عندما يُشير الأدب إلى النفاق والفساد والفقر والظلم، وتغير مدارك واتجاهات الأفراد والجماعات حول فكرة المجتمع، وتطلعهم للهجرة، وتخليهم عن الشأن العام، وتحولهم إلى كائنات تبحث عن الخلاص الفردي، بشتى الطرق، سواء بالهجرة أو الاستسلام، أو المقاومة السلبية، أو النفاق إلخ.. فهذا بمثابة تبليغ لفواعل الفكر والثقافة والاجتماع والسياسة من أجل أن يفعلوا ما يجب فعله، وتدبير استجابات مناسبة حيال الواقع.
وهكذا، فالأدب ليس مجرد نذير، إنما هو يدفع نحو القيم والاستجابات المناسبة، وهو إذ يكشف عن الخطأ، فهو يُخاطب بداهة الصواب، وعندما يُحيل إلى قيم النفاق، فهو يُخاطب بداهة الصدق، وعندما يتحدث عن الفساد والظلم والفقر واختلال توزيع الموارد والثروات، فهو يخاطب بداهة السياسة وتدبير المصلحة العامة، وحراس المجتمع والدولة، بالأحرى هو يخاطب روح المجتمع، التي يفترض أن تتوثب فواعلها للقيام بما يلزم لإعادة التوازن للمجتمع.
يفترض بالأدب أن يدفع للتغيير، وقد كان كذلك بالفعل، لكنه تحوّل بالتدريج إلى آلية للتحايل على الأفراد والمجتمعات. أصبح الأدب غارقاً في سوق الإنتاج والاستهلاك، يريد المزيد من الترويج والجذب، ويريد “التعبير” وليس “التغيير” الاجتماعي، أو أن فواعل السياسة تمكنوا من إبطال مفاعيل الأدب، وإغراقه في سوق الريع والتسلية.
من الأمور الملغزة، أن الفساد لا يُفسد للانتماء والوطنية أمراً، فأنت تستطيع أن تكون مسؤولاً فاسداً، ووطنياً في آن. كما لو أن الفساد لا يُمثل مصدر تهديد للمجتمع والدولة، بل شطارة وفهلوية، وأحياناً ما يكون “شرطاً شارطاً” لتولي مواقع المسؤولية
لم يعد الأدب قادراً على الفعل في الاجتماع والسياسة، أو أنه أقل تأثيراً، إذ ثمة وسائل ووسائط أكثر حضوراً وتأثيراً، كان نصٌ مسرحيٌ قادراً على هز مجتمع بأكمله، أو هز فواعل الفكر والسياسة فيه، وبالتالي تحريك مدارك تهديد عالية لدى صُنّاع السياسة.
نص مثل “أهمية أن تكون جادا” لـ أوسكار وايلد، كان – مع عوامل أخرى – سبباً في إيداع الرجل السجن. لماذا؟ النص كان صادماً لقيم النفاق في المجتمع. نص يتحدث عن تمزق “روح الإنسان” في فترة صعود الرأسمالية، وكان جزءاً من أفكار ثورية تحوم فوق أوروبا، تبين لاحقاً أنها “شبح الشيوعية” التي تحدث عنها بيان ماركس وأنجلز.
لا نذهب بعيداً في المكان والزمان لقلة في الأمثلة في عالمنا العربي وزماننا الراهن. عندنا الكثير، نصوص روائية وشعر ونثر ومسرح، وثمة الكثير مما يُعرف بـ”أدب السجون”، لكن كل هذا لم يعد شغّالاً بالتمام، كما لو أن قيمة الأدب تغيّرت، أو تغيّرت مداخل التعبير والتغيير الإجتماعي.
المشكلة هي في أن فواعل السياسة و”أجهزتهم الإيديولوجية” يعدون كل تلك التنبيهات، إما صادرة عن أشخاص “علاكين”، يجب إسكاتهم بالإغواء والإرضاء، أو بدفعهم لتغيير النمط والبحث عن “شواغل فردية”؛ أو عن معارضين يجب إسكاتهم بالترهيب والعقاب. اللعبة الخطيرة هي في عد النقد الذي يمارسه الأدب نوعاً من “التنفيس” و”التفريغ” لأي احتقان قائم أو محتمل، وليصبح النقد ظاهرة للفرجة والإمتاع والمؤانسة.
إذا تقصينا المنتج الثقافي والإبداعي في سوريا قبل الحرب، مثل القصة والمسرح والرواية والدراما الإذاعية والتلفزيونية والسينما وغيرها، أمكن ملاحظة مؤشرات وتنبيهات متزايدة عن اختلالات متراكمة ومتفاقمة في المجتمع والدولة، وتحولات القيم حول كل شيء في الظاهرة السورية اليوم. المثير للإهتمام، وربما المثير للحيرة، أن ذلك لم يُدفع أو لم يُحفّز أي استجابات مناسبة، ولم تتحول الإشارات والتنبيهات إلى خطط استجابة وسياسات عملية.
قال الأدب كل شيء ممكن؛ تحدث عن أن النفاق والفساد والإغتراب والشعور بالعجز، يُدمّر حياة الأفراد والمجتمع، ويدفع نحو قيم أنوية حادة، و”رب أسألك نفسي”، وقيم التخلي والهروب والتملص من الشأن العام، والاندفاع نحو الهجرة.
