جورج قُرم، كلُّ شيءٍ بدأ بضِحكةٍ

كان لقائي الأوّل به بعد سنوات، منذ تعلّمتُ على يدِه في الجامعة. ذهبتُ إليه رفقة الصديقة طالبته أيضاً الباحثة في العلاقات الدولية بجامعة لورين الفرنسية، لينا كنّوش. فكانت هذه السيرة، عساها تفي هذا الرجل شيئاً من قدرِه. يُنشَر النصّ بالتزامن مع موقع "المراسل".

يقول وقد طعَنَ: «إذا اتخذنا حياةَ الإنسان مقياساً، فقد يبدو الزمن طويلاً جداً. لكنّه ليس كذلك، إنّه يمرّ بسرعة». أهزّ رأسي موافِقاً أستاذي الثمانينيّ الأشيب، فيما وجهه وجه الطفل يبدو كأنّه جالس بيننا حيث هو في اللوحة الصغيرة فوق رفٍّ واطئٍ على يساري. وجهٌ مرسوم بريشة الأب تنقّل بين رفوف وجدران كثُرَت في خضم حياة شبه ترحالية عاشها صاحبه، حتى استقرّ المطاف بهما من مدّة غير بعيدة خلف باب هذه الشقة العالي، المنقسم إلى مصراعين متوازيَي العرض. وقد كان جورج قُرم أستاذنا، زميلتي لينا كنّوش وأنا، في الجامعة قبل نحو 15 عاماً، لكنّها أعوام تبدو أقصر من رمشةِ العينِ الواحدةِ في محضرِه؛ محضر رجلِ اقتصاد وقانون بالاختصاص الجامعيّ، فمؤرِّخ بالفطرة لا ريب.

فوراً يحيل لقبه العائلي إلى شبه جزيرة القِرم، الذائعة منذ ضمِّها إلى روسيا قبل نحو عقد، والشهيرة في تاريخنا المعاصر بحرب العثمانيين والإمبراطورية الروسية (1853-1856). لكن ليس اللقب من شبه جزيرةٍ، إذ قبل تلك الحرب كان في جبل لبنان رجل اسمه سمعان حكيِّم وقد اختاره الأمير بشير مؤدِّباً لأولاده في عام من أعوام حكمه الطويل بين 1788 و1840. لا نعرِف إلى أيّ درجة كان العقاب نهجَ سمعان في التربية، لكن «في مرّةٍ، سيشكو واحد من الأبناء إلى والده واقعة تعرُّضه لضرب المؤدِّب، فيُنادي الأمير على سمعان معترِضاً، لكن الأخير يبرِّر الموقف بأنّه لا بدّ لأولاد الأمير أن يتأدّبوا أدبَ الأمراء! ما أثار إعجاب بشير الشهابي فتوجَّه إليه بالقول (ضاحِكاً): واللهِ إنّك كالقرمِ!»، قاصِداً قِرمية التوت ويباس الرأس. يروي جورج قرم، ويضحك.

حين عرفناه أستاذاً في معهد العلوم السياسية في جامعة القدّيس يوسف في بيروت، بين خريف 2008 ومستهلّ صيف 2010، كان بوجهه دائم البشاشة يحمل فكراً تنويرياً تعلَّق بنهضة المشرق العربي في القرن التاسع عشر وبقضاياه، ويناهض تغريب العالم بخاصة عبر العولمة (ليست سوى «ثمرة استعمار أوروبا للعالم منذ القرن السادس عشر»)، ويحذِّر من «شرخٍ أسطوريٍّ بين غرب وشرق، يتهدّد السلام في العالم». كما كان الأستاذ يعرض فكرتين رئيسيتين أخريين:

أولاً، التشديد على ضرورة العودة إلى إدراك الاقتصاد لا بصفته عمليات ونماذج حسابية (أو ما يسمّيه «اقتصاد-خيال نيوليبرالي»)، لكن بصفة الاقتصاد السياسي ونظرياته والقوانين المنبثقة منه. في مؤلَّفLe nouveau gouvernement du monde; Idéologies, structures, contre-pouvoirs [حكم العالم الجديد؛ الأيديولوجيات، والبنى، والسلطات المعاكسة] (2013)، يعرِّف جورج قرم «النظام الاقتصادي» بأنّه يُحكَم عليه طبقاً لـ«كفاءته وعدالته ورفاهيته، بعيداً عن المظاهر القانونية الشكلية التي من شأنها أن تجعله نظاماً رأسمالياً أو اشتراكياً أو موجّهاً»[1].

