غداة الاعلان عن النتائج النهائية للدورة الثانية للانتخابات التشريعية الفرنسية دخلت البلاد في المجهول، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، نتيجة الوضع السياسي والنيابي المستجد والمثقل بالتناقضات والانقسامات والمحاط بضباب كثيف تصعب معه الرؤية لما ستؤول اليه الأمور.
قراءة متأنية في النتائج
قراءة النتائج تفرض نفسها قبل التوقف عند مدلولاتها:
أولاً؛ قوى اليسار المنضوية في إطار “الجبهة الشعبية الجديدة” (تحالف أحزاب الاشتراكي والشيوعي والخضر وفرنسا الأبية) حصلت مجتمعة على أكبر عدد من المقاعد (182 مقعداً) في الجمعية الوطنية الجديدة وحلّت في المركز الأول ولكن دون أن تصل إلى الأكثرية المطلقة (289 مقعداً من أصل 577 مقعداً) ولا تحصل حتى على الأكثرية النسبية.
ثانياً؛ تمكّن حزب “النهضة” الذي أسّسه الرئيس ايمانويل ماكرون من الحد من خسائره فحلّ في المركز الثاني مع حلفائه (163 مقعداً بينما كان حصل في الجمعية الوطنية المنحلة على 250 مقعداً).
ثالثاً؛ تمكّن حزب “التجمع الوطني” اليميني المتشدد، بزعامة مارين لوبن وبرئاسة جوردن بارديلا، من زيادة عدد نوابه بشكل ملحوظ بنسبة حوالي الضعف من 89 إلى 143 إلا أنّه حلّ في المركز الثالث برغم أن معظم الاستطلاعات كانت توقعت تصدره المشهد النيابي وتأهله لتشكيل الحكومة الجديدة. وبالرغم من هزيمته بات “التجمع” أقوى من أي وقت مضى إذ حصد أكثر من عشرة ملايين صوت على صعيد البلاد ككل. ومن أبرز أخطاء اليمين المتطرف أنه اختار مرشحين مجهولين، غير قادرين على الدفاع عن برنامج حزبهم الذي لم يكن بدوره مستعداً لهذه الانتخابات المبكرة، برغم مطالبته بها مراراً، إذ تبين أنه لم يكن ينتظر حصولها بهذه السرعة ولم يكن لديه متسعاً من الوقت لاعداد نفسه نظراً لأن ماكرون حدّد موعد الدورة الأولى في 30 حزيران/يونيو، أي بعد ثلاثة أسابيع من إعلانه حل البرلمان في 9 حزيران/ يونيو الماضي.
وفي الوقت نفسه، بدا جوردان بارديلا رئيس الحزب الذي يُروّج له منذ ما يقارب العامين بأنه يسعى لإعداد “خطة ماتينيون” الخاصة به ، بدا أنه يفتقر إلى الاحتراف في ظل غموض برنامج حزبه الانتخابي، كما أنه لم يتمكن من طمأنة الجمهور لا سيما بعد تصريحاته ضد مزدوجي الجنسية بأن لا مكان لهم في المناصب العليا. كما أنّه لم يستطع مواجهة ما أنتجته عمليات الانسحاب المتبادلة من قبل القوى المنافسة لحزبه في العديد من الدوائر. وقد اعترف بتحمله قسطاً من مسؤولية هذا الفشل.
رابعاً؛ تمكن حزب “الجمهوريين” اليميني المعتدل من المحافظة على وجوده السياسي والنيابي بحصوله على 66 مقعداً برغم قيام رئيسه اريك سيوتي، وبمبادرة شخصية منه، إلى الالتحاق باليمين المتطرف واجراء تحالف معه.
الاستنتاجات الأولية
1-عنصر المفاجأة: إنّها المرة الأولى التي تأتي فيها نتائج الدورة الثانية لتناقض نتائج الدورة الأولى لا بل أكثر من ذلك تقلب مراكز القوى وتُعيد توزيعها في الجمعية الوطنية الجديدة، وقد كانت الدورة الأولى أشبه باستفتاء ضد حكم ماكرون. أما الدورة الثانية فكانت أشبه باستفتاء ضد اليمين المتطرف المتمثل بجوردن بارديلا وبالتالي لم تكن عملية انتخاب “مع” بل تعبير عن “َضد”.
2-حكم متعثر: نحن أمام جمعية وطنية جديدة يسيطر عليها التشرذم وتضعضع القوى وعدم حصول أي تجمع نيابي على الأكثرية المطلقة 289، ما يجعل ممارسة الحكم عملية صعبة ومعقدة بحيث سيُخيم بشكل متواصل شبح حجب الثقة عن أية حكومة أقلية جديدة، ما سيُعرّضها للسقوط وبالتالي الحؤول دون تنفيذ برنامجها من جراء عدم القدرة على جمع أكثرية نيابية تؤيد مشاريع القوانين التي تطرحها.
3-تحالف يساري هش: بدا التحالف اليساري الفائز هشاً منذ اللحظات الأولى لاعلان نتائج الانتخابات، وهو يعاني من ضعف انقسام مزدوج؛ من جهة حول بعض بنود برنامجه الإصلاحي ومن جهة أخرى التباين حول موضوع اختيار الشخصية المؤهلة لتشكيل الحكومة الجديدة. ومن غير الواضح إلى أين ستؤول المشاورات والاتصالات المكثفة بين أركان التحالف من أجل التوصل إلى تصور مشترك.
