من خلال أطروحة قد تبدو اليومَ غير مألوفة للكثيرين واقعاً، يُصرّ الباحثان الفرنسيّان، بيير-إيف بولوريه وأوليفييه بوناسييس، على أنّ لدى البشريّة، اليوم، الأدلّة – بل البراهين برأيهم – العلميّة القويّة جدّاً والكافية والوافية والواضحة في سبيل ترجيح فرضيّة “وجود الإله” بشكل يكاد يقترب من اليقين.
أمّا سؤال وتفصيل جواب “هل هناك من يقين و/أو اثبات مع الاستقراء (Induction) أصلاً؟”، فنتركه كذلك لمناسبات أخرى. وأمّا سؤال عن “أيّ (إله) نتحدّث؟”.. فمن الفريد أيضاً أنّ الكاتِبَين المذكورَين لا يتحدّثان عن إله سبينوزا مثلاً، أو عن إله أهل وحدة الوجود بشكل عامّ: وإنّما يتحدّثان، بجرأة وبدقّة وبوضوح نادرة جميعاً في كتابات كهذه، عن “إلهِ” ظاهرِ التّوراةِ والإنجيلِ والقرآن.. أي كما يُقال، عن “إله” إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، و”إله” موسى والمسيح والنّبيّين، و”إله” محمّد وآل بيته وأصحابه وأهل الأديان السّماويّة أجمعين. نعم، إنّه الإله “السّماويّ” الشّخصيّ العَليم والقَدير والعادل والرّحيم والكامل، والمتعارف عليه عند أهل هذه الأديان التّوحيديّة الكبيرة المعروفة!
ويمكن القول أيضاً إنّه هُوَ نفسُهُ “الإلهُ” المُسمّى من قبل الفلاسفة العقلانيّين والمشّائين الأرسطيّين المؤمنين: المُسمّى عندهم عادةً بالواجِبِ الوجود (L’Être Nécessaire).. أي الموجود الأزليّ الواحد العاقل القادر المُطلق (أي “الموجود” أزليّاً وبِذاتِه لا بِغَيرِه، أو كما يُعبّر الكاتبان: الموجود الأزليّ الواعي الواحد الكامل، ما-فوق الزّمان وما-فوق المكان وما-فوق المادّة).
هل قلتم “أدلّة علميّة” على وجود.. “واجب الوجود”؟ عجباً لهذا الادّعاء العجيب بعد ما يُناهز قرنيَن من الهيمنة المادّيّة وشبه-المادّيّة (يميناً ويساراً)!
نعم، يقولها بكلّ صراحة وبكلّ براعة وبكلّ جرأة صاحبا عمل “الله، العلم، البراهين: فجر ثورة” (قدّم لهما الفيزيائيّ الكبير، الحائز على جائزة نوبل لاكتشافه عام ١٩٦٤، مع آرنو أ. بينزياس، للأشعّة الكونيّة الخلفيّة المرتبطة بالـBig Bang العظيم: أي البروفيسور روبيرت و. ويلسون. طُبع الكتاب عام ٢٠٢١-٢٠٢٢ من قبل دار Guy Trédaniel في باريس).
القضيّة خطيرة جدّاً إذن. أدلّة – وبراهين – علميّة حديثة على وجود هذا “الإله” نفسه؟ إنّه لأمرٌ ثوريٌّ عظيم.. إذا ما تتبّعنا وفهمنا، برويّة، تفكيرَ الباحثَين وعمَلَهما التّوثيقيّ والتّحليليّ!
