غزّة “تُحرّر” بوتين.. هل يربح في أوكرانيا؟    

بمواكبة أربع مقاتلات من طراز "سوخوي-35 إس"، اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لجولته الخليجية التي شملت الإمارات والسعودية، توقيتاً زاخراً بدلالاته وخلفياته. من المرحلة المفصلية التي يمر بها النزاع الأوكراني، إلى الحرب الإسرائيلية على غزة والرغبة الروسية في استعادة موسكو دور الوسيط المقبول من جميع الأطراف في الشرق الأوسط.  

كان للحياد الخليجي حيال النزاع الروسي-الأوكراني، أثراً إيجابياً على الاقتصاد الروسي الذي كان في حاجة إلى استقرار أسعار النفط في زمن الحرب. ولم تلقَ المناشدات الأميركية لرفع مستوى الإنتاج بهدف دفع الأسعار نزولاً، استجابة من تحالف “أوبيك+” الكارتل الذي تنتج الدول الأعضاء فيه 60 في المئة من النفط العالمي.

التقت المصلحة الروسية والخليجية على الحفاظ على استقرار السوق. وزار الرئيس الأميركي جو بايدن السعودية في تموز/يوليو 2022، أملاً في إقناع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، برفع الإنتاج لتعويض النقص في الأسواق الأوروبية التي حظّرت استيراد النفط والغاز الروسيين، من أجل حرمان الكرملين من مصدر رئيسي من مصادر تمويل الآلة العسكرية في أوكرانيا، لكن بايدن أخفق في تلك المهمة. استلزم الأمر اللجوء إلى الاحتياط الاستراتيجي الأميركي لتلبية حاجات الشركاء الأوروبيين.

حافظت “أوبيك+” على تماسكها بقيادة السعودية وروسيا. وما أن عمد الإتحاد الأوروبي ودول حليفة لواشنطن في الشتاء الماضي، إلى فرض سقف 60 دولاراً لسعر النفط الروسي، حتى اتخذت الرياض وموسكو وأعضاء آخرون في “أوبيك+” قرارات بخفض طوعي للانتاج. وإلى الآن، لا تزال الخفوضات الطوعية تلعب دوراً مهماً في الحفاظ على إستقرار أسعار النفط والحؤول دون هبوطه إلى ما دون الـ60 دولاراً.

هذه التطورات في أوكرانيا وغزة، جعلت الخشية تسود للمرة الأولى، في الولايات المتحدة وأوروبا، من أن بوتين قد يربح الحرب مع أوكرانيا. هذا المناخ شجّع بوتين على الإعلان الجمعة الماضي، عن ترشحه لولاية رئاسية جديدة في العام 2024

ربما كانت هذا التفاصيل ضرورية لتبيان الخلفية التي دفعت فلاديمير بوتين، من بعد الصين وإيران ودول في الإتحاد السوفياتي السابق، إلى اختيار الإمارات والسعودية في الجولة الخارجية الأخيرة له.

يُمكن تلمس الأسباب التي دفعته إلى زيارة السعودية في أسواق النفط، بينما الإمارات هي الشريك التجاري الأول لروسيا في الشرق الأوسط، وزاد التبادل التجاري بين البلدين بنسبة 68 في المئة العام الماضي. وعمدت الولايات المتحدة الشهر الماضي إلى فرض عقوبات على 3 شركات للنقل البحري تتخذ من الإمارات مقراً لها، بعد اتهامها ببيع النفط الروسي بأسعار تفوق الـ60 دولاراً. واستناداً إلى صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، فإن الإمارات تواصل تزويد موسكو بالمكونات الإلكترونية ومنتجات أخرى يمكن أن تستخدمها روسيا لأغراض عسكرية، على رغم اعتراضات واشنطن.

معطى آخر، يقف خلف تحرك بوتين نحو الخليج وهو حمل رسالة تطمين للإمارات والسعودية، حيال التنامي المتسارع للعلاقات الاقتصادية والعسكرين بين روسيا وإيران. وفي اليوم التالي للجولة الخليجية، استقبل بوتين الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في الكرملين.

لا يغيب أيضاً عن دوافع الجولة الخليجية، الحرب الدائرة في غزة. منذ انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، شهد الدور الروسي تراجعاً ملحوظاً باستثناء بعض الطلعات الجوية في سوريا لقصف مواقع لتنظيمي “الدولة الإسلامية” (داعش) و”جبهة النصرة” رداً على تصعيد التنظيمين ضد الجيش السوري. و”الاحتكاكات” مع المُسيّرات الأميركية كانت امتداداً للتوتر الروسي-الأميركي في أوكرانيا.

ومنذ اليوم الأول لحرب غزة، وضعها الكرملين في سياق “فشل السياسة الأميركية” في المنطقة. وموسكو هي عضو في اللجنة الرباعية التي كانت تشرف على المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. لكن واشنطن بعد ذلك تجاهلت دور اللجنة وتفردت هي بالوساطة بين الجانبين. والموقف الروسي من النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي أقرب إلى موقف الدول العربية التي تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية. كما أن روسيا استقبلت وفدين من “حماس” في الأشهر الأخيرة، في حين أنها على تواصل دائم مع إسرائيل. ويمكن لروسيا البناء على الاستياء العربي المتزايد حيال الولايات المتحدة بسبب دعمها المطلق لإسرائيل ورفضها حتى الآن تبني الدعوة إلى وقف إطلاق النار في مجلس الأمن الدولي.. والحفاوة التي إستُقبل بها بوتين في أبوظبي والرياض هي بمثابة رسالة تُعبّر عن هذا الإستياء.