ومن مؤشرات تفاقم الإحباط أن القيم العامة أصابها تدمير شبه شامل تقريباً؛ لم يعد الفساد أمراً سلبياً، بل حاجة ومطلباً. يتندر البعض بالقول: “لا أريد محاربة الفساد، بل أريد حصتي منه”. ومن التندر أيضاً، أن يقول قائل: “لم أعد أسمع أحداً يسأل إلى أين نحن ذاهبون، يبدو أننا وصلنا”!
من الأمور الملغزة، أن الفساد لا يُفسد للانتماء والوطنية أمراً، فأنت تستطيع أن تكون مسؤولاً فاسداً، ووطنياً في آن. كما لو أن الفساد لا يُمثل مصدر تهديد للمجتمع والدولة، بل شطارة وفهلوية، وأحياناً ما يكون “شرطاً شارطاً” لتولي مواقع المسؤولية.
حدث نوع من السيولة في القيم؛ الكثير من التدين، مع الكثير من الفساد، سائق “التاكسي” يُشغِّل الراديو على خطب ومواعظ دينية، ولا يُشغّل العدّاد، ويتحايل ليأخذ أكثر من المُستحِق. الموظف ينقطع عن العمل ولا يقطع الصلاة، جاعلاً المراجعين ينتظرون، لكن الصلاة لا تمنعه عن الرشوة، بل لعل التمظهر بالتدين، يُمثل مدخلاً للإدعاء والإبتزاز وأحياناً ترهيب المُتعاملين. كثرة الجوامع والكنائس ودور العبادة، يرافقها انحطاط قيمي وأخلاقي. أمور مريعة بالفعل.
لكن الأدب لا يستقيل من مهامه، ثمة ما لا يمكن التخلي عنه، وفي كل زمان ومكان تجد نصوصاً من الرواية والقصة الشعر والمسرح وغيرها، تتحدث عما يجب التحدث عنه في المجتمع، مع أن ديناميات التأثير تغيرت كثيراً، وبات عالم اليوم مختلفاً.
إن نظرة إلى أدب الاحتجاج والصراع في سوريا اليوم يجعلك في ريب وخوف مما تقرأ، فقد صدرت خمسون رواية عن الحرب السورية خلال الخمس سنوات الأولى منها، عدا عن النصوص المسرحية والأفلام السينمائية والأعمال الفنية المختلفة. رقمٌ قياسيٌ، واستجابةٌ نصيةٌ قياسيةٌ، قل: “حرب نصية”، ذلك أن الكثير من النصوص أُنتج بوصفه جزءاً من الصراع والحرب؛ استمرار لهما، وإن بأشكال أخرى؛ ومنها ما كُتبَ بتأثير حالة الاصطفاف والانقسام الحاد في الصراع، وأحياناً بتأثير الحاجة للريع المادي. إنها “نصوص ريعية” بامتياز. وهذا لا يُقلّل من القيمة الإبداعية لعدد غير قليل منها.
عودة إلى أوسكار وايلد، يقول بطل مسرحية “أهمية أن تكون جاداً”: “أيها السادة خبرتي في الحياة علمتني أن تحريف الحقائق، أكثر ضرراً من طمسها”. يكتب وايلد في مقدمة المسرحية: “أنا أكره السياسيين الذين يُخادعون في نقل الحقيقة”. والواقع أن أسوأ أنواع الكُتّاب هو من يدعي “تمثيل” الناس والواقع، وأسوأ أنواع السياسيين هو من يدعي “تمثيل الشعب”.
الناس يقبلون أن يخاطَ الفسادَ شيءٌ من النزاهة والصدق، والضعفَ شيءٌ من القوة، والتخلي شيءٌ من الإنتماء، واللامبالاة والعبثية شيءٌ من الجدية. وفي حالة الحرب، فإن المتطلب الرئيس هو أن يكون السياسي جاداً وأن يحاول فعل شيء ما
ثقافتنا في هذا المشرق الجميل تميل لـ”تفهم” السياسي إذا أخفق. المهم أن يكون قادراً على مراجعة سياساته وتجديد إدارته وتطوير أدواته، وبالطبع تجديد مقبوليته. أما سقف المطالب الإجتماعية فهو ضعيف إلى متوسط، بل هو بالأحرى متوسط إلى ضعيف، وقد يكون ضعيفاً جداً، كما يظهر من أحوالنا اليوم. أقصى ما يطلبه الناس هو قدر من الاهتمام والصدق في تدبير احتياجاتهم الأساسية، ما أمكن منها، بالقدر الذي يجعل الحياة.. ممكنة!
والناس يقبلون أن يخاطَ الفسادَ شيءٌ من النزاهة والصدق، والضعفَ شيءٌ من القوة، والتخلي شيءٌ من الإنتماء، واللامبالاة والعبثية شيءٌ من الجدية. وفي حالة الحرب، فإن المتطلب الرئيس هو أن يكون السياسي جاداً وأن يحاول فعل شيء ما.
عودةٌ أُخرى إلى بطل مسرحية وايلد، الذي يخاطب أحد السياسيين قائلاً: “يا سيدي متى تكون جاداً، ألا تدري أن الخديعة شقيقة الجهل، والاثنتان تؤديان إلى طريق واحد: موت المستقبل.. وضياع الحاضر”!