ثانياً، الدعوة إلى قراءات دنيوية لا دينية للصراعات التي تهزّ منطقتنا، والنظر إليها على أنّها تدور في فضاءٍ جغرافيٍّ كانت القوى الاستعمارية الأوروبية قد أشعلته منذ حملة نابليون بونابرت على مصر في عام 1798 في سياق صراعات السيطرة والنفوذ. كذلك، أنّها تحدث حالياً في زمن تنافسيٍّ «تراجعت خلاله تلك القوى الأوروبية لمصلحة الولايات المتحدة، وارثة الشعلة الإمبريالية».

كان في محاضراته هازئاً، عابثاً بالسائد، وبين إصبعيه سيجارة بفيلتر بلاستيكي تكاد لا تفارقهما. ذو طاقةٍ إيجابيةٍ على الدوام، ولهجةٍ لبنانيةٍ يمنحها خصوصيتها نطقُ الألف ممدودةً ومخارجُ حروفٍ بعينها. وذو فرنسيةٍ تسيل منفردةً منذ صقَلها أساتذةُ مدرسة العائلة المقدّسة في القاهرة. إذ إنّ أوّل التنقلات الكثيرة في حياته كان برفقة أهله إلى عاصمة فاروق، في عام 1947. أتوها من الإسكندرية حيث ولِد جورج قرم في مستهل صيف عام 1940. وقد كانت تلك المدينة البحرية «كوزموبوليتية مدهِشة.. جنّة، والشعراء والأدباء والفنانون في الأماكن كافة، لكن طبعاً كان ثمّة إقصاء فاضح للسكان المحليين». لماذا غادرتموها؟، «بسبب إصابتي بالربو وملاءمة هواء العاصمة لحالتي بدرجة أكبر».

في السيرة الروائية La mue: Récit fantastique [الاقتلاع: نصّ غرائبي] (1992)، يروي جورج قرم الذي غالباً ما يكتب بالفرنسية لأنّها «أكثر وصولاً وترجمةً»، عن حياة البطل ميخائيل أنّه عاش وأهله في «شقةٍ في مدينةٍ ظلّت غريبة عنه طوال المراهقة التي كان فيها حبيساً. إذ بحلول ذلك الوقت كان قد مرض وضعف، وراح يتغيّب عن المدرسة يومين من أصل ثلاثة، ويرقد في الفراش ويبتلى بسعال لا ينتهي ينهك أنابيب الشعب الهوائية. كما أنّه غدا متسلِّطاً ومطالباً باستمرار بحضور والدته التي كانت تشعر بالأسف عليه وتلوم نفسها على دفعها لتغيير مكان إقامته»[2].

لكن برغم هذه العلاقة القلقة بالقاهرة والممتدّة حتى عام 1957، سيعيش جورج قرم أحداثاً ومراحل فيها بحجم الحريق الكبير في ليلة 26 كانون الثاني/يناير 1952، والانتقال من حكم فاروق إلى زمن جمال عبد الناصر. زمنٌ «سيتقلّص فيه حيّز الحريات مقارنةً بآخر أيام الملكية». وسيبرز في بداياته صراع البكباشي مع الرئيس الأوّل اللواء محمد نجيب، بعد سنتين على «ثورة يوليو التي وقعت بينما كنّا نمضي الصيف في بيروت». إنّما ضمن جملة الأحداث القاهرية تلك، يوجد واحدٌ فارقٌ ساهم مساهمةً جوهرية في تكوين فكر جورج قرم وقضاياه. إنّه العدوان الثلاثي في عام 1956 على إثر تأميم قناة السويس (إنّه يُعرِب عن اعتقاده بأنّ تلك الإجراءات الرامية إلى تأميم الاقتصادات العربية كانت تولَد في سياق يعادي هذه الأنظمة المعارضة للقوى الغربية في المنطقة ولإسرائيل).

يروي جورج قرم: «بالنسبة إليّ، كان هذا العدوان بمثابة قنبلةٍ كبيرةٍ لأنّه كسر عالمي الجميل.. عالم الطفولة [الذي كانت تؤطِّره] مدرسة نتعلم فيها اللغة الفرنسية والتقاليد الثورية والأدب الراقي، وكان كلّ شيءٍ على ما يرام. فكنّا تلاميذ من جنسيات وأديان مختلفة ونعيش بلا مشكلات اجتماعية». يضيف: «ثم يعني فجأة بتشوف الجيش الفرنسي عم يُضرب مع الجيشين البريطاني والإسرائيلي أكتر شعب مسالم بالشرق، الشعب المصري!»… «ومن وقتها بلّشت قصة القومية العربية تطلع عندي»، يختم حاسماً.

