أولاً؛ الفينيقيون وأصولهم:
في كتاب “التوراة جاءت من جزيرة العرب” يقول كمال الصليبي “الكنعانيون نزحوا من غرب شبه الجزيرة العربية ليعطوا إسمهم لأرض كنعان على امتداد الساحل الشامي في المنطقة التي سمّاها الإغريق فينيقيا على إسم الفنيقا في منطقة عسير” في السعودية.
وحين يتطرق الصليبي إلى المؤرخ الإغريقي هيرودوتس يقول “في كتابته عن الفينيقيين وعن سوريي فلسطين في القرن الخامس قبل الميلاد، لا يُبدي المؤرخ الإغريقي هيرودوتس أي شك حول كون أصولهم من غرب شبه الجزيرة العربية وهو يقول ـ أي هيردوتس ـ: هؤلاء الناس واستناداً إلى روايتهم نفسها قطنوا في القديم على البحر الأحمر، وبعبورهم من ذلك المكان استقروا على ساحل البحر في سوريا حيث ما زالوا يقيمون”.
في الواقع هذا “اجتهاد” تفسيري للتاريخ، فهيردوتس وفقاً للنص الذي يستشهد به الصليبي لا يربط بين الفينيقيين وغرب شبه الجزيرة العربية ولا يشير إلى ذلك إطلاقاً، وفي الترجمات الأربع العربية والفرنسية هذا ما يقوله هيرودوتس:
الأولى: “تاريخ هيرودوت” تعريب عبد الإله الملاح: “يزعم الفُرس أن الفينيقيين كانوا المبادرين في المنازعة ـ مع الإغريق ـ فهؤلاء القوم مهدهم في القديم شواطىء البحر الإرتيري ثم هاجروا إلى شواطىء البحر المتوسط ليستقروا في البلاد التي يسكنونها الآن”.
الثانية: “تاريخ هيرودوتس الشهير” تعريب حبيب أفندي بسترس: “إن الفُرس البارعين في معرفة تاريخ بلادهم ينسبون إلى الفينيقيين المبادأة بالعدوان بدعواهم أن هؤلاء يوم جاؤوا من سواحل بحر اريتريا إلى شاطى بحرنا سافروا في البحر مسافة طويلة حالما استقروا في البلاد التي اتخذوها موطناً لهم إلى الآن”. وجاء في النصين الفرنسيين الآتي:
Histoire d’Herodote: Pierre-Henri Larcher ـ a
Les Perses les plus savants dans l’histoire de leur pays attribuent aux Phéniciens la cause de cette inimitié. Ils disent que ceux-ci étant venus des bords de la mer Érythrée sur les côtes de la nôtre, ils entreprirent de longs voyages sur mer, aussitôt après s’être établis dans le pays qu’ils habitent encore aujourd’hui
Histoires d’Herodote: Pierre gigue ـ b
les perses disent qeu les pheniciens ont ete les auteurs de la qeurelle, selon eux après avoir qitte les bords de la mer rouge pour ceux de la méditerranée et s’etre etablis dans les contrees habitans encore aujourd’hui qu’ils
وكما يلاحظ في هذه النصوص الأربعة، لا يأتي هيرودوتس على ذكر الخليج أو الجذور العربيبة للفنييقيين انما يشير إلى أنهم جاؤوا من بحر اريتريا أو من البحر الأحمر، ولا تبقى الإشارة إلى علاقة الفينيقيين ببلدة الفنيقا في منطقة عسير السعودية سوى تأويل لغوي يستهدف خدمة النص الذي ابتغى له الصليبي خلاصة تخدم غاية كتابه.
