تأخذ دورك ودور أبنائك ثم دور أحفادك، هناك جيلٌ سيرفض اختزالك للجميع. كما أنّه من غير المنطقي أن يتهدّد مشروعٌ بأكمله لأنّه ارتبط مصيره بمصير شخصٍ واحدٍ فقط، ستأتي لحظة وتتعرّض فيها للإنتكاس، طبيعة الحياة والعمل هكذا، والجمهور الذي اعتاد أن ينسب جميع الإنتصارات لك دون غيرك لحظة نجاحك، هو نفسه سينسب جميع الإخفاقات والهزائم والتراجع لك لحظة انتكاستك. لقد أنست السلطة والرياسة الطيب أثناء حكمه، أنّ أبرز عاملٍ لنجاح حزبه في أولّ انتخابات قادها عام 2002، وقبل أن يُجرّبه النّاس حتى، هو أنّهم يومها أرادوا قبل أيّ شيءٍ آخر أن يُغيّروا تلك الوجوه التي جثمت على صدورهم لعقودٍ مديدة.
إنّها جاذبيّة التغيير التي لا تُقاوَم، نجحت محاولة إردوغان أم فشلت.