كيف بدأ الصراع بين أميركا وإسرائيل من جهة والمحكمة الجنائية الدولية من جهة أخرى؟
بدأ الصراع عقب إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان سعيه للحصول على مذكرات اعتقال بحق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت من الجهة الإسرائيلية، والقادة في حماس يحيى السنوار ومحمد الضيف وإسماعيل هنية من الجانب الفلسطيني، وذلك بتهم عديدة منها ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية واستعمال المجاعة كسلاح حرب.
حمل بيان المدعي العام العديد من المفردات التي أشارت إلى تركيز التحقيق على الإنتهاكات الإسرائيلية، برغم أنه لم يتطرق إلى جريمة الإبادة الجماعية بل ركّز في الأغلب على السياسة الإسرائيلية التي أدت إلى تجويع الفلسطينيين عن قصد، مُقدماً لتدعيم رأيه جملة من المعطيات، بينها تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي التي قال فيها إنه أمر بحصار كامل على غزة “لا كهرباء ولا طعام ولا مياه ولا غاز. سنُعلق كل شيء”.
أدى هذا الإعلان إلى موجة غضب أميركية ـ إسرائيلية، واعتبرت تل أبيب أن التهم الموجهة ضد نتنياهو وغالانت وضعتهما في الخانة نفسها مع قادة حركة حماس التي لطالما وصفوها بالارهابية، الأمر الذي جعل إسرائيل تلوّح بخطوات انتقامية ضد المحكمة الجنائية وأفرادها.
لاقى البيان الصادر عن المدعي العام كريم خان استنكاراً من المسؤولين الأميركيين حتى وصل الأمر ببعضهم حد تهديد خان والتلويح بالعقوبات ضده وضد أي فرد من أفراد المحكمة الجنائية يُمكن أن يُصدر أمراً باعتقال أي من القادة الإسرائيليين، على أن تصل هذه العقوبات إلى حد مصادرة الأملاك أو الأموال في الولايات المتحدة أو منع السفر إليها.
وكان بعض أعضاء الكونغرس الأميركي ومجلس الشيوخ قد كتبوا رسالة إلى المدعي العام، تزامن نشرها مع إطلالة كريم خان عبر شاشة محطة “سي. إن. إن.” وتنص على الآتي: “استهدفوا إسرائيل وسنستهدفكم. إذا مضيتم قدماً في الإجراءات المشار إليها في التقرير، فسنتحرك لإنهاء كل الدعم الأميركي للمحكمة الجنائية الدولية، ومعاقبة موظفيكم وشركائكم، وحظركم وعائلاتكم من الولايات المتحدة الأميركية”.
بدوره، صرّح خان في المقابلة المذكورة بأن بعض القادة تحدثوا إليه بشكل صريح بأن “هذه المحكمة بُنيت من أجل إفريقيا ومن أجل السفاحين مثل بوتين”، فهل المقصود من هذه العبارة القول إن الولايات المتحدة وحلفائها من “دول ديموقراطية” لا يخضعون للمحاسبة ولا للقوانين الدولية.
هل للمحكمة الجنائية صلاحية محاكمة شخصيات إسرائيلية؟
تعالت الصرخات الأميركية والإسرائيلية ضد المحكمة الجنائية الدولية بحجة أنه ليس لهذه الأخيرة أي صلاحية بالنظر في القضية التي تقدمت بها دولة جنوب إفريقيا، وذلك كون المحكمة هذه تعتبر مكملة لاختصاص المحاكم الوطنية وبأن فلسطين لا تشكل دولة بحد ذاتها وبذلك يرجع الاختصاص للمحاكم الإسرائيلية. كما أن كلاً من إسرائيل والولايات المتحدة ليستا طرفاً في نظام روما الأساسي، وبذلك لا يمكن أن تقوم المحكمة الجنائية بملاحقة أي مواطن أميركي أو إسرائيلي.
