“الكتاب الذّي تتمنّى لو قرأهُ أبواك”.. للمُعالجِة فيليبا بيري

"أنتِ لن تهزميني/ لن أكون بيضةً لتشرخيها/ في هرولتكِ نحو العالم/ جسر مشاة تعبرينه/ في الطريق إلى حياتِك/ أنا سأدافع عن نفسي".

تتحدّث الشّاعرة البولنديّة آنّا سوير في هذا المقطع من قصيدة “أمومة” إلى ابنتها المولودة للتّو، يضيء هذا المقطع على مشاعر الأمهّات وإحساسهن بالتّهديد والانسحاق أمام الطّفل الذّي يأخذ كلّ شيء قبل أن يهرول بنفسه نحو العالم.

***

لا يكبر الطّفل بسهولة، هذا ما نعرفه جميعًا، سيستنزفك طفلك حتى آخر رمق قبل أن يشقّ عباب الحياة، وهذه الرّحلة الطّويلة الأمد تمرّ بالكثير من العوامل التّي تؤثّر عليها وتظلّلها، فالآباء والأمّهات خلالها لا يعيشون على جزيرة تعزلهم عن هذا العالم، وذلك أكثر ما يرهق الأمومة والتّربية.

تأخدنا هذه الفكرة إلى التّربية باعتبارها من بين أهمّ السّلوكيات المرتبطة بالجنس البشري ونتاجه الحضاري، وواحدة من أكثر الأنشطة البشريّة تعقيدًا وإثارة للجدل، واحتلالًا لحيّزات النّقاش التّي يتجاذبها علماء النّفس ورجال الدّين والفلسفة والفكر، وخبراء التّنمية البشريّة ومدرّبو الحياة كونهم أبرز اللّاعبين في ساحات مواقع التّواصل الإجتماعي التي تعدّ أوسع نوافذ عالمنا المعاصر.

***

“الكتاب الذّي تتمنّى لو قرأه أبواك” للمعالجة النّفسيّة البريطانيّة فيليبا بيري، هو من أبرز المصادر التّي يستخدمها صنّاع المحتوى البصري المتعلّق بتربية الأطفال على مواقع التّواصل الإجتماعي. فما الجديد الذّي يقدّمه هذا الكتاب؟ وما الذّي يجعله متميّزًا في هذا المجال؟

الكتاب الذّي صدر بالإنكليزيّة للمرّة الأولى عام ٢٠١٩ بحسب الصحيفة البريطانيّة الأسبوعيّة Sunday Times كان الأكثر مبيعًا في سنته، وصدر في العام نفسه بطبعته العربيّة عن دار السّاقي، ويتميز بابتعاده عن وصفات التّربية التّي يغرق فيها المتخصّصون في هذا المجال، ليبحث في الهدف الإستراتيجي للتّربية، عبر الإحاطة بها بطريقة أكثر عمقًا، باعتبارها أسلوب حياة يتجاوز علاقتنا مع الطّفولة ويتعدّاها ليشمل علاقتنا بأنفسنا وماضينا ومحيطنا ككلّ.

***

ينقسم الكتاب إلى ستّة أجزاء؛ في الجزء الأوّل منه تعترف فيليبا بيري أن الظّروف الحياتيّة ومهام الرّعاية والعمل عوائق أساسيّة وجديّة تعترض عمليّة التّربية، لكنّها تُنبّهنا إلى أن أكثر ما يحاصر عمليّة التّربية ويُظلّلها هو “إرث التّربية”! وتُحذرنا بشكل جدي من الطّفل الكامن داخلنا الذّي سينهض في كلّ مرّة نحاول فيها الإيعاز لأبنائنا، قد لا يكون تصرّفنا دائمًا تماهٍ مع سلوك الأهل لكنّه في معظم الأحوال يكون ردّة فعل على كيف عوملنا حين كنّا أطفالًا.

تؤكّد الكاتبة بيري أننّا وبرغم ذلك نستطيع كسر حلقة هذا السّلوك، بقليل من التّروي والبحث عن أصول بعض سلوكياتنا، والحوار مع طفلنا الدّاخلي واحتضانه والعطف عليه لنتمكّن لاحقًا من العطف على أطفالنا. تحثّنا على تقبّل أخطائنا وعدم إطلاق الأحكام على أنفسنا بشكل عام وخاصّة عندما نشعر بالفشل في التّربية وذلك يساعدنا نحن وأبنائنا على السّواء.

***

في الجزء الثّاني من “الكتاب الذّي تتمنّى لو قرأه أبواك”، يتطرّق الكتاب إلى البيئة المحيطة بالطّفل، فالمهمّ ليس شكل الأسرة بل نوعيّة العلاقات بين أفرادها، ويؤكّد على ضرورة عدم تحويل مكان العيش إلى ساحة معركة، يحاول الشّركاء فيه دائمًا تأكيد كونهم على حقّ، وذلك يحصل عندما نقبل هشاشتنا ولا نفترض دائمًا معرفة مقاصد الطّرف الآخر، ونتحدّث عن أنفسنا لا عن الآخرين عند حدوث الخلاف، ولا نسعى دائمًا إلى تسجيل النّقاط مع شركائنا، ونستجيب لدعوات التّواصل المطروحة علينا من قبلهم.

