فرنسا: مقتل الشاب “نائل” يُطلق “ثورة الضواحي”!

بعد ليلة رابعة من العنف وثلاثة أيام من الحراك تخللها نهب لمخازن وتكسير مطاعم وحرق سيارات، تتنفس فرنسا ببطء في عطلة نهاية الأسبوع وتنتظر لترى هل هي فترة استراحة قبل العودة للعنف أم تمهيد لتراجع الغضب الذي رمى "أولاد الضواحي" في الشوارع حيث راحوا يُعبّرون عن غضبهم لمقتل الشاب نائل المرزوقي (17 سنة) برصاص شرطي.

في عودة إلى مأساة مقتل نائل الشاب السائق من دون إجازة، يتبين أنه لو أطاع وتوقف لكان اليوم حياً يُرزق مع تنبيه من الشرطة ولربما غرامة بـ ١٨٠ يورو تدفعها عائلته، بالمقابل، لو تصرف الشرطي من دون أن يُطلق النار، لكان هو الآخر اليوم خارج السجن الإحتياطي.

حقيقتان لا يتم إخضاعهما إلى النقاش الرصين والموضوعي، لأننا نجد لُهاثاً إعلامياً وراء الخبر المثير بما يتجاوز هاتين الحقيقتين. هذا التجاوز اللامنطقي يُسعّر العنف ويستثير الغرائز الدفينة، سوسيولوجياً وسياسياً.. وكذلك عنصرياً.

في الواقع وفي عودة إلى تاريخ الدولة الفرنسية من عهد الملكية إلى عهد الجمهورية مروراً بعهد الثورة علينا أن نعترف بأنه توجد قواعد سيئة وهي أن الشرطة لا تحمي المواطنين في المقام الأول، فهي مكلفة حماية الدولة، أي حماية «النظام الجمهوري» في يومنا هذا. يزيد الطين بلة منطق الشرطة ومعها اليمين القائل إن «القوة القانونية هي على حق دائماً».. وأن الشرطة “مثالية” و”لا ترتكب أخطاء”!

ولكن هذه الحوادث تتكرر على فترات منتظمة في الضواحي الفرنسية؛ ففي العام الماضي حصلت ١٣ مأساة مشابهة: إطلاق الشرطة النار على أفراد بسبب عدم توقفهم (تكون عادة إما السيارات مسروقة أو يحمل الركاب مخدرات أو ممنوعات)، وهذه النسبة هي الأعلى في الإتحاد الأوروبي، وقد ندّدت منظمات حقوقية عالمية بهذا التوجه العنيف في معاملة الشرطة للأفراد في فرنسا، وبينها مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الذي دعا السلطات الفرنسية إلى التأكد من أن استخدام القوة من قبل الشرطة يحترم مبادئ حقوق المواطنين.

ومع مقتل الشاب نائل المرزوقي يتجدد الإنقسام بين من يُطالب بالمزيد من الحزم في تطبيق القانون (خطاب اليمين) وبين من يُطالب بعلاج جذور حراك “أولاد الضواحي” (خطاب اليسار).

وكما كان متوقعاً يتنافس اليمين واليمين المتطرف مع المقترحات الحازمة لاستعادة الهدوء. وهكذا، يتشارك إيريك سيوتي (الحزب الجمهوري) وإريك زمور (أقصى اليمين المتطرف) في طلب إعلان حالة الطوارئ. وهي آلية استعملت إبان الثورة الجزائرية، أو بعد هجمات ٢٠١٥ الإرهابية. ولكن أيضاً أثناء أحداث الشغب في العام ٢٠٠٥ في عهد جاك شيراك. وبما أن الضواحي في مقدمة المسيرات العنيفة فإن العنصرية تكون دائماً حاضرة وخفية في آن واحد وراء تصريحات اليمين الفرنسي.

من الصعب جداً العودة إلى أصول العنف التي تحرك الضواحي وبالطبع ليست ديانة السكان الذين باتوا فرنسيين من الجيلين الثاني أو الثالث، ولكن الظروف الاقتصادية والإجتماعية وعجز الدولة عن تأمين القدر البسيط من حلول اجتماعية وتربوية إضافة إلى الأزمة الغذائية التي تصيب الطبقات الشعبية هي المسؤولة

الولوج في مسألة العنصرية ينعكس على مواقف كل المكونات السياسية الفرنسية. بالطبع، لا يرى اليمين أي بعد عنصري في ما تقوم به قوات حفظ الأمن. ثمة يمين وسطي (الحزب الجمهوري) ويمين متطرف (حزب مارين لوبن) يرى أن الهجرة والمهاجرين هم أصل البلاء وأن تهاون الحكومات المتعاقبة مع قضية طرد المهاجرين هو العامل الذي ينعكس عنفاً في الضواحي وفي شوارع المدن حالياً.

وتدل مارين لوبن ومعها إريك زمور (المتطرف) على أن ما يحصل هو تماماً ما تنبأ به اليمين من «حرب ثقافية حضارية» ويذهب زمور بعيداً بالحديث عن «توجه نحو استبدال العنصر الفرنسي بالعنصر المهاجر”، وهو يقصد بذلك المسلمين.