في المؤلَّف المرجعيّ Le Proche-Orient éclaté [انفجار المشرق العربي[3]] (1983)، يختار جورج قرم ذلك اليوم، 26 تموز/يوليو 1956، ليكون تاريخاً رمزياً من شأنه أن يشكِّل «نقطة البداية الملائمة» لسرد تاريخ المنطقة المعاصر. لماذا؟، «لأنّه يُكرِّس مرحلةً من سوء الفهم وتزايد التوتر في العلاقات بين العالمين الغربي والعربي، وهو ما يتّصف به تاريخ المنطقة المعاصر بصورة متواصلة منذ حملة نابوليون بونابرت على مصر في 1798»، إذ أنّها حدث ضخم فجّر ما سيُسمّى المسألةَ الشرقية. ما هذه المسألة؟، «ليست سوى تنافساً شديداً بين القوى الأوروبية الحريصة على تقاسم الأراضي الشاسعة للإمبراطورية العثمانية» حين راح بأسها يهشّ.

وفي مؤلَّف La nouvelle question d’Orient [المسألة الشرقية الجديدة] (2017)، يُقدِّم جورج قرم فرضية أنّ «المواجهات الجيوسياسية التي حدثت في نصف القرن الماضي أوجدت ما أسمّيه: المسألة الشرقية الجديدة». مضيفاً أنّ «محاولة تحديد عناصر الديمومة والقطيعة مع ما غدا المسألة الشرقية القديمة تؤكد التشخيصَ الذي سبق أن قدمه المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي في نهاية الحرب العالمية الأولى، وهو أنّ المسألة الشرقية هي أولاً وقبل كل شيء: مسألة غربية»، في إحالة إلى التنازع الاستعماري.

كما أنّ باختيار جورج قرم ذلك اليوم من صيف 1956 تاريخاً رمزياً، فإنّه يحسم أنّ القرن العشرين العربي لم يبدأ بانهيار السلطنة العثمانية، ولا بانحسار المدّ الأوروبي تحت وطأة الحرب العالمية الثانية. «إنّما في الإسكندرية العريقة بتاريخها المتوسطي، حين ضحك» عبد الناصر مع إعلانه تأميم القناة وتولّي الخبراء المحليين تأمين مرور السفن فيها بدلاً من نظرائهم الأجانب. غير أنّها لا تبدو ضحكة حياة جورج قرم، إذ برغم حماسته المستمرة للخطوة وتبنّيها (مثل المشاريع على غرار بناء السدّ العالي)، فإنّ «حياتي وحياة عشرات الملايين من مواطنيّ في مختلف البلدان العربية، كانت منذ ذلك التاريخ جحيماً لا يطاق (…) وحروباً متكرِّرة بخاصة بعد عام 1990»[4].

لعلّ اللافت للانتباه هنا هو عدم اختيار جورج قرم قيام إسرائيل في 1948 والنكبة تالياً بصفتها تاريخاً رمزياً يُشكِّل «نقطة البداية الملائمة» لسرد التاريخ المعاصر للمشرق العربي، ذلك لأنّه اختار فعلاً عربياً في النظام الدولي (التأميم)، بل «أوّل قرار سيادي تتخذه حكومة عربية وتُدرِجه في النظام الدولي، ففتح لمرحلة جديدة من وعي الشعوب العربية، وأدخلها مرحلة مكافحة الهيمنة الغربية».

إلى جانب العدوان الثلاثي، يوجد حدثٌ فارقٌ آخر أعطى الشكل النهائي لشخصية الشاب جورج قرم. إنّه لقاؤه في عام 1957 بعاصمة ثقافته الفرنسية الراسخة باريس، مع الالتحاق بالجامعة. هناك، «اكتشفتُ المعنى التحقيري لمفردة: عربيّ، لكنّي تماهيتُ معها». أيضاً كانت باريس في حينه مأخوذة بقضية عربية أخرى، هي استقلال الجزائر (حيث سيعيش جورج قرم مراراً في عاصمتها في سياق حياته المهنية بصفته خبيراً مالياً واقتصادياً). «كانت هِيِّ القضية الكبيرة – يقول –، وكِنّا نعمِل مظاهرات ليل نهار، وفي مرّة كان عندي صديق بشرته حنطية إجا البوليس وقبضوا عليه وما أخدوني! فلحقتهم اصرخ يا عمّي خدوني معه! (ضاحكاً) خجلت! شعرت بخجل كبير».

قد تختصر علاقةُ بطل سيرته الروائية ميخائيل بباريس، علاقةَ جورج قرم نفسه بها. فـميخائيل عرف أنّ «علاقته بـسيلانجيا [أي فرنسا كما سمَّاها في الكتاب]، ستكون علاقة غير سعيدة، إذ أدرك الأمرَ منذ اليوم الذي وصل فيه إلى عاصمة البلاد المرموقة (…) كان قد حطّ تحت سماء رمادية منخفضة ترذ المطر، واكتشف نظرات العداء والارتياب والوجوه الصفراء (…) كذلك [اكتشف] اللغة السيلانجية [أي الفرنسية] منطوقة بفظاظة ومختلفة عن تلك التي تعلّمها على الجانب الآخر من بحر إرما»، في إشارتين، واحدة إلى البحر الأبيض المتوسط، وثانية إلى ثانوية القاهرة الغنية بتنوّعها إلى درجة أنّها كانت «نافذة على العالم».