***

تتكلّم الكاتبة في الجزء الثّالث من الكتاب عن ضرورة فهم مشاعر أطفالنا واحتضانها، ولا تقصد بالاحتضان إفساد الأطفال أو الاستجابة لكلّ رغباتهم، بل تفهّم ردّات فعلهم واحتوائها، وبلجوئنا إلى محاولة الفهم نزرع فيهم القدرة على مواجهة المشكلات، ونعلّمهم أنّ مشاعرهم على قدر كبير من الأهميّة، ونعزّز فيهم الحدس الذّي يساعدهم لاحقًا على التّواصل بإيجابيّة وفهم المحيط. كما تؤكّد ضرورة عدم استسهال اللّجوء إلى الإلهاء، فالإلهاء حين يكون استراتيجيّة متّبعة دائمًا يضلّل مشاعر الطّفل ويعيق قدرته على بناء علاقة صحيّة مع أهله. وبدلًا عنه علينا اللّجوء إلى التّماهي، وذلك عبر وضع أنفسنا مكان أطفالنا.

تنبّهنا إلى أنّ الأهل، ولأنّهم يحبّون رؤية أطفالهم سعداء، يحاولون تجاهل مشاعرهم ومخاوفهم أو تسخيفها، لكنّ ذلك ليس مساعدًا على الإطلاق، فتجنّب مشاعر الحزن والقلق والخوف والتّعاسة والفشل لا يساعد على التّخفيف منها، على العكس تمامًا فذلك وإن أخفاها قليلًا لكنّه قد يفاقمها ويعزّزها فتظهر لاحقًا بصور أبشع وأقوى، لذلك على الأهل الاستماع إلى الأبناء لمساعدتهم على توصيف أحاسيسهم والتّواصل معها وفهمها.

***

تعالج الكاتبة في الجزء الرّابع مرحلة الحمل التّي تسبق ولادة الطّفل، وتعتبر أنّ الأهل يحاولون انطلاقًا من هذه المرحلة تحديد شكل علاقتهم بأطفالهم، وتحذّر من التّعامل مع الأطفال كأشياء أو أغراض أو مشاريع، وتؤكّد على ضرورة التّعاطي معهم كبشر، فالطّفل كالإنسان الرّاشد يحتاج إلى أن يكترث بشأنه ومشاريعه ومشاغله وأفكاره. وتُبيّن أنّ اللّغة التّي تفكّر بها الأمّ تجاه الطّفل وتتحدّث بها أثناء الحمل تؤثّر على علاقتها به بعد أن يولد وعلى الطّريقة التّي يرى بها نفسه.

إقرأ على موقع 180   في ردهة الموت.. في لا ألوانه

تتطرّق إلى أساليب التّعلّق، وتعتبر أنّ تلبية غرائز واحتياجات الطّفل وإيلائه الإهتمام الكافي في أولى مراحل حياته يساهم في بناء تعلّق آمن بالمحيط لاحقًا، وتحذّر من تجاهل بكاء الطّفل وصراخه، وتنتقد الكثير من الإستراتيجيات المعتمدة في التّربية كإستراتيجيّة التّدريب على النّوم باعتبارها تُعلّم الطّفل الإنفصال عن مشاعره وكبتها.

***

شرط الصّحة العقليّة هو عنوان الجزء الخامس، وفيه تتحدّث الكاتبة عن أهميّة اللّعب بالنّسبة للطّفل، كونه ميدان تتحرّك فيه كلّ وظائفه الدّماغيّة ويُعزّز من خلاله قدراته، وتنبّهنا إلى عدم الإستخفاف بهذا الوقت وعدم سحب الطّفل أثناء اندماجه باللّعب. وتلفت نظرنا إلى أهميّة منح الطّفل الثّقة بوجودنا معه، وعدم دفعه للانفصال عنّا دفعًا، بل تركه ليكون هو من يقرر ذلك، فالطّفل وبعد أن يطمئّن إلى وجود أبويه يتحرّك ذكاؤه وفضوله بشكل أجود تجاه العالم الخارجي.

***

في الجزء السّادس والأخير “السّلوك كنوع من أنواع التّواصل” تدعو بيري الأهل للابتعاد عن فكرة الرّابح والخاسر في علاقتهم مع الأبناء، والسّعي دائمًا إلى الهيمنة على الطّفل باعتبارهم الأكبر والأكثر معرفة، والقبول أحيانًا بالحلول الآنيّة عوضًا عن تخيّل أن الحاضر سيمتدّ للأبد، وتعرب عن كرهها لجداول السّلوك والثّواب والعقاب لأنّ الفكرة تكمن بالتّواصل، وهذه الأساليب التَربوية تعلّم الطّفل على الانتهازيَة بمعزل عن الفهم.

