رداً على أبو حمدان.. مَنْ “المَلِك” الحقيقي للعرب وإقليمنا الحضاري؟

قرأت مقال الزميل الدكتور مالك أبو حمدان المثير والمعنون "هل يصبح الأمير محمد ملك العرب"، في موقع "180post" وأود أن أتقدم بجملة ملاحظات وأفكار وتساؤلات:

أولاً؛ لم ينتبه الزميل أبو حمدان إلى أن المملكة العربية السعودية تبوأت فعلياً، ومن دون إعلان، زعامة المنطقة العربية، وكانت فعلاً “ملكها” منذ انهيار النظام الإقليمي الناصري في العام 1967، ثم مع انهيار النظام الإقليمي العربي برمته بعد الغزو العراقي للكويت في العام 1990. أي أننا نتحدث عن تجربة زعامة تناهز الخمسين عاماً. كما أن المملكة أقامت شبه نظام إقليمي بالتعاون مع مصر وسوريا أحياناً ومع المغرب والأردن وغيرهما أحياناً أخرى، وكانت هي محوره الرئيس. وهذه تجربة مديدة تستحق الدراسة والتمحيص واستخلاص الدروس منها.

ثانياً؛ يراهن البعض على حدث الاتفاق السعودي- الإيراني الجديد، على أنه سيكون نواة توجّه نحو نظام إقليمي جديد. إذا ما كان هذا الرهان المفترض صحيحاً، فهو سيكون من باب التسرّع أو من منطلق التفكير الرغائبي. فهذه لم تكن المرة الأولى التي تُبرم فيها الدولتان الخصمتان والمتنازعتان على زعامة العالم الإسلامي اتفاقات تعاون وإخاء. كل حقبة التسعينيات الماضية، مثلاً، كانت شهر عسل حقيقي بينهما، شملت حتى نزول الرئيس الإيديولوجي محمود أحمدي نجاد على أرض المملكة صديقاً حميماً وحاجاً مرحباً به.

بكلمات أوضح، يجب انتظار مدى قدرة هذا الاتفاق الثنائي، برعاية الصين، على التبرعم والبقاء على قيد الحياة. كما يجب أن ننتظر أيضاً رد الفعل الأميركي عليه، وما إذا كانت واشنطن ستقبل أن تحل الصين مكانها في منطقة جيو- استراتيجية تقع في قلب قارة أوراسيا، وتتحكّم عملياً بمصير الدولار والطاقة.

البداية هنا على المستوى العربي لا تكون، كما افترض الكاتب أبو حمدان، ببروز “ملك للعرب”، بل في إعادة بناء النظام الإقليمي العربي على قدم المساواة بين كل عناصره

رد الفعل الأميركي هذا المتوقع، سيُعطينا مؤشرات فاقعة على طبيعة موازين القوى الدولية الراهنة، والتي لن تستطيع أي دولة بمفردها، لا السعودية ولا إيران ولا مصر ولا تركيا ولا حتى إسرائيل، أن تقفز فوقها. وهذا ينطبق أكثر على المملكة العربية السعودية بسبب التحالف التاريخي بينها وبين الولايات المتحدة منذ اجتماع الملك عبد العزيز والرئيس الأميركي روزفلت على متن البارجة كوينز في العام 1945، وأيضاً لأن الأسطول الخامس الأميركي لا يزال مرابطاً بقوة في مياه الخليج ومُسيطراً على شطر وازن منه في شطئانه العربية.

ثالثاً، هذه النقطة السابقة تطرح معضلة الأمن بالنسبة إلى المملكة ومدى قدرة الأطراف الدولية الأخرى على ملء الفراغ الأميركي المحتمل. هو محتمل لأن الولايات المتحدة لما تقرر بعد الانسحاب من الشرق الأوسط كما فعلت الامبرطورية البريطانية في ستينيات القرن العشرين، وخطواتها حتى الآن تنم عن أنها تنوي فقط إعادة التموضع في الشرق الأوسط كي تتفرغ بشكل أفضل للمجابهات في شرق آسيا/ المحيط الهادىء.