في 5 شباط/فبراير 2021 تم البت بهذا الأمر، عندما أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى قراراً بصلاحية المحكمة الجنائية بالنظر في الجرائم الواقعة على الأراضي الفلسطينية (قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية)، بعد تحقيق دام حوالي الأربع سنوات من 16 كانون الثاني/يناير 2015 إلى 20 كانون الأول/ديسمبر 2019، كون دولة فلسطين تُعتبر طرفاً في نظام روما الأساسي بعد أن وقّعت عليه وأصبح نافذاً عام 2015.
تصبح هذه الدول الأوروبية أمام أحد خيارين: الأول، تنفيذ قرار المحكمة باعتقال الأشخاص الصادرة بحقهم أوامر اعتقال. الثاني، نقض نظام روما الأساسي الذي لطالما نادت هذه الدول بوجوب التقيد به وبخاصة أنها دعمت قرارات هذه المحكمة في حالات سابقة
أما القول بأن المحكمة الجنائية مكملة للمحاكم الوطنية، فهذا من بين أهم السمات التي تُميّزها والتي تُعبّر عن احترام سيادة الدول على أراضيها. غير أن المادة 17 من نظام روما الأساسي المتعلق بالمقبولية تهدف إلى وضع قاعدة صريحة للفصل في مشكلة تنازع الإختصاصات بين المحكمة الجنائية من جهة والمحاكم الوطنية من جهة أخرى، فلقد نصت هذه المادة على الآتي:
“الدعوى لا تُقبل أمام المحكمة الجنائية الدولية في ثلاث حالات:
أ- إن كانت السلطات الوطنية في صدد النظر بالدعوى.
ب- إن كانت السلطات الوطنية قد باشرت فعلاً بالتحقيق بالدعوى واتخذت قراراً بعدم المقاضاة.
ج- إن جرت مقاضاة فعلاً على الصعيد الوطني”.
وبرغم كون إسرائيل ليست طرفاً في نظام روما الأساسي، إلا أن محاكمة مرتكبي الجرائم من الإسرائيليين يبقى ممكناً حالها كحال روسيا التي لا تعترف بسلطة هذه المحكمة ومع ذلك تم إصدار أوامر اعتقال بحق رئيسها.
ماذا بعد؟
تواجه المحكمة الجنائية لحظة صعبة من الضغط والتهديد ولا سيما من الجانب الأميركي الذي لطالما ساعد في حماية إسرائيل من عواقب أعمالها، ولكن للمرة الأولى تبدى للمجتمع الدولي أن المدعي العام كريم خان مصممٌ على السير في الدعوى برغم التهويل من هنا وهناك، وبالتالي صار إصدار أوامر الاعتقال بحكم المحسوم إلا إذا طرأ أمر ليس بالحسبان.
ومع صدور هذه الأوامر، تكون الدول الـ124 الموقعة على نظام روما ملزمةٌ بالتقيد به، وفقاً للمادة 86 من نظام روما الأساسي التي تنص على الالتزام العام بالتعاون مع المحكمة، وبالتالي فإن خطورة الأمر بالنسبة لإسرائيل أن قادتها سيُصبحون ملاحقين ومهددين بخطر الاعتقال وتقديمهم للمحكمة الجنائية الدولية في حال أقدموا على السفر إلى أي دولة موقعة على هذا النظام وبينها الدول الأوروبية الحليفة لإسرائيل. وبذلك تصبح هذه الدول الأوروبية أمام أحد خيارين: الأول، تنفيذ قرار المحكمة باعتقال الأشخاص الصادرة بحقهم أوامر اعتقال. الثاني، نقض نظام روما الأساسي الذي لطالما نادت هذه الدول بوجوب التقيد به وبخاصة أنها دعمت قرارات هذه المحكمة في حالات سابقة.
فهل ستنجو إسرائيل مرة أخرى من العقاب أم سنكون أمام مشهد دولي جديد فنرى الدولة المتربعة على عرش النظام العالمي حالياً عاجزة عن مساعدة حليفتها المُدلّلة والتي قد تجرها معها إلى المحاكم الدولية نتيجة الدعم السياسي والعسكري غير المشروط لها؟