ميدان جنوب لبنان، توسعاً أو إحتواءً.. الأولوية لوقف حرب غزة
Black smoke rises from an Israeli airstrike on the outskirts of Aita al-Shaab, a Lebanese border village with Israel in south Lebanon, Saturday, Nov. 4, 2023. The Lebanon-Israel border has been the site of regular clashes between Israeli forces on one side and Hezbollah and Palestinian armed groups on the other since the beginning of the Israel-Hamas war. (AP Photo/Hussein Malla)

مُجدَّداً يُثار نقاش إعلامي وسياسي في لبنان حول جدوى القتال ضد العدو الإسرائيلي على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة. يُطلق هذا الجدل فريقان: الأول - وهو أعلى صوتاً من الثاني - يرفض انطلاق العمليات ضد الإحتلال من الأراضي اللبنانية بصرف النظر عن أهدافها أو منفذيها، والثاني يطرح تساؤلات حول جدوى العمليات اليومية بالقياس الى أهدافها في نصرة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.  

يستخدم الفريق الأول التصريحات الصحفية ويعرض منشورات وفيديوهات مموَّلة على مواقع التواصل الإجتماعي تدعو للتمسك بقرار مجلس الأمن 1701 الذي وضع رسمياً حداً لحرب 2006 بعد إخفاق اسرائيل في الوصول الى أهدافها، أو تدعو لعدم تكرار تلك الحرب، أو تتوجه صراحة إلى المسلمين الشيعة في لبنان باعتبارهم حاضنة أساسية للمقاومة وتنطق باسمهم على أنهم يقفون ضد الحرب. وهذا الفريق، سواء كان ينطق بأسماء صريحة أو مموَّهة، ينسجم مع موقفه المعارض لأصل المقاومة المسلحة ضد العدو، معتبراً أنها تضرّ بلبنان، وأن التضامن مع غزة إنما يتم بالتظاهرات السلمية والإعتصامات أو بأشكال إعلامية مختلفة، أي أن ما يسري على مجتمعات عربية وأجنبية، وبينها السلطة الفلسطينية في رام الله، يجب أن يسري على لبنان!

أما الفريق الثاني – إذا صحّ أنه فريق باعتبار أن ملامحه السياسية ليست واضحة – فيطرح الموضوع من زاوية مختلفة إلى حد ما، إذ أنه لا يعترض صراحة على المقاومة المسلحة، لكنه قد يرى أن العمليات في الآونة الأخيرة إتخذت منحى “روتينياً” لا يؤثر – من وجهة نظره – في مجرى الحرب على غزة، وبالتالي فهو يدعو الى إعادة النظر في استمرارها بهذا الشكل أو إلى إيقافها. وثمة من ينادي في هذا الفريق بعدم إخضاع اللبنانيين أنفسهم لامتحان المقاومة وفلسطين لأن تاريخهم وحاضرهم لا يحتمل أي التباس من هذا النوع!

وثمة ما يدعو الى التساؤل عما اذا كان العديد من هذه المواقف، وليس كلها بالضرورة، يأتي “صدفة” بالتزامن مع تحرك فرنسي وأميركي (وعربي) يهدف إلى تحييد لبنان وفصله عن مجرى التضامن الفعلي والفاعل مع غزة، في وقت يجتهد الغرب في توفير مظلة للحرب العدوانية الاسرائيلية على القطاع بعنوان “الدفاع عن النفس”. كما أن تحركات أخرى تجري بالموازاة لوقف الضربات العراقية واليمنية الموجَّهة ضد المصالح الأميركية والإسرائيلية. كل ذلك لتوفير الظروف الملائمة لإنهاء الحرب على غزة بطريقة ترضي الإحتلال الإسرائيلي وبما يتناسب ومصالح الأميركيين في المنطقة.

تنظر مصادر عسكرية أيضاً إلى أهمية جبهة الجنوب اللبناني من زاوية أن العدو اضطر إلى تجزئة جبهة غزة وعدم الدخول إلى كل محاورها دفعة واحدة بسبب افتقاد الزخم البشري اللازم لشن هجوم شامل عليها، حيث تتوزع القوات في قطاع غزة والضفة الغربية وشمال فلسطين المحتلة، وهي جميعها جبهات ساخنة على مدار الوقت

