معنى أن يُثبِت إردوغان “فلسطينيته” لا.. شعبويته!

لطالما تمكن بعض الحكام والزّعماء العرب والمسلمين، من امتصاص نقمة الجماهير وغضبها، من خلال مسرحيّات خطابيّة ليست فقط خارج أي تأثير أو فعل، بل على العكس، كانت تَسْتر السلوك الشائن والخائن لهؤلاء تجاه القضيّة الفلسطينيّة.

لنأخذ تركيا التي يقودها حزب العدالة والتنمية مثالًا. ما هو موقع القضية الفلسطينيّة في سياستها الخارجية؟ ماذا قدّم حزب العدالة والتنمية لفلسطين، وماذا حصد منها؟ لنفترض أنّ المقاومة في غزّة اليوم – لا قدّر الله – هُزمت، ما الذي سيتغيّر في المشروع السياسي لحزب العدالة والتنمية؟ ما الذي سيخسره؟ هل سيضعف دور تركيا ويتأثّر سلبًا، أم ستكون كصخرة أُزيحت عن طريق التبادل الإقتصادي والتجاري والعسكري، ومستقبلًا الطاقوي، المتصاعد بين كل من أنقرة وتل أبيب؟

يمتاز النظام السياسي التركي بهامش واسعٍ من الحريّة، ولذلك فإنّ شعبها قادرٌ على مساءلة ومحاسبة ومعاقبة قادته، وهذا الحضور الشّعبي، الذي لا يُمكن بأيّ شكل إنكار دور حزب العدالة والتنمية في تثبيته وتقويته، هو ما يدفعنا الآن لتمييز تركيا عن أغلب دول المنطقة؛ نعم، تركيا البلد الإسلامي القوي سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، والذي تصدّت حكومته، كما تدّعي، لـ”نصرة المسلمين” في كلّ من سوريا والعراق وليبيا وتونس ومصر وأذربيجان وغيرها، حتى وصلت إلى أقاصي الصين حيث يقطن الإيغور المسلمون.

..أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون

يُذكرني خطاب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، يوم السبت الماضي، بخطابات بعض الحكام العرب في نهاية حرب تموز عام 2006، إذ راح خطابهم يُصوّب على إرهاب الدولة الإسرائيليّة، مُبتعدًا عن الخطاب الذي بدا في أوّل الحرب محايدًا في مقابل “المغامرين” (وكلّ خطابٍ محايد شريك لإسرائيل)، وكان ذلك ثمرة صمود المقاومة على مدى 33 يومًا.

مشكلة خطاب إردوغان، أنّه يُشكّل استمراريّة وتكرارًا لأدائه وخطابه السياسي السابق، فهو كمن يشعر بأنّه يملك فائضًا من الذكاء في مقابل فائضٍ من الجهل والنسيان عند الجمهور التركي والعربي والإسلامي، ليُكرّر سلوكه المعتاد من دون أن يُحاسب أو يُساءل: مراقبة الأزمة لحين تبيان الرابح من الخاسر؛ قطف غضب الجماهير وتجييرها سياسيًا؛ انتهاز اللحظة من أجل الإبتزاز السياسي من واشنطن والغرب؛ وأخيرًا رفع الصوت والصراخ عاليًا، فيما الأداء العملي يأتي مناقضًا تمامًا للخطاب الشعبوي.

هل لنا أن نسأل إردوغان ماذا يُريد من العالم أجمع ومن الغرب خاصة في خطابه الأخير؟ فإن كان يُريد من العالم أن يقطع علاقاته مع تل أبيب، فالأولى به أن يفعل ذلك، فما الذي تفعله سفارة دولة الكيان الغاصب في تركيا وما الذي تفعله سفارة تركيا في تل أبيب؟ كانت الحجّة سابقًا أنّ الدّولة التركية العميقة تمنع ذلك، أمّا اليوم، فإنّ أبرز إنجازات حزب العدالة والتنمية، أنّه فكك الدّولة العميقة، وأحكم قبضته على الجيش والإقتصاد والقضاء والإعلام.