بالمقابل، فإن المعارضة اليسارية أي «فرنسا المتمردة» (LFI) زعيمها جان لوك ميلانشون والحزب الشيوعي والخضر الذين يشار إليهم بـ «تجمع NUPES» فلهم مواقف متقاربة ومتباعدة في آن واحد، وهنا تجدر الإشارة إلى أن موقف “فرنسا المتمردة” لا يشترك فيه كل أعضاء التجمع المذكور برغم المقاربة السياسية المشتركة لأصول «مرض المجتمع الفرنسي».

وللسكرتير الأول في الحزب الاشتراكي أوليفييه فور، مواقف مختلفة تماماً في الرد على العنف، وهو ما يفسرّه البعض بأن الحزب الاشتراكي «كان حزباً حاكماً» سابقاً. ويقول فور «يجب سماع الغضب إذ لجميع الأطفال في الجمهورية الحق في العدالة”. أما الخضر فقد حثّوا على الهدوء، وناشدت نائبة عنهم في مقطع فيديو والدة نائل الشاب المقتول قائلة «دعونا نتأكد من عدم وجود عنف»، وشدّدت على أن الشرطي “سيُحاكم”.

مقاربة تبناها السكرتير الوطني للحزب الشيوعي فابيان روسيل، مشدداً على أن العنف «لا يفيد كفاحنا من أجل الحقيقة والعدالة». وأضاف أن مثل هذه الأحداث «تستخدم من قبل الرجعيين الذين يريدون اختزال الحياة في الضواحي والأحياء في مظاهر العنف فقط».

أما ميلانشون فقد صرّح مباشرة بعد إعلان الحادث أن الشرطة «لا تخضع لسيطرة السلطة».

وكان ميلانشون قد عبّر عن استيائه من خلال منصة “تويتر” قائلاً: «عقوبة الإعدام لم تعد موجودة في فرنسا. لا يحق لأي ضابط شرطة أن يقتل إلا دفاعاً عن النفس». واستطرد بأن مؤسسة الأمن «يجب إصلاحها بالكامل». كما أنه طالب بالتوقف عن إحراق المدارس والمكتبات العامة والأندية الرياضية.

إقرأ على موقع 180  الحريري المستحيل صار سلسبيلاً.. "شو عدا ما بدا"؟

ومع ذلك، يدعو ميلانشون ـ ويوافقه الحزب الشيوعي الرأي ـ إلى «فتح نقاش عام للانخراط في سياسة تقدمية من أجل الهدوء العام مع قوة شرطة جمهورية قريبة من المواطنين، لخدمة توقعاتهم واحتياجاتهم».

وفي خضم هذه العاصفة، فإن الرئيس إيمانويل ماكرون يدعو لسيادة القانون الليبرالية، بعد أن كان قد أعرب عن تأثره لمقتل الشاب نائل بقوله إنه «تصرف غير مسؤول»، وهو ما استفز نقابات الشرطة. إلا أن ماكرون ساير مطالب ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي تتحدث عن «مسؤولية العائلات وأهل» الذين ينزلون في مظاهرات الشغب إذ أن عدداً كبيراً منهم أعمارهم بين ١٢ و١٥ عاماً.. فيما لوّحت مصادر قضائية بملاحقة أهالي مثيري العنف وناهبي المخازن.

من الصعب جداً العودة إلى أصول العنف التي تحرك الضواحي وبالطبع ليست ديانة السكان الذين باتوا فرنسيين من الجيلين الثاني أو الثالث، ولكن الظروف الاقتصادية والإجتماعية وعجز الدولة عن تأمين القدر البسيط من حلول اجتماعية وتربوية إضافة إلى الأزمة الغذائية التي تصيب الطبقات الشعبية هي المسؤولة، وفق الدراسات التي تصدر عن مراكز علمية. ولكن رغبة ماكرون في كسب ود اليمين حتى يسند أغلبية حزبه النسبية، تجعله يقفز عن هذه الإشعارات ويبتعد عن الوسط وهو ما يهدّد حكومته إذ أن رئيسة الحكومة إليزابيت بورن الآتية من اليسار (كانت رئيسة ديوان المرشحة اليسارية سيغولين رويال) تحاول قدر الإمكان الإمساك بالعصا من الوسط للمحافظة على الوزراء الآتين من اليسار!.

يريد البعض أن تنتهي “حادثة نائل” بمعاقبة ضابط أو شرطي، بدل البحث عن جذور مشكلة باتت موضع شكوى في المنابر الحقوقية الفرنسية والأوروبية والدولية. ويُعيدنا ذلك إلى بيان مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي رأى أن الاضطرابات الحالية في فرنسا “تمثل فرصة للبلاد لمعالجة الجذور العميقة للعنصرية والتمييز العنصري في تطبيق القانون”.

Print Friendly, PDF & Email
بسّام خالد الطيّارة

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في فرنسا

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لا يمكن لسلطة أبو مازن أن تواصل هذا التوازن المثير للسخرية