لو سمع كانط بهذا الحديث لجُنّ جنونُه ربّما: كيف يُمكن اثبات – وبالملاحظة و/أو بالتّجربة – وجود ما هو واقع ضمن عالم الميتافيزيقيّات؟ لا يقبل الكاتبان، ككثير من المفكّرين المعاصرين، بهذا الهَوَس الكانطيّ المُبين: إذ أنّ الاكتشافات الحديثة، لا سيّما بعد أربعينيّات القرن الماضي، تدلّ على ضرورة وجود كائن كهذا الكائن، وإلّا لما استطعنا تفسير ظواهر فيزيائيّة وطبيعيّة (لا ميتا-فيزيائيّة ولا ميتا-طبيعيّة أبداً): كوجود بداية فيزيائيّة للكون الظّاهر؛ وكوجود كلّ هذه القوانين الفيزيائيّة والبيولوجيّة الدّقيقة إلى درجة مدهشة (والمُهيِّئة لظهور الوعي بشكل عجيب الدّقّة والتّناسق والتّنظيم أيضاً)؛ وكخروج الحياة من الجماد بعد ما يقارب الـ١٠ مليارات سنة من عمر هذا الكون الظّاهر تقريباً.. وما إلى ذلك.
بحسب هذَين الكاتبَين إذن: على كانط ومن اتّبعه أن يهدأوا قليلاً.. بعد كلّ هذا الضّرر الذي ألحقوه بدراسة فرضيّة “الإله” هذه (اثباتاً أو نفياً)، بالاشتراك مع كثير من الفلاسفة التّجريبيّين والمادّيّين والماركسيّين وغيرهم. في واقع الأمور، لقد قمع كانط، فلسفيّاً، العمل العلميّ على اثبات وجود الله. أمّا بعض القوى والأنظمة الماركسيّة (والنّازيّة أيضاً، بحسب الكاتبَين) فقد حاولت منذ النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر.. أن تقوم بهذا القمع جسديّاً وأمنيّاً وعسكريّاً وثقافيّاً.
ولا تنسَ وصول فيلسوف مثل نِيتْشِه، عشيّة بداية القرن العشرين، إلى حدّ ادّعاء مقولة: إنّ الإله قد مات.. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون!
الأكيد أنّ هذه الحقبة قد انتهت بالنّسبة إلى بولوريه وبوناسييس. انتهت حقّاً حسب أطروحتهما: لقد دقّت الاكتشافات العلميّة الأكبر والأحدث ساعةَ نهاية الأطروحة المادّيّة بشكل عامّ. بحسب هذا الكتاب ذي الصّفحات الـ٦٠٠ تقريباً، وذي التّنظيم الدّقيق والأسلوب السّهل برغم صعوبة الموضوع: فالذي حدث عمليّاً هو موت الفلسفات المادّيّة الرّافضة لفرضيّة وجود الله.. وعاد “الإله” إلى الواجهة ومن باب العلوم الحديثة التي أراد البعض إخراجه من خلاله.
إذن، باختصار، هذا الكتاب يَصدحُ بالنّداء التّالي (علميّاً لا أيديولوجيّاً، كما يدّعي على الأقلّ): أيّها الانسان المُعاصر، الغربيّ خصوصاً.. نعم، لقد عادَ الإله! نعم، ومن باب العلوم الحديثة خصوصاً وتحديداً، وبشكل غير متوقّع عند الأكثَرين: لقد عادَ “الإله”!
***
لنترك جانباً الأدلّة والحجج والقرائن (والبراهين) المنطقيّة والفلسفيّة (القويّة حتماً بحسب الكتاب) والتي يذكرها الكاتبان. ولنترك مرورَهما ببعض الأدلّة النّصّيّة من الكتب السّماويّة على أهمّيّتها، ولنترك الأدلّة الرّوحانيّة والعجائبيّة وما إلى ذلك.. دون ذكر مَيل الكاتبَين غير المستغرب عند بعض النّخب، وفي كثير من المواضع، إلى مُجاملة “الشّعب اليهوديّ” كما يسمّيانه (وما هذا بموضوعنا هنا طبعاً..).
