مصر من “السلطنة” إلى الحماية الفرنسية والبريطانية

عبر تاريخ مصر الحديث كان ــ ولا يزال ــ هناك جدل حول مدى ارتباط السياسة الداخلية المصرية بالقوى الكبرى والسياسة الدولية. فمصر منذ تحديث محمد على باشا كانت دائما محط أنظار القوى الأوروبية، وبعد مشروع قناة السويس، ازداد الارتباط المصرى بالقوى العظمى وبقدر ما كان لهذا من إيجابيات، كان له العديد من السلبيات أيضا!

مع مطلع القرن العشرين فإن الجولات التى قام بها مصطفى كامل فى أوروبا من أجل الترويج للمسألة المصرية كاشفة عن هذه المسألة الجدلية، حيث إن مثل هذه الجولات بقدر ما خلقت تعاطفا فى بعض أوساط المثقفين فى أوروبا فإن هذا التعاطف ظل نخبويا والأهم إنه لم ينعكس على سياسات الدول الأوروبية، حيث تمكنت بريطانيا بثقلها أن تجبر أوروبا على الاعتراف بالأمر الواقع فى مصر!
تجددت هذه الجدلية مرة أخرى مع ثورة 1919، وخاصة وأن أول ما قام به الوفد المصرى الذى تألف بزعامة سعد زغلول ــ بعد اضطرار بريطانيا إنهاء نفى زغلول فى مالطا تحت الضغوط الشعبية التى نتجت عن ثورة 1919 ــ كان التوجه إلى مؤتمر الصلح فى باريس بحثا عن اعتراف دولى باستقلال مصر وإنهاء الحماية البريطانية!

***

قبل مؤتمر الصلح بأقل من عام كان ودرو ويلسون الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة ذائع الصيت فى المحافل الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. فويلسون الذى كان أستاذا للعلوم السياسية فى جامعة برينستون أعلن دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى فى 1917، وبعد الحرب فقد نادى بمبادئه الأربعة عشر لإقرار ما أسماه السلم والديمقراطية فى العالم، وما أصبح يطلق عليه حق تقرير المصير!
تركزت معظم نقاط ويلسون على تخفيض التسلح وحقوق الاستقلال والسيادة لبعض الدول ومنها روسيا وبلجيكا وفرنسا وصربيا ورومانيا والجبل الأسود، وإلغاء الحواجز الاقتصادية، وإنشاء عصبة الأمم كأول تنظيم دولى عالمي!

ذاع صيت هذه المبادئ فى العالم بأثره خاصة وأنها جاءت من قوة صاعدة على الساحة الدولية وفى وقت تعانى فيه أوروبا من آثار الحرب العالمية الأولى المدمرة، كما أنها شكلت بعض الآمال لشعوب دول العالم الثالث ومنها مصر للحصول على الاستقلال بحسب بعض المؤرخين!

***

تكون الوفد المصرى من عدد من الزعماء أهمهم سعد زغلول ورفاقه الذين تم نفيهم فى مالطا وقد تقرر أيضا أن يكون هناك تمثيل لبعض أعضاء الحزب الوطنى من أجل التوازن فى تمثيل التيارات السياسية المصرية ولتقدير دور الحزب الوطنى فى الكفاح ضد الاستعمار وهو الحزب الذى أصبح رئيسه محمد فريد منفيا فى أوروبا، ولكن حدثت خلافات كبيرة بين حزبى الوفد والوطنى حول من يمثل الأخير فقرر الوفد فى النهاية اختيار بعض الأسماء التى تمثل مبادئ الحزب الوطنى مثل مصطفى النحاس وحافظ عفيفى ثم اختار آخرين للانضمام إلى الوفد لتمثيل كل طبقات وتيارات الأمة مثل سنيوت حنا وچورج خياط وواصف غالى (لمزيد من التفاصيل حول تشكيل الوفد وطريقة واعتبارات الاختيار وبيان الحزب الوطنى إلى مؤتمر الصلح يمكن مراجعة كتاب ثورة 1919: تاريخ مصر القومى من 1914 إلى 1921 لعبدالرحمن الرافعى الصادر عن دار المعارف عام 1987 الصفحات من 147 إلى 151).

فور وصول الوفد إلى باريس فقد تعرض لصدمة كبرى، حيث أعلن ويلسون حتى قبل أن يصل الوفد إلى فرنسا اعترافه بالحماية البريطانية على مصر، بينما لم تعر باقى الوفود المشاركة للوفد المصرى اهتماما يذكر

