تلقيت الفقرة السابقة ضمن رسالة من صديق يعيش في الخارج. صديقي مطلع على أحوال الأمريكيتين ومتعمق في تفاصيل قضاياهما وخلفياتهما. أشهد له أنه في كل رسائله الإعلامية ومقالاته الأكاديمية يلتزم الدقة والموضوعية. لم ألاحظ عليه ميلاً للمبالغة ولا استعداداً للتشاؤم. لم أعرفه مزاجياً أو متقلباً في مواقفه. كاتب ومحلل سياسي طيب المعشر واسع الاتصالات. عاش معظم حياته قريباً ومقرباً من مختلف تيارات الوسط في بلده وكان واقعياً في نظرته للسياسة في بعديها الداخلي والخارجي.
***
قرأت رسالته مرات قبل أن أرد عليها. خيّل إليّ وأنا أقرأها أنه كمن رأى رجلاً دائب التنقل بين دولة وأخرى يصف ما يراه. وليس كل ما رآه كان على ما يرام. لم تفلت من تفاصيل الهموم في رسالته دولة صغيرة أو كبيرة. يمشي مخلفاً في ركابه عالم يتهاوى ومصائب تتوالى.
مرشح رئاسة جمهورية في دولة لاتينية تقتله رصاصات من مجهول. عصابات تتجمع في دولة لاتينية أخرى وتحتل أراضٍ شاسعة وتقيم حواجز فشلت دبابات جيش الحكومة في إزالتها. ثلاثة أجيال من شعب كوبا ترث الحصار الأمريكي ولا وعد بقرب نهايته. شعب فنزويلا يعاني قسوة الفقر والمرض والاستبداد في ظل نظام عقوبات تفرضه الدولة الأعظم عليها كما تفرضه على دول أخرى عديدة عصت أو أخطأت أو حتى تردّدت.
في أقصى الشمال تواجه كندا أشد حريق غابات عرفته في تاريخها عبّأت لإخماده قواتها المسلحة في وقت تتعرض وحدتها الوطنية لأخطار انقسام خطير حول قرار سحب حق الآباء والأمهات تنشئة الأطفال وتربيتهم على أسس سليمة، ليصير الحق في أيدي فصيل منشق عن التقاليد الموروثة ومقتنع بأفكار ما تزال محل رفض واسع من شعب أو شعوب كندا.
لا مبالغة في القول أن النظام القومي العربي يمر بأهم وأخطر مراحل تطوره. للمرة الأولى في تاريخه يتعرض هذا النظام لمواجهة حقيقية مع بدائل متعددة صارت تطرح وتناقش في دوائر صنع القرار في دول عربية لها نفوذ وسلطان
إلى الجنوب من كولومبيا البريطانية تحترق غابات في ولاية واشنطن، أما أبشع الحرائق فمشتعلة في جنوب كاليفورنيا الولاية – الدولة في اتساعها ورخائها وحجم ناتجها. الخسائر باهظة في وقت زادت وتعالت أصوات الاحتجاج على ما يذهب إلى أوكرانيا من أموال وفوائض سلاح وذخائر. ليست أوكرانيا السبب الوحيد للنزيف الذي يتعرض له الاقتصاد الأمريكي. معروف أن آخر ميزانية تسلح قبل نشوب حرب أوكرانيا تجاوزت جميع أرقام الميزانيات السابقة.
***
ننسى أحياناً في تحليلاتنا السياسية لحال العالم أن أمريكا مشتبكة حالياً في حرب عالمية لا تختلف عن الحربين السابقتين إلا في أن الجنود الأمريكيين لا يشاركون في القتال الدائر على الأرض الأوكرانية وفي السماوات الروسية. حرب أوكرانيا عالمية بحساب مساحة الحلف الأمريكي المحتشد لدعم أوكرانيا وحجم الأسلحة الثقيلة والذخائر المستهلكة في الحرب والدعم المالي لأوكرانيا وبعضه باعتراف رئيسها فولوديمير زيلينسكي يتسرب إلى جيوب نخبة تحكم.