وإن كان يطلب من العالم معاقبة الكيان، فلتفعل أنقرة ذلك أوّلًا، إذ لا بدّ من التّذكير مجددًا، أنّ التبادل التجاري بين كل من أنقرة وتل أبيب تضاعف أكثر من ثلاث مرّات في ظلّ حزب العدالة والتنمية، وأنّه حتى هذه اللحظة ما يزال يسير بنفس وتيرته المعتادة.

ثمّ أيّ حربٍ هي تلك التي يخوضها الغرب بين الهلال والصليب، وهل يحترم الغرب الصليب والإنجيل والمسيحيين أو ينطق باسمهم؟ ماذا لو سمع عوائل الشهداء المسيحيين الذين سقطوا في كنيسة القديس بريفيريوس في غزة ذلك الخطاب، أو أولئك الذين سقطوا في المستشفى المعمداني التابع للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية؟ إنّ مقارنة بسيطة بين المظاهرات التي تخرج في دول الهلال ودول الصليب حسب تقسيم الرئيس إردوغان، يُظهر أنّ حماسة بعض الشعوب المسيحيّة لا يقلّ عن حماسة بعض الشعوب العربيّة، خاصة تلك الغارقة في ليالي الأنس والغناء والمسرّات.

إلى أن يكفّ الساسة الأتراك عن الخطابات الشعبويّة، سنظلّ نأمل أن تدفع الجماهير التركية حكومتها لأخذ مواقف عمليّة لدعم المقاومة الفلسطينيّة، كما دفعتها لتغيير خطابها المهادن والمنمق بعد ثلاثة أسابيع من انطلاق آلة القتل الإسرائيلية

ثمّ بأيّ جيشٍ يُريد زعيم حزب العدالة والتنمية “أن يأتي ذات ليلة دون إنذار” إلى غزّة؟ ربّما نسي أن الجيش التركي هو ثاني أكبر جيش في حلف شمالي الأطلسي، القوّة العسكريّة الضاربة للغرب (الصليبي بحسب توصيف إردوغان) ضدّ كلّ شعوب وأمم العالم التي ترفض غطرسته وإذلاله، الحلف الذي يخوض كلّ حروب الهيمنة والسيطرة والترويع من أجل أن يبقى الغرب مسيطرًا على العالم كلّه.

خطابُ سياسيٍ مغمور

يوضح الكاتب المتخصص في الشأن التركي سعيد الحاج المعايير الدقيقة المطلوبة لتقييم مواقف الدول من الحدث الفلسطيني، وهي:

  • مدى مناسبته للحدث؛
  • مدى مناسبته لشخص المتكلم وصفته ومنصبه ومسؤوليّاته؛
  • مدى تناسبه مع القدرات والإمكانات المتاحة؛
  • مدى تناسبه مع المطلوب والمتوقع؛
  • مقارنته مع المواقف المتخذة في العدوانات السابقة؛

ثم يضيف الكاتب “بعد كلّ ذلك علينا ملاحظة أنّنا ما زلنا نتحدّث عن خطاب، وليس مواقف وإجراءات عملية يمكن أن تُشكل ضغطًا أو تحدث فرقًا في المشهد”.

إقرأ على موقع 180  تركيا "الإستباقية" في ليبيا.. مواجهات بالجملة والمفرق!

