في الحادي عشر من آب/أغسطس 2022، كشفت وكالة أنباء “الأناضول” التركية عن محادثة قصيرة أجراها وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو مع نظيره السوري فيصل المقداد على هامش اجتماع لحركة عدم الإنحياز في العاصمة الصربية بلغراد.
هذا “الكشف” لم يكن مجرداً من دلالته السياسية خصوصاً حين يتعلق الأمر بالعلاقات السورية التركية المعقدة، ولذلك كان من الإستحالة تحييد “المحادثة” عن مضمون يقول إن ثمة محاولات قطعت أشواطاً على طريق المصالحة الصعبة بين دمشق وأنقرة.
ذاك اللقاء، وإن تم تصنيفه كـ”محادثة عابرة”، لم يكن الأول بين المسؤولين السوريين والأتراك، ففي 13 كانون الثاني/يناير 2020 أشارت صحيفة “الأخبار” اللبنانية إلى “أول لقاء أمني معلن بين وفدين رسميين، سوري وتركي ـ حيث ـ التقى رئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك مع رئيس جهاز الإستخبارات التركية حقان فيدان، في اجتماع ثلاثي حضره عدد من المسؤولين الروس في موسكو”، وفي التاريخ نفسه، نقلت قناة “روسيا اليوم” التلفزيونية عن وكالة “سانا” السورية الرسمية أن الجانب السوري طالب “بالإلتزام الكامل بسيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها وسلامة أراضيها ووحدتها أرضاً وشعباً إضافة إلى الإنسحاب الفوري والكامل من الأراضي السورية كافة”.
وبطبيعة الحال، ما كان متوقعاً من تلك اللقاءات أن تزيل العقبات المتراكمة بين الدولتين الجارتين، ولكن الرعاة الروس والإيرانيين، كانوا يهدفون إلى إذابة رأس الجليد بين سوريا وتركيا من خلال المباحثات المباشرة وإظهار مطالب وهواجس الطرفين، وعلى ما علقت صحيفة “الشرق الأوسط” آنذاك (28 ـ 8 ـ 2022) بعد لقاء مملوك ـ فيدان “أن المحادثات الأمنية أظهرت استمرار الفجوة بين الجانبين وتصاعد الرغبة الروسية بحلها، فدمشق تطالب بـجدول زمني لإنسحاب القوات التركية من أراضيها، وتتمسك أنقرة بمناطق آمنة في شمالي سوريا”.
ومع ذلك لم يضرب اليأس عقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فقد “اتسعت مروحة الإتصالات السرية والعلنية لإختبار جديد لأفق التطبيع مع دمشق، بينها لقاءات أمنية سورية – تركية في ريف اللاذقية بهدف فتح طريق حلب – اللاذقية” على ما كتبت صحيفة “الشرق الأوسط” في الثاني والعشرين من كانون الثاني/يناير 2023، والجديد ـ القديم في الجهود الروسية وفق الصحيفة “إصرار بوتين على تمهيد الأرضية لجمع الرئيسين رجب طيب إردوغان وبشار الأسد قبل الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية في أيار/مايو” 2023، ولأجل ذلك “وضعت موسكو موعدا للإجتماع في 11 كانون الثاني/يناير 2023، لكن أنقرة لم تكن مستعدة لهذا اللقاء بعد نصيحة أميركية بعدم إجرائه قبل وصول وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو إلى واشنطن في 18 الشهر، كما أن دمشق لم تكن مستعدة لـلقاء لأجل اللقاء بل تريد جدولاً ومخرجات واضحة”.
ثمة من يقول إن بغداد التي مهدت للمصالحة السعودية ـ الإيرانية قبل أن تندفع الصين إلى إنضاجها، تقوم في هذه الآونة بالمهمة نفسها، وذلك من مصلحة العراق، فالسوريون والأتراك والعراقيون يشربون من المياه نفسها، ويعانون من تعقيدات أمنية متشابهة، والحدود المشتركة بين الدول الثلاث يفترض أن تتحول إلى مساحات تعاون وليس إلى ميادين صراع
وعلى ما ظهر لاحقاً أن الجهود الروسية اثمرت لقاءً رباعياً جمع وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، مع وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان، ووزير خارجية سوريا فيصل المقداد ووزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو، بحسب بيان منشور على موقع وزارة الخارجية الروسية مرفق مع صورة رسمية لوزراء الخارجية الأربعة في العاشر من أيار/مايو 2023.