ثانياً؛ لبنان ولُبن ولبينان:
ورد إسم لبنان في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد 71 مرة، لكن المؤرخ كمال الصليبي يطعن بالتفسيرات الآخذة بأن “لبنان التوراة” هو لبنان الجغرافي الحالي ويقيم نصه على اعتبار “لبنان التوراتي” موجود في غرب شبه الجزيرة العربية وفي ذلك يقول:
“الجغرافيون العرب يذكرون وجود لُبنان ولُبينان كإسمين لجبل في الحجاز وأرض اليمن وفي جوار لبينان قرية تدعى لبيني (…) وهناك جبل لبنان المعروف بالشام وهناك لبنان في الحجاز وقد ذكر الجغرافيون العرب، ومنهم ياقوت الحموي، أنه جبلان قرب مكة يقال لهما لُبن الأسفل ولُبن الأعلى وإضافة إلى ذلك هناك لبينان في شمالي اليمن في جوار منطقة نجران، وللبينان هذا ذكر في ـ كتاب ـ صفة جزيرة العرب للهمداني، والمرجح أن لبينان وليس لبنان الشام او لبنان الحجاز هو لبنون الذي يشير إليه سفر زكريا”.
بالنظر إلى المراجع التى استند إليها الصليبي تنتهي الخلاصة إلى التالي:
ـ في كتاب “صفة جزيرة العرب” للحسن إبن يعقوب الهمداني (892 ـ 946 م) المعروف بـ”لسان اليمن” ترد مفردة “لبينان” مرة واحدة في الصفحة 283 (تحقيق المؤرخ اليمني ووزير العدل الأسبق محمد بن علي الأكوع ـ دار الإرشاد ـ صنعاء 1990) بهذه الصيغة “ولبينان انقضى شق همدان” ومن دون شرح أو تفصيل أو زيادة.
ـ في “معجم البلدان” لياقوت الحموي تتعدد المسميات والأسماء الشبيهة بلبنان، فـ”لبنان جبلان قرب مكة يقال لهما لُبن الأسفل ولُبن الأعلى ـ لبن: جبل من جبال هزيل بتهامة ـ لبن: بكسر اللام وفيه لغتان: بسكون الباء وهو لفظ هذا الموضع، وبكسر الباء من حدود الحرم على طريق مكة ـ لُبن: بضم اللام ثم السكون وآخره نون إسم جبل ـ لُبنى شجرة كالعسل ولبنى أيضا إسم جبل.ـ لبنى في بلاد جذام.
ـ أما لبنان المعروف ففي معجم ياقوت الحموي “جبل مطل على حمص فما كان بفلسطين فهو جبل الحمل وما كان بالأردن فهو جبل الجليل وبدمشق سنير، وبحلب وحماة وحمص لبنان، ويتصل بإنطاكية والمصيصة فيُسمى هناك اللكام”.
ثالثاً؛ أرز لبنان:
يقول كمال الصليبي “لا بد أن أرز لبنان التوراتي كان أشجار عرعر عملاقة في أرض لبينان باليمن، والقواميس العربية تفيد بأن لفظة الأرز تطلق على العرعر (…) وهناك جبل لبنان المعروف بالشام والشجر فيه هو الأرز، وإضافة إلى ذلك هناك لبينان في شمال اليمن في جوار منطقة نجران، والأرز لا وجود له في تلك المنطقة، والشجر الذي يكثر في جوارها هو العرعر، والقواميس العربية تفيد بأن الأرز قد يكون العرعر، وليس هناك ما يمنع كون ءرزلبنون التوراتي عرعر لبينان لا أرز لبنان”.
وحين يشير الصليبي إلى القواميس العربية، فمقصوده “معجم البلدان” لياقوت الحموي، إذ يذكره غير مرة، والسؤال الذي يستحضر ذاته حيال ذلك: ماذا يقول ياقوت في معجمه؟ يقول التالي “العرعر شجر يقال له الساسَم، ويقال له الشِّيزَى، ويقال: هو شجر يُعمل به القطران”.
والعرعر في “لسان العرب” لإبن منظور “شجر يقال له الساسَم، ويقال له الشِّيزَى، ويقال: هو شجر يُعْمل به القطران، ويقال: هو شجر عظيم جبلي لا يزال أخضر تسميه الفُرس السرو، وقال أَبو حنيفة: للعرعر ثمر أَمثال النبق يبدو أَخضر ثم يبيض ثم يسود حتى يكون كالحمم ويحلو فيؤكل، واحدته عرعرة”. وفي معجم “تاج العروس” للزبيدي ما يكاد يكون النص نفسه لإبن منظور، إذ يقول الزبيدي “قيل هو الساسم ويقال له الشيزى، ويقال هو شجر يُعمل به القطران، ويقال شجر عظيم جبلي لا يزال أخضر يسميه الفُرس السرو، وقال أَبو حنيفة: للعرعر ثمر أَمثال النبق يبدو أَخضر ثم يبيض ثم يسود حتى يكون كالحمم ويحلو فيؤكل، واحدته عرعرة”.