يُكمل جورج قرم بصفته راوياً عليماً: «لم يجد ميخائيل في العاصمة السيلانجية [أي باريس] شيئاً مما كان يتخيّله من خلال التعليم الذي تلقاه، ومن خلال المؤلِّفين الكبار الذين قرأ لهم (…) كما أنّه لم يجد شيئاً عن عظمة سيلانجيا [أي فرنسا] مما أخبره به والده الذي درس هناك أيضاً». ومع انتهاء الدراسة العليا، سرعان ما سيعود ميخائيل إلى لبنان «متنفِّساً الصعداء» لكن «من دون مرارة». كما أنّ ميخائيل «قد أدرك بالتأكيد أنّه – يروي قرم – برغم اندماج عائلته في الثقافة السيلانجية [أي الفرنسية] على مدى أجيال عدّة، فإنّه كان مختلفاً عن غيره من السيلانجيين، وعن بقية العالم بشكل عام». لكنّ ذلك الشاب كان «يؤمن بأنّ بقوّة الأفكار والعقل يمكن تجاوز تلك الاختلافات»؛ هذا الإيمان، هو بإيجازٍ شديدٍ جورج قرم نفسه.

ولِد مضيفنا لأسرةٍ من قماشة مشرقية متنوّعة، من زمنٍ قضى: «أبي وجدّي وجدُّ أبي لبنانيون، فيما جدّي لأمي فلسطيني وجدّتي دمشقية». قماشةٌ كانت تُطرَّز في الإسكندرية، كذلك القاهرة ودمياط وغيرها من مدن مصر، منذ ما يُعرَف بـهجرة الشوام مع انتصاف القرن التاسع عشر ولنحو قرنٍ. في البداية، كانت مصر ملجأً من الاضطرابات الطائفية المستعرة في الشرق. لكنها كانت أيضاً مقصداً لأنّها عنوان المشاريع الإقليمية الإصلاحية الكبيرة منذ عهد محمد علي باشا (1769-1849).

غير أنّ قرار والد جورج قرم (أي جورج داود قرم 1896-1971) بالاستقرار هناك في عام 1930، حسمه شرط «سمسار القطن الثري في بورصة الإسكندرية»[5] يوسف بخيت، بأن يقيم وابنته ماري في مصر في حال الزواج. وقد كان جورج داود قرم واحداً من ألمع الفنّانين التشيكليين اللبنانيين، وبدوره ابن رائد من روّاد هذا الفن في لبنان داود سمعان قرم (1852-1930). إنّه «ابن عائلة ذات عراقة في مضمار العلم»[6]، وكان عائلها داود «قد تمكّن من ترسيخ قدميه في القرن التاسع عشر اللبناني الذي شهد أفول نجم الارستقراطية التقليدية». و«يقول كتّاب سيرته إنّه مات مثقلاً بالأمجاد». لكن هكذا وجد ابن داود قرم نفسَه «مطالَباً بأن يضطلع بالدور الصعب لفنّان، هو بدوره ابن فنّان قد أثبت وجوده، وهو مطالَب بذلك في مجتمع باشر خطواته في سيرورة تطوّرية متسارِعة».

كان جورج داود قرم ذا نزعة إنسانية تظهر جليّةً في رسم وجه طفله في اللوحة التي كانت فوق الرفِّ في غرفة مكتبه، على يساري وعلى يمينه. كما تظهر النزعةُ في «لوحة رائعة لوجه والدتي» (معروضة حالياً في متحف قصر سرسق في بيروت، وقد أصابها ومقتنيات أخرى ضرر على إثر انفجار المرفأ في صيف 2021). و«من المتميّز البارز»، تقول الروائية والشاعرة اللبنانية إتيل عدنان (1921-2021)، «أن لا تكون أفضل [بورتريهات جورج داود قرم التي من بينها لوحة شهيرة للملك عبد العزيز بن سعود في عام 1946] تلك التي رسمها للملوك والأميرات والشعراء فحسب، بل أيضاً تلك التي رسمها للناس البسطاء، للفلاحين المصريين (…) فجورج داود قرم يجد في فن [البورتريه] حرية مطلقة»[7].