ما الجديد هذه المرة؟
بالإستناد إلى ما نقلته وسائل إعلامية عربية ودولية ومنها وكالة “الأناضول” في 29 حزيران/يونيو الفائت، قال أردوغان: “لا يوجد سبب لعدم إقامة علاقات بين تركيا وسوريا، مستعدون للعمل معاً على تطوير هذه العلاقات مع سوريا بنفس الطريقة التي عملنا بها في الماضي، لا يمكن أن يكون لدينا نية أو هدف مثل التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا، الشعبان التركي والسوري شقيقان ويعيشان جنباً إلى جنب، عقدنا لقاءات في الماضي مع السيد بشار الأسد، وحتى لقاءات عائلية، ويستحيل أن نقول إن ذلك لن يحدث في المستقبل، بل يمكن أن يحدث مرة أخرى”.
هذا التصريح يختصر اتجاها واضحا في مسار تصويب العلاقات السورية ـ التركية، ومن دون شك يمكن اعتباره مؤشراً إلى محمول إيجابي قطعته مساعي المصالحة بين دمشق وأنقرة، وهو الأمر الذي كان أشار إليه الرئيس الأسد بعد لقائه المبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف، وفي هذا السياق أفاد بيان منشور على موقع رئاسة مجلس الوزراء السوري (27 ـ 6 ـ 2024) ان الأسد “أكد خلال لقاء ألكسندر لافرنتييف، انفتاح سوريا على جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سوريا وتركيا والمستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها من جهة، ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته من جهة أخرى، مشدداً أن تلك المبادرات تعكس إرادة الدول المعنية بها لإحلال الإستقرار في سوريا والمنطقة عموماً”. وحيال هذين الموقفين كتبت صحيفة “الوطن” السورية في الثلاثين من حزيران/يونيو الماضي نقلاً عن “مصادر متابعة” أن هناك خطوات “مرتقبة وجدية لعودة جلوس الطرفين السوري والتركي على طاولة الحوار”.
ولكن أية مبادرات تعمل على خط دمشق ـ أنقرة؟
من الثابت أن روسيا وإيران والصين، تعمل منذ سنوات لإنضاج تسوية سورية ـ تركية، ولا يُخفى أن موسكو وطهران بالتحديد أسهمتا في تمهيد السُبل للقاءات الأمنية والسياسية بين المسؤولين السوريين والأتراك في العاصمة الروسية، ومثلما سبق القول بأن غاية تلك اللقاءات دارت في فلك التباحث المباشر واستعراض وجهات النظر المتقابلة، فضلاً عن البحث عن أرضية ثقة ضرورية يقف الطرفان السوري والتركي عليها بعد أكثر من عقد من الصراع المرير، وبالتزامن مع نضوج المبادرات الروسية والإيرانية، تقدمت منذ السنة المنصرمة مبادرة إمارتية، ولحقتها مبادرة عراقية، وفي تفاصيلهما الآتي:
أولاً؛ المبادرة الإماراتية:
في الثامن من كانون الثاني/يناير 2023، كتبت صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية “تسعى دولة الإمارات للإنضمام بمستوى رفيع، إلى روسيا في رعاية التطبيع السوري ـ التركي، وبحسب المعلومات سيجتمع وزيرا الخارجية السورية فيصل المقداد والتركية مولود جاويش اوغلو، بحضور وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف في موسكو، يوم الأربعاء المقبل، وسط جهود لترتيب مشاركة وزير الخارجية الإماراتية الشيخ عبد الله بن زايد، ومن المقرر أن يمهد هذا اللقاء لقمة تضم الرؤساء الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان والسوري بشار الأسد، وبحسب المعلومات فإن الإمارات عرضت استضافة هذه القمة”.