معايير قياس الجدوى

منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر الماضي ولغاية تاريخ كتابة هذه السطور، نفذ حزب الله حوالى 530 عملية ضد المواقع الحدودية الأمامية والخلفية، فارضاً نوعاً من الشلل على قوات العدو البرية يتجسد في عجزها عن استبدال تجهيزات تجسسية مدمَّرة أو إعادة بناء تحصينات أو القيام بأي حركة مطاردة خارج هذه المواقع، مع ما يتوفر لها من تغطية جوية ومدفعية ومدرعات. وأخرج الحزب من جعبته وسائل قتالية عدة من الصواريخ الموجَّهة التي استخدمها بكثافة ودقة لضرب تجمعات للمشاة وتجهيزات فنية لجمع المعلومات ودشم عسكرية، إلى صواريخ ثقيلة من طراز “بركان” ذات الحمولة الكبيرة من المتفجرات لتدمير التحصينات، ووصولاً إلى الطائرات المُسيّرة الإنقضاضية التي تستهدف بدقة مواقع للعدو منتشرة على طول الحدود (أو في مواقع خلفية)، وصواريخ أرض – جو لضرب مُسيّرات إسرائيلية (تم إسقاط 3 منها). ولم تحل الغارات الجوية الاسرائيلية الحربية والمُسيّرة والقصف المدفعي دون تسجيل 7 إلى 10 عمليات يومياً وسط ظروف ميدانية وأحياناً مناخية صعبة، وهو رقم لم تبلغه العمليات في ذروة نشاط المقاومة خلال فترة تحرير الجنوب في تسعينيات القرن الماضي. وتُدخل المقاومة بين يوم وآخر أهدافاً جديدة على جدول عملياتها وفق نتائج الرصد الميداني، وآخرها ضرب منصتين لمنظومة “القبة الحديدية” شرقي مستعمرة نهاريا بعمق 7 كلم داخل حدود فلسطين المحتلة. كما ساهمت فصائل من المقاومة الفلسطينية واللبنانية الأخرى بعمليات عدة على شكل تسلل الى مواقع العدو أو قصف مستوطناته وما شاكل. وفي الحصيلة، قدّمت المقاومة ما يزيد على مائة وعشرة شهداء حتى الآن في هذه العمليات، غالبيتهم قضى في غارات جوية.

هناك معياران قاصران مطروحان في تقييم عمليات المقاومة وأثرها على جيش العدو وتجمعاته الإستيطانية في شمالي فلسطين المحتلة:

المعيار الأول؛ عدد المصابين الذين يعترف بهم العدو. وهذا المعيار لا يمكن الأخذ به، في ظل قرار إسرائيلي بالتعتيم على الإصابات في الجبهة الشمالية إلا ما ندر (رقابة غير مسبوقة)، والسبب واضح: الأولوية لجبهة غزة، وأي اعتراف بحقيقة الخسائر في المواجهة على حدود لبنان سيحوّل الإنتباه الإسرائيلي الداخلي عن جبهة غزة وسيشكل عاملاً ضاغطاً للقيام بتوسيع نطاق العمليات الحربية في الشمال، وبالتالي احتمال الإنزلاق الى حرب إقليمية تُشتت الجهد العسكري الاسرائيلي في غزة لكنها لن تلغي التوجّه الحاصل لتصفية الحساب مع القطاع. وقد توقف العدو عن الإعتراف بوقوع قتلى له على جبهة لبنان لشهر ونصف تقريباً، مع أن حجم العمليات في هذه الفترة كان كبيراً، وبعض العمليات كانت نوعية بالمُسيّرات الإنقضاضية والصواريخ الثقيلة أو الموجَّهة. وأظهرت فيديوهات عديدة انفجار صواريخ وسط تجمعات للمشاة الإسرائيليين في أحراج وبيوت دخلوا إليها في المستوطنات، ما يجعل هؤلاء في عداد القتلى، لكن العدو لم يعترف فيها بأية إصابة. وربما يعمد جيش الإحتلال إلى إضافة من يسقطون على الجبهة الشمالية إلى الحصيلة الكلية لقتلاه وجرحاه التي يعلنها يومياً من جراء المعارك. يضاف الى ذلك، أن عدداً ممن يقاتلون إلى جانب جيش الإحتلال هم متطوعون يحملون جنسيات أميركية وفرنسية وبريطانية وإسبانية توافدوا إلى كيان الإحتلال بعد عملية “طوفان الأقصى” وليسوا مسجَّلين في قائمة الجنود النظاميين. وتحدثت مصادر إعلامية أيضاً عن إستعانة جيش العدو بخدمات شركات أمنية تجنّد مرتزقة، فضلاً عن عناصر “جيش لحد” السابق الذين حصل بعضهم على الجنسية الاسرائيلية ويقاتلون في صفوف جيش الإحتلال.

إقرأ على موقع 180  أمين الجميّل ـ ميشال عون: سوء التفاهم الدائم

المعيار الثاني؛ تحقُّق وقف العدوان على غزة؛ يفترض بعضهم أن العمليات ينبغي أن تؤدي الى وقف العدوان خلال فترة معقولة. وإذا لم يتحقق ذلك، فليتمّ تصعيدها إلى مدىً أبعد للوصول إلى هذا الهدف، أو فلتتوقف العمليات إذا لم يكن ذلك ممكناً الآن تفادياً لأضرار لا لزوم لها!