في هذا الجوّ من الحرية المطلقة والفنّ سينشأ جورج قرم. وبفضل الثقافة الفرنسية بخاصة سينضج على إشكالات فلسفة الأنوار، لكن ليس بكونها أيديولوجيا توسّع استعماريّ. ومن هذا العالم سيأتي باحثاً عن التنوّع في الثقافة العربية، وساعياً لإثبات أنّ الثقافة والعقل العربيين يتجاوزان بكثير إدراجهما ضمن عالم دينيٍّ أو هيكلية فكرٍ لاهوتيٍّ.

وحين ولِد جورج قرم في صيف 1940 الحارق، بدا كأنّ القدر قد حمّله أثقالَ زمنه. فلحظةَ رأى النور في الإسكندرية كان العالم قد غاص في ثقب الحرب العالمية الثانية. وكانت باريس قد سقطت بالأمس فقط، في 14 حزيران/يونيو 1940. «خشعت» تلك العاصمة و«خضعت» فرنسا «في أقلّ من دورةِ قمرٍ»، على ما سيستهل به، بعد أيام قليلة من الحدث، الأديبُ وأحد وجوه النهضة الثقافية في مصر والعالم العربي في حينه، أحمد حسن الزيّات، افتتاحيةَ العددِ الجديد[8] لمجلته الأسبوعية الرسالة.

كما أنّ ولادة جورج قرم تندرج في مرحلة زمنية لم يكن قد مضى في خلالها أكثر من عقدين على نشوء حدود جديدة في المشرق العربي على أنقاض السلطنة العثمانية، وبصورة تُترجِم «التنافس الأوروبي الاستعماري». وفي تلك الآونة، كانت مشاريع القومية العربية وسؤال المصير يزدهران، وسط حياة ثقافية حيّة سيعرفها جورج قرم في مصر، «مركز التلاحم والاستمرارية في المنطقة»[9]. (حول تلك الحياة الثقافية المصرية، يقول: «طبعاً كان بعض المفكرين الكبار مثل طه حسين وأحمد لطفي السيد يفكِّرون في إطار مصري أكثر منه عربياً، غير أنّ تأثير أعمالهم كان عاملاً رئيسياً في تطوّر الثقافة العربية عامةً»[10]).

أيضاً لحظةَ ولِد الرجل لم تكن إسرائيل نفسها قد قامت بعد. ففي يوم من أيام عطلة الصيف المدرسية، سيسافر مع أهله في رحلة بحرية بين الإسكندرية وبيروت، «وبعدين أخَدْنا السِيّارة يللي شحنّاها، ورحنا فيها عَ فلسطين». هناك، قرب القدس، وفي مكان غير بعيد عن دير ياسين، تقع «عين كارِم، قرية والدتي ماري بخيت». يتذكّر: «كانِت تحن لها كتير، كان عندها حنان كبير على فلسطين لأن هناك أيضاً نشأة المسيح، بالتالي كانت شي مقدّس بالنسبة لها».

غير أنّ حماسة جورج قرم غير المنقطعة لجمال عبد الناصر «كانت قد أثارت غضب والدي (يقول ضاحكاً)». ثم يتذكّر: «كانْ إنسان محافظ وزِعِل وقت شافني كم أنا معجب بشخصية عبد الناصر، وكان يْقِلّي أنا ما ربّيْتك كل ها التربية لحتى تتعلق بشخص مِتله (ضاحِكاً)، ورأيه إنّه الأجدى كان الانتظار بضع سنوات حتى انتهاء اتفاقية القناة، ثم استرجاعها سلمياً». أيضاً هذا الوالد نفسه، مؤسِّس المعهد الوطني للموسيقى في لبنان، سيلحّ على ابنه بعدم دراسة الفنون، وبصورة خاصة البيانو والموسيقى (التي يصفها بأنّها «وجه أوروبا المجيد المنسيّ»[11]). يروي جورج قرم: «كِنت حابب أعمل موسيقى وعملت معركة كبيرة من أجل ذلك، وقال لي والدي بيكفّينا فنّانين بالعيلة، ما بتطعمي خبز (ضاحِكاً).. كان خايف عليي لأن كان عم يعاني مادياً برغم إنتاجه الغزير».

ذهب جورج قرم بدايةً إلى عمته في مرسيليا، لكن «لم أتحمّل الجو البرجوازي هناك». بعد ذلك، «سجّلني الوالد بالـ École polytechnique بجنيف، فمثّلت (ضاحِكاً جداً) إنّي رايح لكن رحت على باريس مش على جنيف، وهونيك تسجلت بمعهد العلوم السياسية وبالكونسرفاتوار»، حيث سيتعلّم على يد واحدٍ من أبرز موسيقيي القرن العشرين، الفرنسي أوليفيه مسيان (1908-1992).