لقد بقي الـBig Bang العظيم النّظريّة الأكثر قبولاً على المستويَين المفاهيميّ-النّظريّ من جهة، وعلى المستوى الأمبيريقيّ-التّجريبيّ من جهة ثانية، خصوصاً مع اثبات ظاهرة التوسّع الكونيّ المُبين أيضاً. وبقيَت مع الـBig Bang معضلة سؤال: (مَن أو مَا) قبل الانفجار العظيم، و(مَن أو مَا) بعد الموت الكونيّ المُبين
لنترك كلّ ذلك جانباً، ولنسأل: ما هي الأصناف الأهمّ من الاكتشافات العلميّة الحديثة التي تجعل الكاتبَين يقومان بهذا الادّعاء الخطير.. والذي كان “ليُجنّن” كثيراً من الفلاسفة والمفكّرين الكبار ولأسباب مُختلفة (مثل هيوم، وكانط، وديديرو، وماركس، وفرويد إلخ..)، وحتّى بعض القادة السّياسيّين (مثل لينين وستالين وبعض أهل الماركسيّة والمادّيّة أجمَعين)؟
- النّقطة الجوهريّة الأولى: اكتشاف واثبات الموت الحراريّ للكون (La mort thermique de l’univers)، المفهوم-الظّاهرة المنبثق من القانون الأكبر الثّاني للدّيناميكا الحراريّة (La deuxième loi de la thermodynamique). باختصار ومع التّبسيط غير المؤذي للقصد: خصوصاً بعد أعمال اللّورد كيلفين ولودفيغ بولتزمان وزملائهما، وبعد أن تمّ بذلك اثبات أنّ الكون الظّاهر هذا يتّجه نحو “نهاية” حراريّة حتميّة (أي نحو نهاية “ما” لطاقته الأولى).. بدأت الشّكوك بالتّصاعد حول الفرضيّة المادّيّة المُلحدة عن أزليّة أو سَرمديّة المادّة.
إذا كان للكون المادّيّ “نهاية”، وقد أُثبت ذلك نظريّاً وتجريبيّاً وبشكل دقيق كما يُفسّر الكاتبان وبالتّفصيل المُملّ: (١) أوّلاً، تكون المادّة غير أزليّة ولا سرمديّة بالمبدأ؛ و(٢) ثانياً، لا بدّ – إذن – من أن يكون لهذا الكون من.. بداية! هل قلتم “بداية” حقّاً؟
النّقطة الجوهريّة الثّانية: طرح، ثمّ استكشاف، ثمّ اثبات، نظريّة الانفجار العظيم والدّويّ الكونيّ المُبين.. أي نظريّة الـBig Bang الكبير. قام بذلك مجموعة من العلماء من جنسيّات متعدّدة (من فريدمان ولوميتر وغاموو إلى ويلسون وبينزياس وغيرهم)، وقد تعرّض بعضهم للقمع السّوفياتيّ و/أو النّازيّ.. أو تعرّض للسّجن وللتّعذيب وللاغتيال من قبل كهنة الأديان المادّيّة (نعم، المادّيّة دين وليست علماً، كما يبيّن هذا الكتاب بشكل واضح وذكيّ). باختصار: لقد ضربت نظريّة الانفجار العظيم المواقعَ الخلفيّة للفلاسفة والكَهَنة المادّيّين والمُلحدين.. لأنّها أثبتت، وما زالت تُثبت يوماً بعد يوم، خصوصاً منذ ستّينيّات القرن الماضي، وبما بات يكاد لا يقبل الشكّ أبداً.. أنّ للكون الفيزيائيّ الظّاهر هذا، بداية!
للـBig Bang هذا تصوّرات وتفرّعات متنوّعة، ولكنّها جميعا تقذف في وجهك المعطى الفيزيائيّ التّالي: هناك (بداية) لهذا الكون، و(قبل) هذه البداية (المسمّاة زمنيّاً “بزمن بلانك” أو 10^-43 من الثّانية).. أي قبل تواجد الزّمان والمكان (أو الزَّمَكان) والطّاقة-المادّة، لا نعلمُ “ماذا” كان في “الوجود”.
