بلينكن ليس كيسنجر.. وشي جين بينغ ليس دنغ شياو بينغ

من المؤكد أن وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن ليس مثل سلفه هنري كيسنجر ولا الرئيس الصيني شي جين بينغ مثل دنغ شياو بينغ. ما يستدعي المقارنة هو وصول العلاقات الأميركية-الصينية إلى أدنى مستوياتها منذ التطبيع بين البلدين في مطلع سبعينيات القرن الماضي. بروز بكين كتحدٍ إستراتيجي للولايات المتحدة ربما لم يكن وارداً في حسابات الرئيس ريتشارد نيكسون عندما قرر الإنفتاح على الصين من أجل هزيمة الإتحاد السوفياتي.   

اليوم في خضم تطورات متسارعة من أوروبا إلى الشرق الأوسط إلى أميركا اللاتينية وأفريقيا، تُلح الولايات المتحدة على الصين من أجل فتح الحوار الديبلوماسي على مستوى وزارء الخارجية، بعدما بدا الأفق مسدوداً أمام عودة الإتصالات العسكرية. هكذا يُفهم من رفض وزير الدفاع الصيني لي شانغفو لقاء نظيره الأميركي لويد أوستن على هامش منتدى شانغريلا الأمني في سنغافورة الأسبوع الماضي.

زيارة أنطوني بلينكن في 18 حزيران/يونيو الجاري إلى بكين، هي الأولى لوزير خارجية أميركي للصين منذ زيارة مايك بومبيو عام 2018. الزيارة كانت مقررة أوائل العام الحالي، لكن الضجة التي أثارتها الولايات المتحدة حول المنطاد الذي حلّق فوق الأراضي الأميركية، والذي قالت بكين إن الرياح جرفته إلى هناك بينما قالت واشنطن إنه منطاد تجسس، جعل القيادة الصينية ترفض إستقبال بلينكن.

إن إستعداد الصين لإستقبال بلينكن يأتي وسط مناخات من التوتر الشديد في المحيطين الهادىء والهندي بين القوات الصينية ونظيرتها الأميركية

قبل بكين، كانت محطة بلينكن في السعودية لثلاثة أيام. كانت زيارة في أجواء شرق أوسط تهب عليه الرياح الصينية، من إتفاق بكين في العاشر من آذار/مارس الذي كان فاتحة لإعادة تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران بعد قطيعة إستمرت سبعة أعوام. وتشاء الصدف (إذا كان في السياسة من صدف) أن تتزامن زيارة بلينكن للسعودية في اليوم نفسه الذي كانت تجري فيه مراسم إفتتاح السفارة الإيرانية في الرياض. وفي جدة، إستقبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قبل 24 ساعة من إستقبال بلينكن، الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو الخاضع للعقوبات الأميركية. ورسائل العتب الأميركية على السياسة السعودية لا تبدأ في إيران ولا تنتهي بالتطبيع مع إيران وسوريا والخفض المتواصل في إنتاج النفط، بينما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يلح في سؤال إدارة الرئيس جو بايدن من أجل الضغط على السعودية، كي تباشر في التطبيع مع إسرائيل، من دون أن يلقى جواباً حاسماً حتى الآن.

وفي حال تمت زيارة بلينكن، فإنه سيجد أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد سبقه إلى هناك، بعدما دعاه الرئيس شي جين بينغ ليبحث معه في إمكانات أن تلعب الصين دور المسهل في معاودة المفاوضات مع إسرائيل. وبعد إتفاق بكين بين السعودية وإيران، إقترحت الصين على السلطة الفلسطينية وإسرائيل، القيام بوساطة لإستئناف المفاوضات المتوقفة منذ عام 2014.

وعلى مضض، قال بلينكن في السعودية إن الولايات المتحدة لا تُخيّر الدول الأخرى بينها وبين الصين. وفي تلميح من بعيد إلى النتائج التي تمخض عنها إتفاق بكين، قال وزير الخارجية الأميركي إن بلاده تُرحّب بخفض التصعيد في الشرق الأوسط. يأتي ذلك وسط تداول روايات عن التوصل إلى إتفاق مؤقت مع إيران لوقف التخصيب بنسبة 60 في المئة في مقابل حصول إيران على ودائع مجمدة في كوريا الجنوبية والعراق وحقوق سحب خاصة لدى صندوق النقد الدولي توازي مجتمعة 24 مليار دولار. هذا ما ورد في وكالة “تسنيم” الإيرانية وموقع “ميدل إيست أي”. هذه الأنباء رفعت نسبة التوتر في إسرائيل إلى درجة أن نتنياهو هاتف بلينكن على عجل، مُحذّراً بأن ما يُلزم أميركا لا يُلزم إسرائيل.