***

في أحد أهمّ أفكار الكتاب، تقول المعالجة النّفسيّة أن الأهالي الذّين عانوا من هجران أحد الآباء لهم على صغر، يميلون للانسحاب من حياة أطفالهم في نفس العمر الذًي تمّ التّخلّي فيه عنهم، خاصّة إذا لم يتصالحوا مع الفكرة وخبّأوها في أدراج لاوعيهم. وتؤكّد أنّ الانسحاب ليس مادّيًا بالضّرورة، فقد يكون شبحًا أو طيفًا، حيث يعيش الأبوان مع الطّفل دون قدرة على التّواصل الحقيقي معه، ويميلان إلى تلبية احتياجاته اللّوجستيّة دون العاطفيّة والتّواصليّة منها، وفي بعض المرّات يصبح تمضية الوقت مع الأطفال مرهقًا جدًّا للأهل بحيث يحاولون تجنّبه والتّهرب منه بحجة المشاغل والعمل والإرهاق اليومي.

تسلّط الكاتبة الضّوء على أهميّة انتباه آباء الأولاد الأكبر سنًّا إلى تولّد مشاعر المنافسة لديهم، فالطّفل حين يصبح راشدًا تظهر لدى أهله أحاسيس بشريّة غير مثاليّة كثيرًا على السّطح، كالمنافسة ومحاولة إثبات الأفضليّة والتّفوّق المعرفي، وهذه المشاعر شائعة جدًّا لدى الأهالي، ويظهر ذلك مثلًا في التّنظيرات حول أسس تربية الأحفاد مثلًا، لذلك على الأهل مراقبة تصرّفاتهم بشكل مستمّر والإبقاء على الدّور المنوط بهم كحضن داعم ومحبّ، فتلك التّصرّفات تؤذي الأبناء مهما نضجوا.

تدعو الكاتبة الأهل إلى التّفكير قبل الكلام خاصّة في المواقف الإنفعاليّة، دون أن يلغي ذلك عفويّة التّواصل، ويبدو الإبتعاد عن الإنفعال والمبالغة في ردود الأفعال أكثر ما تنصح به في التّربية كسيرورة طويلة الأمد، وتؤكّد على أهميّة الإعتذار من الأبناء، والإعتراف بالضّعف وقبول الأخطاء، وتنبّه إلى عدم اعتبار الكذب خطأً مميتًا، فالبشر كاذبون هذه طبيعتهم! واكتشاف الطّفل لقدرته على ليّ الحقائق تجربة شديدة المتعة بالنّسبة له، والمراهق أيضًا سيكذب بطبيعة الحال، لذلك ليس علينا التّعامل مع هذه الممارسة بكثير من التّوجسّ كأنّها نهاية العالم.

***

يُكرّس الكتاب تحميل الأهل مسؤوليّة إنشاء أطفال أسوياء وسعداء، باعتبارهم الطّرف الذّي اتّخذ قرار قدومهم إلى الحياة، وباعتبار الأطفال الطّرف الأضعف الذّي لم يختر ذلك، وهو رغم الصّدى الجيّد الذّي أحرزه وسط النّقاد وجموع القرّاء، وحيازته على تقييم مرتفع (4.12/5) على موقع goodreads واجه بعض التّقييمات السّلبيّة من الكثير من الآباء الذّين رأوا فيه مثاليّة صعبة التّطبيق ولا سيما لجهة مطالبته الأهل بما لا طاقة لهم به، ومبالغته في تناسي الأعباء الوظيفيّة واليوميّة والماديّة التّي تنطوي عليها تربية الأطفال في ظلّ متطلّبات العصر.

يعيدنا ذلك إلى أنّ الكثير من العلماء يصنّفون النّظريّات التّي تميل إلى تحميل الأمّ والأبّ مسؤوليّة المشاكل النّفسيّة والعقليّة لدى الأطفال، كنظريّات أثريّة وغير منصفة، فالطّفل اليوم يتأثّر بعوامل أكثر تعقيدًا من تربية الأب والأمّ على السّواء، كالعوامل البيولوجيّة والسيكولوجيّة والإجتماعيّة والبيئيّة.

***

“الكتاب الذّي ستتمنى لو قرأه أبواك” كتاب مفيد للغاية؛ طروحاته سلسة وواضحة جدًّا؛ الاطّلاع عليه بالتّأكيد سيساعد الآباء والأمهات على فهم العوامل المؤثّرة في طرقهم المعتمدة في التّربية، وسيفتح آفاقهم ويساعدهم على تقبّل أخطائهم وتفاديها. ولكنّ يبقى السّؤال إلى أي مدى يتحمّل مقدّمو الرّعاية الأوليّة مسؤوليّة صقل الطّفل؟ وهل هناك طريقة فعّالة حتّى النّهاية تضمن عدم وقوع أيّ أخطاء، وتؤكّد إنتاج بشر أسوياء؟ وهل الأمّهات المكرهات على الإنجاب بفعل ضغط المجتمع والصّورة النّمطيّة معفيّات من مسؤوليّاتهن تجاه الأبناء وسلامتهم النّفسيّة؟

Print Friendly, PDF & Email
حوراء دهيني

كاتبة لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  كورونا وصحتنا النفسية: خلط المخاوف بالأوهام!