والواقع أن هدف وقف العدوان صعب التحقيق في الوقت الحالي، بالنظر إلى أسباب موضوعية وذاتية تتصل بالعدو الذي يخوض معركة في غزة صوَّرها على أنها “وجودية”، بعدما نالت عملية “طوفان الأقصى” من هيبة جيشه ومسّت بما استقرَّ في وجدان مستوطنيه من الشعور بالأمن وبقوة إسرائيل وتفوقها العسكري النوعي على الفلسطينيين بمرّات عديدة، وأيضاً لوجود عدد كبير من الأسرى لدى المقاومة الذين أصبحوا عنواناً من عناوين استمرار العدوان بالرغم من مخارج التبادل التي قدّمتها المقاومة الفلسطينية.

عمليات المقاومة على الجبهة اللبنانية لها أبعاد عسكرية وتعبوية هامة، وهي تواكب بأفق مفتوح التطورات على جبهة غزة إنطلاقاً من رؤية الترابط الموضوعي بين مصير لبنان ومصير المنطقة في مواجهة عدو متوحش

حسابات التصعيد

ويمكن مناقشة الطرح الآخر الداعي لتصعيد المقاومة على حدود لبنان بالآتي:

إن التصعيد المفتوح في الظروف الحالية، والمقاومة في غزة لا تزال فعّالة وتحتفظ بقدرات جيّدة جداً، سيتحول إلى حرب إقليمية مع العدو، وهو بمثابة العمل على إطفاء حريق كبير بإشعال حريق أكبر. وفي حال اندلاع مثل هذه الحرب، ستصبح غزة مثل حالة الضفة الغربية التي يُقتل أبناؤها وتُدمَّر أحياؤها بمعدلات غير مسبوقة من دون ضجيج، بالنظر إلى الإهتمام الأكبر بما يجري من تدمير في غزة. بمعنى آخر، ستتاح فرصة للعدو لزيادة منسوب المذابح في قطاع غزة وسط دخان الحرب الإقليمية. زدْ على ذلك أن الحرب الكبرى في الوقت الراهن سوف تستجلب مزيداً من التكتل الغربي إلى جانب إسرائيل سياسياً وعسكرياً بالنظر إلى الأخطار التي تُحيط بها، في وقت يشهد هذا التكتل الآن بعض مؤشرات التفكك. وتشير تقديرات عسكرية إلى أن فتح الجبهة من جهة لبنان على نطاق أوسع لن يُخفّف عن غزة لأسباب عدة، وتضيف أنه حتى في حال حصول مثل هذا التطور ستكون المواجهة نارية على الأغلب وستترتب عليها أضرار في البنى التحتية على الجانبين، ومن غير المرجح أن يبادر جيش العدو أو يُستدرج إلى هجوم بري واسع داخل الأراضي اللبنانية في ظل الحرب القائمة في غزة.

أما الدعوة لوقف العمليات ضد العدو عند الحدود اللبنانية – الفلسطينية فهي تَصدر من جانب من لا يشارك فيها بالفعل ولا يدرك أبعاد ومخاطر ما يجري في غزة على لبنان والمنطقة (تكفي الإشارة للإقتراح الجديد من رئيس المجلس الاستيطاني في المطلة ديفيد أزولاي إلى تهجير سكان غزة إلى مخيمات لبنان). ووقف العمليات هو في الأساس مطلب إسرائيلي وأميركي، ومن غير المعقول أن تعمل المقاومة وفق أجندة العدو. كما أن المشاركة في التضامن العملي وتحمّل التضحيات إلى جانب الشعب الفلسطيني هو في نظر المقاومة اللبنانية قيمة تنطوي على أبعاد إستراتيجية وأخلاقية ودينية وقومية وإنسانية. وعدم تحقيق هدف وقف العدوان حالاً لا يعني أن هذا الجهد المقاوم لا يؤثر في إرادة صانعي القرار الدوليين، ذلك أن الأمور تُقاس بالتراكم، ومن شأن إبقاء الجبهة مفتوحة على إحتمالات شتى أن يُبقي العدو وشركاءه في حالة قلق مطلوبة في سياق إدارة المعركة على النطاق الأوسع.

وتنظر مصادر عسكرية أيضاً إلى أهمية جبهة الجنوب اللبناني من زاوية أن العدو اضطر إلى تجزئة جبهة غزة وعدم الدخول إلى كل محاورها دفعة واحدة بسبب افتقاد الزخم البشري اللازم لشن هجوم شامل عليها، حيث تتوزع القوات في قطاع غزة والضفة الغربية وشمال فلسطين المحتلة، وهي جميعها جبهات ساخنة على مدار الوقت.

الخلاصة، أن عمليات المقاومة على الجبهة اللبنانية لها أبعاد عسكرية وتعبوية هامة، وهي تواكب بأفق مفتوح التطورات على جبهة غزة إنطلاقاً من رؤية الترابط الموضوعي بين مصير لبنان ومصير المنطقة في مواجهة عدو متوحش. ويمكن الإستدلال على أهمية دور هذه الجبهة بصراخ قادة العدو الذين يُهدّدون ويتوعدون لكنهم سرعان ما يتحدثون عن “أولوية الحل الدبلوماسي”!

Print Friendly, PDF & Email
علي عبادي

صحافي وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  بوتين وأردوغان.. المساكنة تهتز!