في هذه التعريفات الثلاثة للعرعر لا يؤتى على ذكر الأرز، ولكن في تعريف الأخير في المعاجم والقواميس العربية ما يلي:
ـ في “لسان العرب” أن “الأرزة بالتسكين شجر الصنوبر، والجمع أرز، والأرز: العرعر، وقيل هو شجر بالشام يقال لثمره الصنوبر، وقال ابو حنيفة أخبرني الخبر أن الأرز ذكر الصنوبر وأنه لا يحمل شيئاً ولكن يُستخرج من أعجازه وعروقه الزفت ويُستصبح من خشبه كما يُستصبح بالشمع وليس من نبات أرض العرب، واحدته أرزة، وقال أبو عبيد إنما هي الأرزة بسكون الراء وهي شجرة معروفة بالشام تسمى عندنا الصنوبر من أجل ثمره وقد رأيت هذا الشجر يسمى أرزة ويسمى بالعراق الصنوبر”.
ـ في “تاج العروس” للزبيدي: شجر الصنوبر قاله أبو عبيد، أو ذكره، قاله أبو حنيفة، زاد صاحب المنهاج: وهي التي لا تثمر، كالأرزة، وهي واحدة الأرز، وقال: إنه لا يحمل شيئا، ولكنه يستخرج من أعجازه وعروقه الزفت، ويستصبح بخشبه كما يستصبح بالشمع، وليس من نبات أرض العرب، قال أبو عبيد والقول عندي إنما الأرزة بسكون الراء، هي شجرة معروفة بالشام تسمى عندنا الصنوبر، وإنما الصنوبر ثمر الأرز، فسُمي الشجر صنوبرا من أجل ثمره”.
ما يمكن التوقف عنده في تعريفات المعاجم العربية أن الأرز شجر معروف بالشام وليس من نبات أرض العرب، وربما هذه التعريفات جعلت المؤرخ الصليبي يتوقف عند باب الإحتمال ولا يدخل أرض الجواب اليقين حين قال “قد يكون أرز لبنان التوراتي عرعر لبينان في اليمن”، أو حين قال “ليس هناك ما يمنع كون ءرزلبنون التوراتي عرعر لبينان لا أرز لبنان”، وحين تدخل “قد” وليس هناك ما يمنع في البنية النظرية التي يدعو إليها الصليبي تصبح “النظرية” ذاتها في محل السؤال والإستفهام.
رابعاً؛ نهر الفرات:
يفترض مؤلف “التوراة جاءت من جزيرة العرب” أن “نهر الفرات ـ فرت ـ الذي أخذ تقليدياً على انه نهر الفرات العراقي، ربما كان ما هو اليوم وادي خارف ـ منطقة عسير السعودية ـ الذي ينبع من مرتفعات السراة بجوار تنومة شمال أبها، وهذا الوادي من اهم روافد المسار الرئيسي لوادي بيشة، ولا بد أن إسمه التوراتي، فرت، أتى من إسم قرية من قرى تنومة تُسمى اليوم الطفراء ـ طفر لعلها تحوير لفرت، ومن ناحية اخرى ربما كان نهر فرت رافدا آخر من روافد بيشة يحمل إسم الطارفة ـ طرف ـ والطارفة هو إسم يُطلق محليا على مراكز الإمارات بمنطقة بيشة دون غيرها”.
بمعزل عن ورود مفردة “لعل” مرة واحدة و”ربما” مرتين اثنتين في النص السالف الذكر، مما يجعل النص في مدار الظن الذي يتجنب اليقين، وهذا ما سيبني عليه العلامة حمد الجاسر في “افتراءات الصليبي” لمحمد عبدالله الحميد فيقول “حول كلمة الفرات حين لا يجد الدكتور الصليبي إسما لا يتفق مع هذا الإسم في الحروف ولا يقاربه، يجنح إلى كلمة الطارفة، وفات المؤلف أن الطارفة ليست إسماً وإن تخيل أنه يُطلق محلياً على مراكز الإمارات بمنطقة بيشة دون غيرها، وكأنه ظنّ أن استعمال كلمة طارفة خاص بهذه المنطقة، والمعروف أن كلمة الطارفة من الأسماء التي يكثر استعمالها وإطلاقها في بلاد نجد”.