ثانياً؛ المبادرة العراقية:
نسبت قناة “خبر تُرك” في الأول من حزيران/يونيو الفائت إلى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني قوله إن بغداد تعمل على خط المصالحة بين سوريا وتركيا “وقريباً سنرى خطوات في هذا الإتجاه”.
وبعد أربعة أيام (5 ـ 6 ـ2024) على إعلان السوداني، أبلغت مصادر عراقية وكالة “شفق نيوز” البغدادية “أن مساعي العراق لتذويب الخلافات بين سوريا وتركيا، ومحاولة إعادة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها، أثمرت عن اجتماع سيجمع ـ مسؤولين من ـ دمشق وأنقرة في العاصمة بغداد قريباً”، فيما نقلت صحيفة “الوطن” الدمشقية (30 ـ 6 ـ 2024) عن مصادر سورية “بأن اجتماعاً سورياً تركياً مرتقباً ستشهده العاصمة العراقية بغداد، وهذه الخطوة ستكون بداية عملية تفاوض طويلة قد تفضي إلى تفاهمات سياسية وميدانية، وأشارت إلى أن الجانب التركي كان طلب من موسكو وبغداد الجلوس على طاولة حوار ثنائية مع الجانب السوري ومن دون حضور أي طرف ثالث وبعيداً عن الإعلام للبحث في كل التفاصيل التي من المفترض أن تعيد العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها”.
وفي الأول من تموز/يوليو الحالي، أكدت المصادر السورية للصحيفة نفسها “أن خطوة إعادة التفاوض والحوار للتقريب بين أنقرة ودمشق، تلقى دعماً عربياً واسعاً، وخصوصاً من قبل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، كما تلقى دعما روسياً وصينياً وإيرانياً، حيث تعتبر هذه الدول أن الظروف تبدو حاليا مناسبة لنجاح هذه المفاوضات”، وفي الإتجاه نفسه أكدت مصادر عراقية (2 ـ 7 ـ 2024) لصحيفة “الشرق الأوسط” أن الحكومة العراقية “تلعب دوراً وسيطاً بين تركيا وسوريا، تمهيداً لعقد لقاء للتطبيع بينهما في بغداد، وقال مسؤول في مكتب رئيس الحكومة العراقية إن بغداد تعمل على إنجاح وساطتها لترطيب الأجواء بين دمشق وأنقرة، وأن تبدأ مرحلة استقرار جديدة في المنطقة”.
وآخر ما نشرته “الوطن” السورية (3 ـ 7 ـ 2024) مستندة إلى مصادر خاصة “أن اتصالات عربية وروسية لا تزال مستمرة لضمان سيادة الأراضي السورية كاملة قبيل أي اجتماع مزمع عقده بين دمشق وأنقرة في بغداد في وقت لم يُحدّد ولم تنضج ظروفه حتى الآن، وهناك اتصالات مستمرة مع موسكو وعواصم عربية تضمن أن يخرج أي لقاء مع الجانب التركي بتعهد واضح وصريح وعلني بالإنسحاب من كامل الأراضي السورية”.
ما يجري على طريق بغداد ـ أنقرة ـ دمشق ليس عادياً، وثمة من يقول في العاصمة العراقية إن بغداد التي مهدت للمصالحة السعودية ـ الإيرانية قبل أن تندفع الصين إلى إنضاجها، تقوم في هذه الآونة بالمهمة نفسها، وذلك من مصلحة العراق، فالسوريون والأتراك والعراقيون يشربون من المياه نفسها، ويعانون من تعقيدات أمنية متشابهة، والحدود المشتركة بين الدول الثلاث يفترض أن تتحول إلى مساحات تعاون وليس إلى ميادين صراع، ولو نجحت الوساطات هذه المرة، قد يُردّد أهل دمشق وبغداد وأنقرة أبيات شعر لجلال الدين الرومي يقول فيها:
هل ضَرَّ هذا الكون نبض لقائنا
أم أن هذا الحزن أدمن أضلعي
قل للمسافات البعيدة بيننا
أرجو بحق الله ان تتواضعي.