حين غادر جورج قرم مصر من أجل الدراسة في باريس، كان قد خبر إرهاصات الناصرية التي ستتيح «وحدها ظهور أيديولوجية حديثة للهوية وللقيم السياسية المشتركة والتضامن بين الدول العربية». غير أنّ رهانه على الناصرية ليس في بُعدِها العروبيّ القوميّ، بقدر ما أنّه ضمن سياق عالمي أشمل هو التحرّر من الاستعمار («ومصر كانت في صلب ثلاث دوائر: العالم العربي، وإفريقيا، والعالم الإسلامي»). لذا، قد يبدو جورج قرم شخصية عالم-ثالثية مناهضة للاستعمار، أكثر من كونها قومية عربية.

وفي مؤلَّف الفكر والسياسة في العالم العربي، يؤطِّر جورج قرم حماسته المستمرّة إلى عبد الناصر في إطار محدَّدٍ وصريح. إذ آن أوان «تجاوز الانقسام التحزّبي العميق بين [أولاً] المثقفين العرب المعادين لأي شكل من أشكال القومية العربية، والذين يرون بالبراهين أنّ هذه القومية أدت إلى نشوء الأنظمة الديكتاتورية التي كانت سبباً في تدمير المنطقة»، وبين ثانياً «أولئك الذين لا يزالون مقتنعين بأنّه من دون أيديولوجيةٍ حديثةٍ للهوية، ومن دون تطوير قيم سياسية مشتركة يمكن أن يُبنى حولها تضامن بين الدول العربية، ستستمر المجتمعات العربية في التآكل والتفكّك التدريجي بسبب عوامل انقسام عدّة، داخل كل مجتمع منها أو في ما بينها». بل يرى جورج قرم أنّه بهدف «تكوين معرفة أمتن حول تاريخنا المعاصر»، فإنّ الوقت حان «أخيراً من أجل بذل جهود حول المرحلة الناصرية لأنّها خضعت لدراسات قليلة».

حتى أنّ العروبة بالنسبة إليه، توضح الباحثة لينا كنّوش الجالسة قبالته، وعلى يميني، «ينبغي النظر إليها على أنّها منفتحة ومُبدِعة فتحترم الاختلافات والأهمية الحيويّة للهويات الفرعية، وعلى أنّها يوتوبيا نتطلّع إلى تحقيقها». تضيف: «لا شكّ وفقاً له في أنّ هذا التوق إلى الوحدة قد يُثير ريبة القوى الإقليمية التي تخشى على مصالحها، مثل تركيا وإيران، غير أنّه قد يساعد دول المنطقة على إدارة شؤونها بشكل أفضل ومساعدة بعضها بعضاً في مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية المحلية والإقليمية والدولية».

غير أنّ ذلك الانحياز الشديد إلى العالم-ثالثية أظنّه هو ما سيفضي بجورج قرم إلى البحث في مشروع نهضة عربية مستدامة، وفي الظروف والشروط الكفيلة بإحداثها في «منطقتنا التي ظلت تبدو على امتداد تاريخها كأنّها ثُغَر لممالك متعاقبة ومتباينة»[12]. ويوضح في انفجار المشرق العربي: «يمكن قراءة هذا المؤلّف بمثابة تمهيدٍ لدراسة عن نموذج تاريخي من الانحطاط، بالمعنى الذي أضفاه [المؤرِّخ الفرنسي] فرنان بروديل على الكلمة؛ نموذج إخفاقات المنطقة المماثل لإخفاقات مناطق حضارية كبرى في التاريخ العالمي».

في هذا السياق، يسعى جورج قرم إلى العمل على ربط حاضرنا بـالنهضة الأولى البادئة بالتحقُّق خلال الربع الثاني للقرن التاسع عشر مع إرسال محمد علي أوّل بعثة تعليمية كبرى إلى أوروبا (فرنسا) في عام 1826، ثم «انتكست في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية – يقول في انفجار المشرق العربي – بسبب علاقة تشابكية بين الأسباب الداخلية الظاهرة في فشل الدول العربية في التطوّر وكسب احترامها الجماعي في النظامين الدولي والإقليمي، وبين الأسباب الخارجية التي تتجلى في التدخلات السياسية الضخمة، وحتى في العمليات العسكرية واسعة النطاق». (استمرّت تلك النهضة «إلى أن هيمن عصر النفط على حياة المجتمعات العربية في الربع الأخير من القرن العشرين»).

وفي مسعى الربط بين «نهضتين»، يستند جورج قرم باستمرار إلى أعمال المفكِّر اللبناني ناصيف نصّار، لأنّها «تتواصل وتتكامل – كما يقول في مقالة ناصيف نصّار والحداثة العربية – مع فكر جيل النهضة العربيّة الأولى». ويعرب قرم عن اعتقاده بأنّ «ما يثير الإعجاب في فكر نصّار، وعلى خلاف عديد من المفكّرين العرب من الجيل الجديد، هو متابعته نهج [تلك النهضة] المبني على التفاعل الثقافي والفكري بين التراث العربي وبين الحداثة الأوروبية والغربية، بل إنّه في [مؤلَّف باب الحرية: انبثاق الوجود بالفعل (2003)] يدعو إلى نهضة عربية ثانية».