في المعنى اللغوي للفرات كما جاء في “لسان العرب” أنه “أشد الماء عذوبة، وفي التنزيل العزيز: هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ” وعند ياقوت الحموي “الفرات في أصل كلام العرب أعذب المياه”.
هذه المزاوجة بين الفرات وعذوبة المياه، مردها إلى اعتقاد العرب القدامى بوجود آبار مياه جوفية جارية في شبه الجزيرة العربية تتغذى من الفرات العراقي وتمتد إلى مكة المكرمة وغيرها، كما ثمة اعتقاد آخر (صحيفة “الجزيرة” السعودية ـ 4 ـ10 ـ2016) بأن “سيخون هو أحد أنهار المملكة العربية السعودية الذي كان يجري في أراضيها، ففي بحوث أثرية مستندة لصور بالأقمار الإصطناعية تم أخذها في ثمانينيات القرن المنصرم من قبل وكالة ناسا، أثبتت تلك الصور وجود مجرى لنهر كبير في الجزيرة العربية يتلاقى مع نهري دجلة والفرات ـ وذلك ـ في نهاية العصر الجليدي”.
وهذا الإعتقاد بقي متوقداً في الذاكرة الشعبية، ونتج عنه ما يعرف بطريق القوافل بين الحجاز والعراق، والمعروف حتى الآن بـ”طريق الحج العراقي” أو بـ”درب زبيدة”، وهو الطريق المنسوب إلى السيدة زبيدة زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد حيث يُنسب إليها الإشراف على حفر الآبار الجوفية وإقامة البُرك المائية ابتداء من منطقة الكوفة في العراق إلى مكة المكرمة في السعودية وفقا لمجمل الروايات التي ينقلها المؤرخون العرب من أمثال الطبري في تاريخه والمسعودي في “مروج الذهب” وغيرهما.
وفي كتاب “رحلة في بلاد العرب” للرحالة الفرنسي موريس تاميزييه الذي رافق الحملة العسكرية لمحمد علي باشا (1834) على بلاد عسير “إن العرب يعتقدون إن هناك مجرى من المياه الجوفية يمتد على طول الطريق من مكة حتى ضفاف نهر الفرات”، وفي “صور من جزيرة العرب” للمستشرق جورج أوغيست فالين (1811ـ1852) “قال لي البدو إن الماء العذب متوافر طوال أيام السنة في طريق الحج العراقي عبر منحدرات صحراء الدهناء الشرقية والمعروفة إلى يومنا بإسم درب زبيدة وقالوا لي أيضا إن الآبار هنا عميقة”.
وعلى ما يظهر أن هذا الإعتقاد الراسخ بالعلاقة بين مياه غرب شبه الجزيرة العربية ونهر الفرات كاد ينتج مشروعاً مائياً تعاونياً ضخماً بين المملكتين السعودية والعراقية قبل الإنقلاب العسكري الذي قاده عبد الكريم قاسم في العراق عام 1958، وحول هذا المشروع يقول سليم واكيم في كتابه “الملك سعود” وكان مقرباً منه “إن جزيرة العرب بأشد الحاجة إلى المياه، و كان لا بد من إيجاد المياه للشعب السعودي بغزارة، فوجد الملك سعود الحل، وهو جر المياه من نهر الفرات إلى مدينة الرياض فسائر المدن الرئيسة في المملكة، وذلك عن طريق أنابيب أشبه بأنابيب النفط، لقد بحث هذا المشروع مع المسؤولين في العراق، لكن ظروفاً قاهرة حالت دون ذلك”.
(*) راجع الجزء الأول: كمال الصليبي وفتنة اللغة الشقية
(**) في الجزء الثالث: مصر وفلسطين ومدن أريحا وبيت لحم وجبل صهيون.