ومن الشرق الأوسط المتأرجح بين مناخات الحوار على جبهة الخليج والعراق وسوريا والمشتعل في السودان والمتوتر في لبنان، يمضي النزاع الأوكراني إلى مستويات أعلى من التصعيد. فإنهيار سد نوفا كاخوفكا الثلثاء الماضي، أياً كانت الجهة الفاعلة، يُنذر بذهاب الحرب مذهب الكوارث. لا تقل الأضرار الناجمة عن الفيضان على المدى الطويل، عن تلك التي نجمت عن التسرب من مفاعل تشرونوبيل في 1986. وفي ظل هجوم أوكراني مضاد صامت، فإن تفجير السد وبلوغ الحرب الأراضي الروسية في الأسابيع الأخيرة، يعني أن الجبهة إلى إتساع ومن غير المستبعد أن تخرج عن سياق الحروب التقليدية. كما أن غياب أي أفق لتسوية سلمية بين البلدين يعزز المزيد من السيناريوات الكارثية.

 ومن أوروبا إلى كوبا، التي تبعد 150 كيلومتراً عن الأراضي الأميركية، صدرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية قبل ثلاثة أيام بخبر عن إتصالات بين بكين وهافانا لإقامة محطة تجسس صينية في الجزيرة. وعلى رغم إستبعاد مدير الإتصالات الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، “دقة” الخبر الوارد في الصحيفة، فإن مُشرعين أميركيين ولا سيما من الجمهوريين يطالبون بايدن بتأكيدات تدحض أي شك في إحتمال تجدد سيناريو أزمة الصواريخ السوفياتية في بداية الستينيات الماضية.

إن إستعداد الصين لإستقبال بلينكن يأتي وسط مناخات من التوتر الشديد في المحيطين الهادىء والهندي بين القوات الصينية ونظيرتها الأميركية. وحوادث الإحتكاك تتصاعد يومياً بين سفن أميركية وصينية، أو بين مقاتلات صينية وأخرى أميركية. وتضغط واشنطن كما هو معروف بقوة على بكين من أجل عدم تزويد روسيا بالأسلحة. لكن التعاون العسكري الصيني-الروسي، في منطقة آسيا-المحيط الهادىء إلى تصاعد. قبل أيام دخلت مقاتلات صينية وروسية منطقة الدفاع الجوي لكوريا الجنوبية، في سابقة هي الأولى من نوعها. وبعدها حلّقت قاذفات صينية وروسية فوق بحر اليابان. وتجري بحرية البلدين مناورات مشتركة على نحوٍ دوري في المنطقة. هل يمتد التعاون العسكري الصيني-الروسي، في مرحلة ما إلى أوروبا؟ من يدري؟

إقرأ على موقع 180  بين "دفرسوار" زيلينسكي وحروب نتنياهو.. أميركا عاجزة أم متواطئة؟  

وفي المقابل، تُعزّز الولايات المتحدة أحلافها ووجودها العسكري في المنطقة وتخوض سباقاً مع الصين على إبرام إتفاقات مع جزر صغيرة لكنها تشكل قيمة من الناحية العسكرية، من جزر سليمان إلى بابوا غينيا الجديدة وميكرونيزيا، ناهيك عن توسيع الوجود العسكري الأميركي في الفيليبين. تضاف هذه الإتفاقات إلى تحالف “كواد” الرباعي الذي يجمع أميركا واليابان والهند وأوستراليا، وحلف “إيكواس” الذي يجمع واشنطن ولندن وكانبيرا.

إن إحتمال قيام “بريكس +” سيصعب على الولايات المتحدة عملية إحتواء الصين أو الحؤول دون المضي إلى عالم متعدد الأقطاب

وعلى الجبهة التجارية، لعبت الولايات المتحدة دوراً أساسياً في قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في هيروشيما الشهر الماضي، من أجل إتخاذ قرار يُلزم أعضاء المجموعة بـ”تنويع إقتصاداتها بحيث تُقلّل من الإعتماد على الصين”.

الرد الصيني-الروسي كان بالإنفتاح على 13 دولة لضمها إلى مجموعة “بريكس” في تقليد لتجربة “أوبيك+” التي تتحكم اليوم بـ60 في المئة من إنتاج النفط في العالم. وطبعاً، كانت عين أميركا على الإجتماع الوزاري الذي عقدته مجموعة “بريكس” مع الدول المرشحة للإنضمام إلى المجموعة في كيب تاون بجنوب أفريقيا الأسبوع الماضي. إن إحتمال قيام “بريكس +” سيصعب على الولايات المتحدة عملية إحتواء الصين أو الحؤول دون المضي إلى عالم متعدد الأقطاب.

كل هذه الأحداث تتسابق في نسق يزيد من التحديات أمام إدارة بايدن مع إقتراب حملات الإنتخابات الرئاسية لعام 2024، ويجعلها تسعى إلى فتح باب الديبلوماسية مع الصين، لتهدئة التوترات وسبر غور لقاء ولو إفتراضي بين بايدن وشي جين بينغ. وكأن العلاقات الأميركية-الصينية تحتاج إلى تطبيع ثان شبيه بما حدث قبل خمسة عقود من الزمن.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  محمود عباس.. باقٍ باقٍ!