غير أنّ هذه الرغبة النهضوية نازعها طوال حياة جورج قرم واقع أنّ منطقتنا العربية عامةً استحكمت «ديناميةُ الفشل» بها، وأنّنا مع «الحروب المدمِّرة والحملات العسكرية الغربية والعربية والإسلامية» التي شهدناها في العقدين الماضيين على دول على غرار العراق وسوريا واليمن، قد بلغنا «دينامية التدمير الذاتي المكمِّلة للأولى، بل تُعدّ ذروتها».

بالرغم من ذلك، تجده يقول حاسِماً: «أنا لا أؤمن بهزيمة الشعوب أو استسلامها، فالفكرة القومية العربية المعاصرة تمضي قُدماً في العالم العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وهي تجمع بين التطلعات الشعبية الحيّة والقديمة جداً للتحرّر والوحدة»[13]. إنّه توقٌ جعل جورج قرم واحداً من أكثر مناصري الحركة القومية العربية (وناقديها) حصافةً، وهي الحركة التي تمزج «في الوقت نفسه النضالَ من أجل التحرّر الوطني، ومشروعَ النهضة الذي يرافقه ويشكّل على المدى البعيد هدف الاستقلال المُعاد»، على ما يُعرِّفها صديقه المفكّر المصري أنور عبد الملك، «الذي لا تعرفه الأجيال الجديدة مع الأسف».

أيضاً يُعرِب مضيفنا عن الأسف لواقع «أنّ الناس بْتِنسى إنّه هيدي المنطقة بلاد الشام كانت وحدة»، في معرض تعليقه على كتاب قديم كنتُ قد حزته عشية لقائنا، لقنصل فرنسا في بيروت في بداية القرن التاسع عشر هنري غيز؛ يحمل عنوان بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن – الجزء الثاني، وقد كان الأديب مارون عبود (قاصّ القرية اللبنانية) من عرّبه فصدر في بداية خمسينيات القرن الماضي عن منشورات وزارة التربية والفنون الجميلة اللبنانية. إنّها توليفة لعناصر من زمن آخر يحنّ إليه جورج قرم، وبنى في ضوئه إشكالاته المعرفية.

في قصة مشابهة، أذكر في مرّةٍ خلال الجامعة أنّي جئتُه بكتاب المفكّر النهضويّ قسطنطين زريق معنى النكبة، وعليه مدوّن إهداء من عام الصدور 1948 إلى ميشال عفلق لا غير (الغريب أنّ الصفحة الأولى ممزقة عشوائياً). كنتُ قد عثرتُ على الكتاب مصادفةً في أحد المنازل ذات الباحة الوسطى والبَحرة بحيّ الميدان في دمشق نحو عام 2008، وكنتُ أعرف أنّ Monsieur Corm، كما درج أن نناديه وطلابه الآخرون في جامعتنا تلك، سيرفع نظّارتيه المخصصتين للمدى البعيد لكي يقرأ ذلك الإهداء ذا الخط الصغير. دار حديثه يومها حول مفردةٍ واحدةٍ بدت بحسرتها وبألِفِها المنطوقة ممدودةً محوريةً في حياته: «أيّام!»، كِنايةً لا غير عن الحنين إلى زمنٍ قضى.

إقرأ على موقع 180  "الأمن بالتراضي".. وصفة سياسية سحرية!

تقول الباحثة لينا كنّوش: «قد يصعب حصر جورج قرم في نظرية ما، سواء في العلاقات الدولية أو في الاقتصاد على وجه الخصوص إذ يتأثّر بالاقتصاد البدعي (Heterodox economics) ذي النظرية(ات) الخاصة بعيداً عن الانقسامات الكبرى بين ليبراليين وماركسيين وغيرهم». حتى أنّ حياته الأكاديمية لم تكن كلاسيكية، على ما يرى صديق زميل في صفوف قرم أيّام كنّا في الجامعة. وبرغم نيل أستاذنا درجة دكتوراه دولة في القانون الدستوري (من جامعة السوربون عام 1969، في أطروحة تناولت مسألة تعدّد الأديان وأنظمة الحكم)، لم ينخرط في المؤسسة الجامعية الفرنسية، مؤثِراً حياة عملية ستوصله في عام 1998، مع اقترابه من عمر الستين، إلى تولّي وزارة المال في لبنان لمدّة عامين.