يخشى خبراء من استمرار ماكرون بـ”المغامرة” من جهة وعدم مبادرة الطبقة السياسية والحزبية الحالية إلى التعامل بمسؤولية مع هذه المرحلة غير المسبوقة في تاريخ الجمهورية الخامسة من جهة ثانية، وبذلك يصدق في المستقبل غير البعيد ما رآه اليمين المتطرف في النتائج الحالية بأنه “انتصار مؤجل”، في إشارة إلى المعركة الرئاسية المقبلة
4-اقصاء المتطرفين: على خط مواز، هناك مساعٍ بعيدة عن الأضواء لحزب ماكرون من أجل تحقيق تقارب وائتلاف بين مجموعة من القوى السياسية من اليمين واليسار المعتدلين على أن يبقى المتطرفون يميناً ويساراً خارج هذا الإئتلاف بهدف تشكيل فريق حكومي جديد يُمكنه العمل في هذه “الفترة الحرجة والدقيقة والخطيرة” من حياة فرنسا.
5-تشظي الحلفاء: ثمة انقسامات حادة داخل كل فريق سياسي حول الموقف الواجب اتخاذه حيال التجاوب مع سياسة مد اليد وتحقيق تقارب لانقاذ ما يمكن انقاذه وتجنيب البلاد فترة من عدم الاستقرار السياسي وتفاعل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية من خلال قيام تحالف وطني بين القوى المعتدلة.
6-أولوية الإستقرار: في ظل هذه الأجواء الملبدة بالغيوم، يُفضّل ماكرون التزام الحذر والانتظار قبل اتخاذ أي قرار وبالتالي ممارسة لعبة الوقت ريثما “تتضح الهيكلية الجديدة للجمعية الوطنية”. لذلك، دعا ماكرون رئيس حكومته غبريال أتال الذي جاء لتقديم استقالته، أمس (الإثنين) إلى “البقاء في الوقت الحاضر” والاستمرار في ممارسة مسؤولياته “صوناً لتأمين الاستقرار” في البلاد. لكن ماكرون لا يستطيع أن يتجاهل تماماً الوضع السياسي الجديد الناتج عن الانتخابات. والواقع أن حكومة الأقلية في الجمعية الوطنية ستكون مُعرضة لخطر تقديم اقتراح بسحب الثقة، والذي يمكن تقديمه في الجلسة الأولى للجمعية الوطنية المقبلة المقرر عقدها في 18 تموز/يوليو، بموجب المادة 12 من الدستور.
ماذا عن مستقبل فرنسا؟
صحيح أن المشهد السياسي المستجد وخصوصاً عدم تمكن اليمين المتشدد والمتطرف من الوصول إلى الحكم قُوبل من جيران فرنسا الأوروبيين وحلفائها الغربيين بالارتياح “لتجنب الأسوأ”، إلا أن حالاً من القلق والترقب بدا ظاهراً عند هذه الجهات الخارجية نتيجة “الغموض الكثيف” الذي يلف المرحلة المقبلة ويُهدّد بـ”شلل” المؤسسات الدستورية.
والملاحظ أن المفردات السياسية المستعملة حالياً في فرنسا تُذكّر بالوضع اللبناني المتأزم من “التوازنات” و”حكومة تصريف الأعمال” إلى العمل على “صون الاستقرار” مروراً بـ”مساعي التوافق الوطني” وكأنه ينقصها موفد خارجي من أجل “تقريب وجهات النظر” والتوصل إلى تسوية ما!
وهذا الواقع يقود إلى الاستنتاج بأن فرنسا قادمة على سنة مضطربة سياسياً ودستورياً وكل الاحتمالات خلالها ستكون واردة (سنة كاملة لا يمكن لرئيس الجمهورية خلالها حل البرلمان المنتخب حديثاً)، خصوصاً أن عدداً لا بأس به من الشخصيات السياسية الفرنسية لا يُفكر بالمصلحة العامة بل بالمصلحة الخاصة ولا بالغد القريب بل بخلافة ماكرون في قصر الإليزيه.. ولائحة الطامحين رئاسياً تطول من رئيسي الوزراء في ولايتي ماكرون الحالي غبريال أتال والسابق ادوارد فيليب مروراً بوزيري الداخلية والاقتصاد الحاليين جيرار درمانان وبرونو لومير، من دون أن ننسى عدد من قياديي حزب “الجمهوريين” والنائب الأوروبي القريب من الحزب الاشتراكي اندريه غلوكسمان إضافة إلى زعيمي اليمين المتطرف مارين لوبن واليسار المتطرف جان- لوك ميلونشون.
ويخشى خبراء ومتابعون من استمرار ماكرون بـ”المغامرة” من جهة وعدم مبادرة الطبقة السياسية والحزبية الحالية إلى التعامل بمسؤولية مع هذه المرحلة غير المسبوقة في تاريخ الجمهورية الخامسة من جهة ثانية، وبذلك يصدق في المستقبل غير البعيد ما رآه اليمين المتطرف في النتائج الحالية بأنه “انتصار مؤجل”، في إشارة إلى المعركة الرئاسية المقبلة!