***
جيلنا الذي لم يشهد على أفعال النازيين عند غزوهم روسيا وأوكرانيا وبعضه لم يشهد على أفعال الجنود السوفييت في ألمانيا الشيوعية وغيرها من دول أوروبا الشرقية، هذا الجيل شاهد على وصول الروس إلى القمر والنزول إليه وعلى دور الاتحاد السوفييتي في تمويل وبناء السد العالي في مصر، هذا الجيل نفسه يقف اليوم شاهداً على تنفيذ مرتبك لخطة عسكرية روسية تحت اسم “عملية خاصة في أوكرانيا”، وعلى مسيرات معادية تطير فوق أسطح الكرملين وتسقط عليها متفجرات، نعم هذا الجيل عاش ليرى جنرالات وجنود من الروس يتمردون ويتحركون في اتجاه موسكو والحرب دائرة في مواقع أخرى. هذا الجيل شاهد على صعود دولة عظمي وعاش ليشهد على انحدارها.
***
هناك في الشرق الأقصى عادت اليابان لتتسلح بتشجيع من أمريكا وكان أول ضحايا هذا البرنامج رئيس وزرائها شينزو آبي الذي قتلته رصاصة من ناشط ينتمي لتيار مناهض للتسلح. ثم كانت الخطوة التالية وهي إقامة حلف عسكري ثلاثي يضم كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة، الهدف حلف على نمط حلف الأطلسي لغرض الإحاطة بالصين تمهيداً لحرب باردة ثانية. المثير في الموضوع أن الحلف يجمع بين عدوين لدودين أحدهما كوريا الجنوبية التي تكره اليابان أكثر من كراهيتها للصين.
***
هنا في إفريقيا يتعذر تبسيط العرض. نحن هنا أمام محاولة إعادة السباق الاستعماري الغربي على إفريقيا. تحدث الإعادة ولكن في مواجهة مقاومة من جيوش أهّلتها ودرّبتها القوى الأوروبية التي هيّمنت على القارة. عبّرت الجيوش عن رأيها في عودة الاستعمار بسلسلة من الإنقلابات العسكرية. التعبير منقول عن سلسلة الإنقلابات التي وقعت في أمريكا اللاتينية أكثرها بإرادة المهيمن الأمريكي وبعضها ضده. تحدث الآن في إفريقيا في حضور قوي من ميليشيا روسية يقودها “فاجنر” بتكليف جديد من الرئيس فلاديمير بوتين. تحدث كذلك في وجود أمريكا، القوة التي لم تكن مهتمة بإفريقيا في ذلك الحين، أقصد في نهاية القرن التاسع عشر. وهي الآن مهتمة ولن تدع الأوروبيين ينفردون بالقارة كما فعلوا من قبل. حتى الصين، وقد صارت لها استثمارات في بنى إفريقيا التحتية، أقدمت من جديد كما فعلت روسيا وأمريكا، على تثبيت دعائم وجودها في القارة السمراء. حقيقة حاولت وفشلت في أن أّتذكر عدد وتواريخ مؤتمرات القمة التي عقدت مع القادة الأفارقة خلال العام الأخير وحده. عقدت في روسيا وفي الصين ومن قبلهما أو بالتزامن معهما في واشنطن.
***
من إفريقيا والشرق الأوسط وغيرهما نزوح غير مسبوق من دول تسعى للانضمام إلى الدول الخمس المؤسسة لمجموعة “بريكس”. أقارن بين حماسة هذه الدول الآن والفتور الذي قوبل به عرض الانضمام عند التأسيس قبل حوالي عشرين عاماً. تكشف المقارنة عن أمر واحد على الأقل وهو الانحدار الذي تدنت إليه مكانة الغرب خلال العشرين عاماً وصعود مشاعر الاحتجاج ضده في معظم عواصم آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. يحدث هذا في غياب أمل مؤكد في أوضاع أفضل لهذه الدول الراغبة في الانضمام لو تحققت لها هذه الرغبة، يغيب الأمل لأن روسيا ليست في أحسن عهودها والصين غير مستعدة في الحاضر والمستقبل القريب لتحمل كافة مسئوليات القطب الأعظم وأمريكا تحشد حلفاءها لإحكام الحصار على المجموعة بأسرها.