العقدة الأساسيّة التي يُمثّلها هذا الاكتشاف بالنّسبة إلى المَادّيّين والمُلحدين النّاشطين والحركيّين (أي المدافعين والمروّجين) تكمن في التّفكير البديهيّ التّالي:
- إنّ اثبات وجود “بداية ما” للمادّة بمختلف أبعادها، ألا يؤدّي حتماً إلى التّساؤل حول ما-قبل المادّة، أو ما-فوق المادّة؟
- فعلاً، ما الذي كان “قبل” تواجد هذه المادّة؟ ما الذي يُمكن تصوّره حول ذلك؟
- ولماذا، أو “بأمر ممّن”، حصل هذا الانفجار الكبير الذي ولّد المادّة إذن؟
- والأهمّ ربّما: أنّ هذه الدّقّة العجيبة للقوانين التي تحكّمت بالانفجار المُبين، والتي ما زالت تتحكّم بمختلف أشكال وأبعاد وتحرّكات المادّة إلى اليوم، وبدقّة (شبه) مطلقة وغير متناهية.. ألا تشي بأنّ هناك، ما-قبل المادّة: روحاً أو عقلاً كاملاً مُبينا؟ ألا يشي ذلك بوجود (العقل أو الرّوح) قبل (المادّة).. وبتقديره وبتدبيره لها كما تقول الأديان عموماً؟
وإلّا، فَمَن ذا العاقل الذي يقبل بأنّ هناك (بداية) لظاهرة أو لواقع ما.. دون أن يقبل بأن يكون هناك “ما قبلهما”؟ إدراك أنّ هناك بداية.. يؤدّي إلى إدراك أنّ هناك ما-قبل! وإلّا فما معنى الحديث عن بداية؟
وَمَن ذا العاقل الذي يقبل بأنّ هذه المادّة تحكمها قوانين من النّوع الرّياضيّ (تصوّراً إذا أردت أن تكون كانطيّاً محافظاً.. أو حتّى جوهراً إذا ما اتّبعت رياضيّين كبار مثل أخي المنطق وأبي الحساب كورت ف. غوديل المتوفّى عام ١٩٧٨ م):
من ذا الذي يقبل إذن بأنّ هذه المادّة تحكمها قوانين من النّوع الرّياضيّ، ولا يقبل بأنّ العقل سابقٌ على المادّة؟ أو لا يقبل: بأنّ “ما-قبل” هو بالضّرورة من النّوع “العقليّ” أو “الرّوحيّ” (Spirituel) حسب التّعابير المعتادة؟
الأسئلة هذه ما فتئت تشكّل وبالتّأكيد معضلة كبرى بالنّسبة إلى الفلاسفة والمفكّرين المادّيّين والملحدين-الحركيّين (وأمثالهم). لذلك، أيضاً كما يُبيّن الكتاب، قام بعض هؤلاء بمحاولة ترويج فرضيّات لا يمكن اثباتها أمبيريقيّاً وتجريبيّاً، أو لم يتمكّنوا من اثباتها بشكل مقبول أبداً من قبل زملائهم: كفرضيّة الأكوان المتعدّدة، ونظريّة الأبعاد الموازية، ونظريّة الحِبال وما إلى ذلك من أبنية مفاهيميّة لم يتمّ اثباتها جدّيّاً إلى اليوم.
لقد بقي الـBig Bang العظيم النّظريّة الأكثر قبولاً على المستويَين المفاهيميّ-النّظريّ من جهة، وعلى المستوى الأمبيريقيّ-التّجريبيّ من جهة ثانية، خصوصاً مع اثبات ظاهرة التوسّع الكونيّ المُبين أيضاً. وبقيَت مع الـBig Bang معضلة سؤال: (مَن أو مَا) قبل الانفجار العظيم، و(مَن أو مَا) بعد الموت الكونيّ المُبين.
لقد أغضب هذا الواقع العلميّ علماء ومفكّرين كثيرين، حتّى من طراز ستيفن هوكينغ، والذي وقع مراراً في فخّ محاولة الالتفاف – غير الأمين فكريّاً – على سؤال “ما-قبل”.
وسوف نرى في ما يلي، كيف حاول الكثير من أمثاله أيضاً الالتفاف على الحقائق المتأتّية من علم الحساب والاحتمالات.. خوفاً، في الغالب ربّما، من عودة “الإله” إلى ساحة العلوم والمعارف، وإلى ساحة الحياة اليوميّة للإنسان المعاصر!
(يتبع..)