كان رهان الوفد المصرى على الولايات المتحدة الأمريكية تأثرا بإعلان ويلسون لمبادئه، ولذلك قسم الوفد نفسه فى باريس إلى ثلاث لجان، لجنة سياسية تكون مهمتها الرئيسية التفاوض والضغط على الوفود المشاركة ولاسيما وفد الولايات المتحدة، لجنة للدعاية والنشر تتولى التواصل مع الصحافة والرأى العام الأوروبى والأمريكى، ثم لجنة ثالثة للحفلات والسهرات للترويج للموقف المصرى بين الوفود المشاركة (للمزيد من التفاصيل عن تشكيل ومهام اللجان يمكن مراجعة كتاب دراسات فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر للدكتور عمر عبدالعزيز والصادر عن دار المعرفة الجامعية بالإسكندرية عام 1989 الصفحات من 444 إلى 446).
وبرغم هذا التنظيم والحماس إلا أنه فور وصول الوفد إلى باريس فقد تعرض لصدمة كبرى، حيث أعلن ويلسون حتى قبل أن يصل الوفد إلى فرنسا اعترافه بالحماية البريطانية على مصر، بينما لم تعر باقى الوفود المشاركة للوفد المصرى اهتماما يذكر! ففشلت بذلك مهمة الوفد قبل أن تبدأ! وهنا لا بد من وقفة، فبعض المؤرخين مثل الرافعى وعمر عبدالعزيز ذهبوا مذاهب شتى فى تفسير موقف ويلسون المتناقض مع إعلانه العالمى، فقيل فى تفسير الموقف مثلا أن الولايات المتحدة خطبت ود إنجلترا؛ لأنها كانت حليفة لليابان التى كانت تخشاها، قيل أيضا أن السبب ربما يكون عدم قدرة ويلسون على إغضاب إنجلترا؛ لأن الأخيرة ربما أقرب ثقافيا والأهم أنها قادرة على كبح جماح فرنسا التى كانت تخشاها الولايات المتحدة أيضا، وقيل إن ويلسون لم يشأ إغضاب المزيد من الوفود الأوروبية، وبالتالى الانعزال فى المؤتمر خاصة وأن الوفد الإيطالى انسحب من باريس وعاد إلى بلده إثر معارضة ويلسون مطامع إيطاليا الاستعمارية، وقيل إن ويلسون كان واقعا تحت نفوذ لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا، وأن الأخير ربما نقل له صورة مغلوطة عما يحدث فى مصر وغيرها الكثير من التفسيرات!

إقرأ على موقع 180  «سيادة القانون» في أمريكا.. بخطر

***

الحقيقة أن إعادة النظر فى مبادئ ويلسون تؤكد أنه لم يكن يرى فى العالم الخارجى سوى القوى الأوروبية، وأن إعلانه كان بالأساس موجها إلى أوروبا من أجل استقرارها باعتبار أن استقرار أوروبا كان يعنى استقرار العالم، كذلك حينما تحدث ويلسون عن ترسيم الحدود والسيادة فإنه ركز فى معظم نقاطه على الدول الأوروبية فقط، ولم يكن هناك سوى مبدأ واحد يتعلق بالدولة العثمانية يعطى فيها حق تقرير المصير للقوميات غير التركية!

وحتى المبدأ الخامس وهو الوحيد المتعلق بوضع إدارة عادلة للمستعمرات والمساواة بين حكومات هذه المستعمرات وبين مستعمريهم وهو المبدأ الذى يعتمده كثيرون باعتباره «حق تقرير المصير»، يرى بعض المؤرخين أنه لم يكن سوى وعد زائف! على سبيل المثال وفى النشرة الإخبارية لموقع «جايستور Jstor» نشر المحلل والمتخصص فى علم المكتبات ماثيو ويل فى 15 يناير/ كانون الثاني 2019 تحليلا للمؤرخ والمحاضر بجامعة هارفارد تريجيف ثرونتفيت بعنوان «أسطورة الأربع عشرة نقطة»، يرى فيها أن ويلسون لم يكن يعنيه مبدأ حق تقرير المصير، وأن نقاشات ويلسون مع مساعديه تكشف ارتباكه الشديد بشأن المصطلح، وخاصة أن خطبة المبادئ المعلنة لم يرد فيها كلمة «تقرير المصير» من الأصل! وينتهى التحليل بأن ويلسون كان يبحث لنفسه فقط عن المجد!
الحقيقة أيا كان الأمر، فإن الولايات المتحدة لم تنضم أصلا إلى عصبة الأمم التى دعا ويلسون إلى إنشائها، والأهم أن حق تقرير المصير المزعوم والذى نادى فى إحدى نقاطه إلى ما كان يعتقد أنه حق تقرير المصير لرعايا الدولة العثمانية من غير الأتراك (منهم العرب مثلا)، فقد انتهى به الأمر أن هذه الشعوب العربية بعد انفصالها عن الدولة العثمانية وقعت على الفور تحت الحماية الفرنسية والبريطانية!
هل نخلص من هذا أن مثل هذه الجهود المصرية لربط الداخل بالخارج كانت فى مجملها بلا فائدة؟ الحقيقة أن هذه الخلاصة ربما تكون غير دقيقة، فبعض المفكرين ومنهم مثلا الدكتور أبوالغار الذى حلل فى كتابه «أمريكا وثورة 1919 سراب وعد ويلسون»، والصادر عن دار نشر الشروق فى 2019 وثائق تخص تفاصيل تحركات الوفد المصرى فى باريس، ثم لاحقا محاولات الوفد الضغط على مجلس الشيوخ الأمريكى للترويج لحق مصر فى الاستقلال وإن لم تغير من الموقف الأمريكى تجاه مصر، ولكنها خلقت وعيا وتعاطفا بين أعضاء مجلس الشيوخ بخصوص المسألة المصرية استفادت منها مصر لاحقا!

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  تعمّدتْ بالدم.. إلى روح المطران كبوجي