جمود الجبهات    

وعلى الضفة الأوروبية، تعاني الجبهة الروسية-الأوكرانية من جمود باعتراف رئيس الأركان الأوكراني الجنرال فاليري زالوجني الذي يعتبر مهندس التصدي للهجوم الروسي منذ بداياته. لا يهم ما يقوله الرئيس فولوديمير زيلينسكي عندما يتحدث الجيش نفسه عن “الطريق المسدود”.

ترافق ذلك، مع احتدام الخلاف السياسي داخل الولايات المتحدة قبل أقل من عام من الانتخابات الرئاسية. جو بايدن ينتهز حرب غزة كي يربط بين نزاعي الشرق الأوسط وأوروبا، فائلاً إنه لن يسمح “لبوتين وحماس بالانتصار”. لكن رؤية البيت الأبيض تختلف إلى حد كبير مع رؤية الجمهوريين للنزاعات الدولية.

وأخفق بايدن في ابتزاز الكونغرس من طريق ربط مساعدات طارئة بقيمة 106 مليارات دولار لكل من أوكرانيا وإسرائيل وتايوان وتعزيز الحدود مع المكسيك في وجه الهجرة غير الشرعية.

إقرأ على موقع 180  الجيوستراتيجيا في محيط الصين (4/2)

مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون فصل بين مساعدة إسرائيل البالغة 14 مليار دولار ومساعدة أوكرانيا البالغة 61 مليار دولار. أقر الأولى ورفض الثانية. وفي مجلس الشيوخ حصل الأمر نفسه، إذ رفض الجمهوريون إقرار مساعدة أوكرانيا قبل إلتزام واضح من البيت الأبيض بإدخال تعديلات أساسية على سياسته حيال الهجرة غير الشرعية من المكسيك. ولم تُجدِ تحذيرات بايدن من المخاطر المترتبة على تأخير المساعدة لأوكرانيا بقوله إن بوتين يمكن أن يجتاح بعد كييف دولاً أطلسية!

يمكن لروسيا البناء على الاستياء العربي المتزايد حيال الولايات المتحدة بسبب دعمها المطلق لإسرائيل ورفضها حتى الآن تبني الدعوة إلى وقف إطلاق النار في مجلس الأمن الدولي.. والحفاوة التي إستُقبل بها بوتين في أبوظبي والرياض هي بمثابة رسالة تُعبّر عن هذا الإستياء

أوكرانيا في مأزق والحلفاء الغربيون على عتبة مقاربة جديدة حيال النزاع، تعبر عن القلق من حرب استنزاف طويلة. واستناداً إلى معهد “كيل” الألماني للبحوث، فإن وتيرة الوعود الغربية بمنح أوكرانيا مساعدات جديدة تباطأت بشكل ملحوظ على خلفية خلافات سياسية في أوروبا والولايات المتحدة.

التباطؤ في المساعدات الغربية، تتوقع مجلة “الإيكونوميست” أن ينعكس على القوة النارية للجيش الأوكراني الذي كان يستخدم ما يصل إلى 250 ألف قذيفة من عيار 155 ملم خلال الصيف إلى أقل من 40 ألفاً في الوقت الحاضر. وفي المقابل، عزّزت روسيا ترسانتها من القذائف بواسطة كوريا الشمالية. ولن يكون في امكان الاتحاد الأوروبي الوفاء بتعهده تسليم كييف مليون قذيفة بحلول آذار/مارس المقبل.

هذا الواقع السياسي-الميداني في أوكرانيا، أراح روسيا وجعلها تنتقل إلى موقع الهجوم في كوبيانسك وأفدييفكا على الجبهة الشرقية. وتحول الجيش الأوكراني إلى الدفاع عوض الهجوم في الآونة الأخيرة.

يهم فلاديمير بوتين الآن، أن يُثبت قدرته على كسر طوق العزلة الذي حاولت واشنطن فرضه عليه، خصوصاً بعد صدور مذكرة اعتقال بحقه عن المحكمة الجنائية الدولية في أوائل العام الجاري على خلفية نقل أطفال أوكرانيين إلى روسيا. وبحسب الزميل الأول في مركز كارنيغي روسيا وأوراسيا أندريه كوليسنيكوف، فإن زيارة بوتين للخليج هي “للتأكيد للجمهور، أن روسيا ليست معزولة عن العالم الخارجي”.

هذه التطورات في أوكرانيا وغزة، جعلت الخشية تسود للمرة الأولى، في الولايات المتحدة وأوروبا، من أن بوتين قد يربح الحرب مع أوكرانيا. هذا المناخ شجّع بوتين على الإعلان يوم الجمعة الماضي، عن ترشحه لولاية رئاسية جديدة في العام 2024.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ماذا تقول الديموغرافيا عن مستقبل إسرائيل.. و"أخواتها"؟