بصياغة أخرى، بماذا يختلف دور رئيس أهمّ دولة إسلاميّة عن دور أو موقف أيّ ناشط أو سياسي مغمورٍ في الولايات المتحدة أو أوروبا، هو يشجب ويصرخ ويستنكر ثم يعود إلى منزله. منذ بدء العدوان، ما الذي قدّمته تركيا عمليًا لنصرة فلسطين وغزة، وهل هذا هو أقل وليس أقصى ما يمكن أن يقدّمه الساسة الأتراك لفلسطين؟

ثم ما يبعث على سوء الظن أكثر، هو الإنتهازية المستمرّة والتي لا تتوقف في كلّ لحظة، حتى عند كلّ محطّة ألمٍ أو وجع، عند ساسة حزب العدالة والتنمية، فما الداعي لوزير خارجيّة تركيا حقّان فيدان بأن يُذكّر وزير خارجية الدانمارك خلال المؤتمر الصحفي المشترك بأن تركيا ترى تنظيم PYD (حزب العمال الكردستاني) إرهابيًا، مثلما ترى الدول الأوروبيّة حركة “حماس” إرهابيّة؟ هو حرفيًا كمن يقول لهم “هذه بتلك”.

ما يحدث اليوم يجب أن يُؤرّخ ويُحفظ للتاريخ والأجيال القادمة كي لا يُزوّر، ومختصره أنّ بعض زعماء وقادة أكبر وأقوى الدول الإسلاميّة دعموا غزّة بشتم الإسرائيليين والدعاء لشهدائها المدفونين تحت الأبنية المهدمة، فيما سفارة الكيان تضيء أنوارها في عواصمهم.

موقع تركيا من القضيّة الفلسطينيّة

على الحكومة التركيّة التي تعاني من الحركات الإنفصاليّة تحت عنوان الكيان العرقي، والذي هو صنوٌ للكيان الديني الصهيوني الذي تنادي به دولة الإحتلال، أن تُدرك بأنّ أصل وجود هذا الكيان، بعيدًا عن الدين والأخلاق وكلّ مفاهيم الإنسانيّة، بل باللغة المصلحيّة البراغماتيّة التي يفهمها سياسيو حزب العدالة والتنمية، هو خطرٌ حقيقيٌ وداهمٌ على كلّ كيانات هذه المنطقة، وعلى رأسها الجمهوريّة التركية التي تحتفل هذه الأيام بمئويتها. وأنّ مقاومي غزّة، هم في الحقيقة المتراس الأول الذي اذا انهار ستحكمنا امبراطوريّة الغرب، وواهم حتى انقطاع النفس، إن صدّق أو آمن أو وثق الساسة الأتراك بإمكانيّة أن يُصبحوا يومًا جزءًا من النظام الغربي. هؤلاء قامت حضارتهم على احتقار حضارات الآخرين، بل والقضاء عليها.

تركيا، وبرغم الملاحظات على قادتها الحاليين، حين نتكلّم عنها فإنما نتكلّم من خلفيّة من يشعر بخسارة موقف دولة كنّا نأمل ونراهن يومًا أن تكون فعلًا لا قولًا، ظهيًرا لفلسطين وغزّة، أو في الحد الأدنى، أن تأخذ موقف الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو الذي لم يتكلم عُشر ما تكلّم به إردوغان، لكنّه فعل قبل أن يتكلّم.

وإلى أن يكفّ الساسة الأتراك عن الخطابات الشعبويّة (وأكثرهم طرافة خطاب شريك حزب العدالة والتنمية بالحكم، رئيس حزب الحركة القوميّة التركيّة دولت بهجلي قبل أسبوع، الذي أنذر الأميركيين 24 ساعة وإلّا سيتدخل الجيش التركي) سنظلّ نأمل أن تدفع الجماهير التركية حكومتها لأخذ مواقف عمليّة لدعم المقاومة الفلسطينيّة، كما دفعتها لتغيير خطابها المهادن والمنمق بعد ثلاثة أسابيع من انطلاق آلة القتل الإسرائيلية، فقد “جاء يوم الجماهير، ما أخطأت أنّها بمقاديرها زاحفة، ليس وعدًا على ذمّة الدّهر، غير الجماهير والعبقريّات والعاصفة، مرحبًا أيّها العاصفة، مرحبًا.. مرحبًا.. مرحبًا أيها العاصفة”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  القضاء اللبناني بين حدي الإنكسار أو الإنتصار