أضف إلى ذلك؛ من هي الأطراف التي قد توفّر الأمن البديل؟ روسيا علقت في الفخ الأميركي الجديد في أوكرانيا، الشبيه إلى حد كبير بالفخ الأميركي المماثل للاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وباتت تحذيرات سمير أمين من خطط الغرب لتقسيم بلاد القياصرة ولينين أكثر من واقعية. أوروبا تكاد تغرق في قعر المحيط الأطلسي لولا قوة ألمانيا (وإلى حد ما بولندا) الاقتصادية، ولا تزال قزماً استراتيجياً. أما الصين، فإنها لن تطل برأسها قريباً في المجال الاستراتيجي العسكري، طالما أن علاقاتها مع أميركا لا تزال تقوم على التنافس/ التعاون، وطالما أن لها حوالي تريلويني دولار في الاقتصاد الأميركي، وشركاتها التكنولوجية لا تزال (نسبياً) وثيقة الصلة بالشركات الأميركية متعددة الجنسيات.

كذلك، النزعة الاستقلالية التي افترضها الكاتب لدى المملكة العربية السعودية، لا ترقى إلى تلك التي كانت موجودة لدى مصر الناصرية ولا لدى إيران الإسلامية. إنها بالأحرى مجرد رد فعل على العبث الذي تقوم به الإدارات الديموقراطية الأميركية بروح التحالف التاريخي الثنائي السعودي – الأميركي، عبر ابرامها (الادارات) الصفقات مع الطبعات الاسلامية لجماعات الاخوان المسلمين منذ عهد باراك أوباما في كل من تركيا ومصر وتونس وباقي الدول العربية. كما أنه رد فعل على تقارب “واشنطن الديموقراطية” مع إيران، على عكس “واشنطن الجمهورية”.

رابعاً؛ كل هذه المعطيات تقود، أو يجب أن تقود، إلى إطلالة مختلفة على طبيعة التحولات التي تجري الآن في داخل كل دولة في إقليم المشرق المتوسطي وبين القوى الإقليمية الرئيسة فيه وعلاقة كل ذلك بجديد العلاقات الدولية.

صحيح أن الدخول القوي للصين على الخط التاريخي الشرق أوسطي حدث جلل سيكون له حتماً ما بعده، إلا أن بيجينغ لن تستطيع مهما فعلت أن تنجح في ترسيخ أقدامها في المنطقة، ما لم تتمكّن بلدان هذه المنطقة نفسها من التوصل إلى خطوات جدية وحقيقية تقود إلى بناء نظام إقليمي جديد يكون في آن ديموقراطياً وحضارياً، أي يستجيب لحقيقة كون إقليمنا وحدة حضارية-إيكولوجية متسقة منذ فجر التاريخ قبل ستة آلاف سنة.

إقرأ على موقع 180  جيمس زغبي: الكارثة في اليوم التالي للإنتخابات الأميركية

البداية هنا على المستوى العربي لا تكون، كما افترض الكاتب أبو حمدان، ببروز “ملك للعرب”، بل في إعادة بناء النظام الإقليمي العربي على قدم المساواة بين كل عناصره. “الملك” هنا هو التوافق الاستراتيجي بين البلدان العربية الرئيسة وليس الطموحات الفردية التي دفع الوطن العربي ثمنها الفادح مع التجارب المصرية والعراقية السابقة. وهذا يُمكن أن يتم، مثلاً، عبر إعادة بناء جامعة الدول العربية على أسس جديدة ومتطوّرة تأخذ بالاعتبار التغيرات التي حدثت في العالم وجعلت التنظيمات الإقليمية، لا الدول-الأمم، هي الركن الأساس للنظام العالمي المتعولم الجديد.