***
أخشى على البشرية ألا تفلت من أخطار ناجمة عن الفوضى والتهور والجشع والعجز عن صد الأوبئة الفتاكة والفيضانات والحرائق والجوع، لن تفلت إلا إذا توصلت القوى الكبرى الراهنة والصاعدة إلى صيغة تفاهم ومؤسسات دولية وقواعد عمل تحل وبسرعة محل نظام الهيمنة
لا تغيب عن البال الحال الراهنة للأمة العربية. لا مبالغة في القول أن النظام القومي العربي يمر بأهم وأخطر مراحل تطوره. للمرة الأولى في تاريخه يتعرض هذا النظام لمواجهة حقيقية مع بدائل متعددة صارت تطرح وتناقش في دوائر صنع القرار في دول عربية لها نفوذ وسلطان. جدير بالذكر والاهتمام أن بعض دول الجوار انتهزت فرصة التردد والتغيير في داخل النظام العربي وفي النظام الدولي بخاصة لتحقق رؤاها وأحلامها. غير خافٍ ولا مستتر الجهد الأمريكي المبذول لصالح تحقيق بعض هذه الرؤى أو على الأقل السكوت عن اختراقات عديدة أجرتها دول في الجوار، وما زالت تجريها، حتى صارت تهيمن على إرادة ووحدة دول عربية غير قليلة العدد. غير خافٍ أيضاً ولا مستتر الحال المتدهورة للأمن القومي العربي وبخاصة أمن وسلامة دول الأطراف مثل سوريا والعراق ولبنان والسودان واليمن وليبيا وفي الوقت نفسه استمرار تدهور حال التكامل الاقتصادي العربي. غير خافٍ أيضاً ولا مستتر التركيز الأمريكي للنفاذ إلى مراكز صنع القرار في المملكة العربية السعودية للتأثير في رؤاها حول مستقبل النظام العربي وبخاصة وفوراً الموقف من القضية الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل.
***
هيّمنت أمريكا وفي ظل هيمنتها تضررت دول وتدهورت أحوال أمم وتفرقت شعوب وفرضت على الشرق الأوسط وربما على العالم بأسره دولة إسرائيل نموذجاً في الهيمنة الإقليمية والتفوق العنصري وسيادة الرجل الأبيض. لكن يجب الاعتراف بأنها، وأقصد أمريكا، كانت سداً منيعاً ضد طوفان الفوضى الشاملة في العالم. هذا السد يتهاوى برغم محاولات أمريكية مستمرة ومتواصلة لتعزيز الهيمنة بإقامة شبكة أحلاف والعودة لتعزيز وزيادة عدد القواعد العسكرية الأمريكية في الخارج. تحاول أيضاً إضعاف نفوذ دول بعينها وإن كانت حليفة كما سبق وفعلت مع بريطانيا العظمى بعد الحرب العالمية الثانية، وتحاول تعبئة كل الطاقات والسياسات الكفيلة باستدراج الصين إلى مواجهة مبكرة قبل أن تكتمل مكونات القطبية لدى الصين ومكونات نشأة نظام دولي جديد.
***
مرحلة فاصلة تلك التي نعيشها. وككل المراحل الفاصلة في تاريخ العالم منذ عصور شهدت صعود وانحدار إمبراطوريات الإغريق والفراعنة والرومان والأمويين والمغول وبريطانيا العظمى، أخشى على البشرية ألا تفلت من أخطار ناجمة عن الفوضى والتهور والجشع والعجز عن صد الأوبئة الفتاكة والفيضانات والحرائق والجوع، لن تفلت إلا إذا توصلت القوى الكبرى الراهنة والصاعدة إلى صيغة تفاهم ومؤسسات دولية وقواعد عمل تحل وبسرعة محل نظام الهيمنة الذي فرضته أمريكا وكاد يعلن عن فشله.