بعد هذه الخطوة مباشرة تأتي المهمة الأصعب والأهم، وهي بدء العمل لإستعادة التعاون والتكامل الإقليمي والوحدة الجيوـ ثقافية والجيوـ استراتيجية لإقليم المشرق المتوسطي بمكوناته الحضارية الأربعة الأساسية: العرب، الإيرانيون، الأتراك والكرد، علاوة على باقي كيانات الحضارة المشرقية الاسلامية-المسيحية.

وهذا يتطلب إطلاق وعي جديد في كل الإقليم يمكن أن نسميه “الماضي الجديد” الذي ينطلق من الحقيقة الحضارية-التاريخية الهائلة لإقليمنا، ويعانق حقائق العصر الراهن بثوراته التكنولوجية والعلمية والاقتصادية والمفاهيمية كافة، علاوة على متغيراته الإيكولوجية الكاسحة.

“الملك” هنا هو التوافق الاستراتيجي بين البلدان العربية الرئيسة وليس الطموحات الفردية التي دفع الوطن العربي ثمنها الفادح مع التجارب المصرية والعراقية السابقة. وهذا يُمكن أن يتم، مثلاً، عبر إعادة بناء جامعة الدول العربية على أسس جديدة ومتطوّرة

بكلمات أوضح؛ هذا الوعي الجديد يجب أن يستند إلى جملة ادراكات:

أولاً؛ أن عهد الدولة-الأمة بدأ يأفل أو يوشك على الأفول. ولن تستطيع أي دولة في العالم، كبيرة كانت أو عظمى أو متوسطة، أن تتجاوز القوانين الجديدة للنظام العالمي البازغ: الإقليمية والعولمة.

ثانياً؛ أن تحرر المنطقة من التبعية للخارج والتعرّض الدائم لمباضع التدخلات والتقسيم الدولي المستمر فيها منذ 200 سنة وحتى الآن، بات مستحيلاً في الإقليم من دون نهضة إقليمية مشتركة لكل مكونات الحضارة الإسلامية-المسيحية في إقليمنا، قد تبدأ على سبيل المثال بإطلاق “وستفاليا روحانية” بين أطراف هذه الحضارة.

ثالثاً؛ أن تغيّر المناخ والاحترار العالمي وكارثة التدهور البيئي التي جعلت الأمم المتحدة تضع إقليمنا على رأس قائمة الأقاليم المهددة بالانقراض في العالم، تجعل النهضة الاقليمية المشتركة حتمية لا مفر منها بكونها مسألة حياة أو موت لكل شعوب المنطقة، من الهضبة الإيرانية-التركية وغرب آسيا إلى سواحل البحر المتوسط في شمال إفريقيا.

رابعاً؛ الإدراك أن الطور الجديد من النزعة التكنو- رأسمالية ومعها الثورة التكنولوجية الرابعة، ستفرض تهديدات إستثنائية للقيم والهوية والمبادىء في إقليمنا (والعالم). وأي شيء عدا الوعي الحضاري الشامل والهادف إلى ترسيخ الهوية الحضارية الهائلة للمشرق المتوسطي، منذ أيام أخناتون وحمورابي، مروراً بالفلسفة الهلنستية المشرقية المبدعة، واختتاماً بالأديان التوحيدية، لن يستطيع أن يصمد ولو للحظة في وجه زلازل وتسوناميات العولمة النيوليبرالية والتكنوـ رأسمالية.

* * *

هل تبيّن لنا الآن أي “ملك” يحتاجه العرب وكل إقليمنا المشرقي المتوسطي الحضاري؟

(*) راجع مقال الزميل مالك أبو حمدان بعنوان: هل يُصبح “الأمير محمد”.. “ملك العرب”؟ 

Print Friendly, PDF & Email
سعد محيو

كاتب سياسي، مدير منتدى التكامل الإقليمي

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الصين في طريقها إلى "القمة".. الهيمنة على أوروبا!