عامان سيتّبع خلالهما سياسة مالية جريئة في وجه رفيق الحريري، الرجل الأقوى وموزِّع الثروة ما بعد الحرب في نظام الزعماء. والتعبير الأخير لطالب جورج قرم أيضاً وسام اللحّام، زميلنا وقد غدا الآن أستاذاً في معهدنا الجامعي ذلك نفسه. يرى قرم في معرض حديثه عن التجربة الوزارية أنّه كان في لبنان «سياسة مقصودة هدفها توريط الدولة بالديون على أمل إعفائنا منها عند توقيع السلام مع إسرائيل». يُحدِّد المدّةَ الزمنية بين تولّي «رجلِ المال (…) والفريق المؤلَّف من رجال المقاولات ومديري شركاته الذين جمعهم حوله»[14] رفيق الحريري رئاسة الحكومة للمرّة الأولى في عام 1992، وبين مغادرته الحكم للمرّة الأولى أيضاً في 1998. في ذلك العام، كان الغريمُ رئيسُ الجمهورية إميل لحّود قد كلّف بناءً على مشاورات نيابية الشخصيةَ الاستثنائية في تاريخ لبنان سليم الحص تشكيل حكومة جديدة، كان جورج قرم أحد أبرز وزرائها.

لكن بعد عامين، الآيةُ انقلبَت. فقد اجتاح الحريري بيروت انتخابياً، وقضى بصورة ستكون نهائية على الزعامات التقليدية كافة، وبصورة خاصة على الرَجُلِ سليم الحص. لكن مع انتهاء المهمة التي عاد جورج قرم من أجلها إلى لبنان، عاوده لا ريب ذلك الخوف من الاقتلاع من الأمكنة. وُلِد فيه مع مغادرة الإسكندرية طفلاً. في السيرة الروائية يقول: «كان [لدى ميخائيل] خوف من النفي النهائي دون عودة». هكذا، يكون فوز الحريري سبباً (غير) مباشراً لقرار بقاء جورج قرم نهائياً في لبنان، بعد تنقلاته بين مصر وفرنسا والجزائر، وهذا البلد.

لكن فيما أنا قد أشطّ الآن في قراءة حياة الرجل الذي تعلّمتُ عليه، تخايلتُ بأنّ في حياته المتنقِّلة متوسطيّاً، شيئاً من مغامرة البطل الإغريقي أوليس. لناحية «التجربة الإنسانية التي خاضها [أوليس]، لكن أيضاً حقيقة أنّه كان في رحلته الطويلة جداً يستكشف فضاءً مجهولاً غريباً عن البشر»[15]. في حالة قرم، يمكن لهذا الفضاء أن يكون، تجاوزاً، لا التاريخ المعاصر للمشرق العربي، لكن كيف كان يبدو له كلّما حفر فيه بأدوات معرفية جديدة. ويبدو لي هنا أنّ جورج قرم كان يُكمِل في خضم رحلته هذه في تاريخنا، ما شرع فيه صديقه المؤرِّخ الدبلوماسي اللبناني عادل إسماعيل ورئيس تحرير “الأهرام” المصرية الدبلوماسي اللبناني إميل خوري. كان عملهما بارزاً، وقد نُشِر في عام 1959، في خمس مجلّدات حملت عنوان السياسة الدولية في الشرق العربي؛ من سنة 1789 إلى سنة 1958. يوجد خيط رفيع يجمع بين هذا العمل وبين همّ جورج قرم التأريخي. إنّه مسلّمة ينطلق منها إسماعيل وخوري، وتقول (بنفَسٍ قصصيٍّ جميل): «وقد تغيَّرت الوجوه في هذا الشرق وتبدَّلت أوضاعه، لكنّ شَرَه الاستعمار لم يخفِّف منه الزمن شيئاً».

منهجياً، رغب إسماعيل وخوري في تشييد عملهما على رؤية المؤرِّخ الإيطالي غولييمو فريرو (1871-1942) لـ«فنّ كتابة التاريخ». تقول إنّ «العِبرة من الكتابة عن الماضي لا في أن يروي الكاتب الأحداث كما قرأها وانتقلت إليه مزيجاً من الحقائق والأساطير، بل في أن يتيح ما استطاع للذين صنعوا التاريخ أن يكونوا رُواته». غير أنّ جورج قرم سيذهب أبعد، بخاصة عبر تأثّره بـمدرسة الحولِيّات L’École des Annales التأريخية الفرنسية، الناشئة مع الربع الثاني للقرن الماضي. هذا ما سيجعله يولي أهمية بالغة:

بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية («تحليله تاريخ الاقتصاد السياسي للمنطقة، وأثر الاقتصاد الريعي المدمّر»، كما تقول لينا كنّوش)؛

بطرق المواصلات (تأميم قناة السويس بصورة رئيسية، إذ يقول في انفجار المشرق العربي: «ليس في مقدور المرء أبداً أن يعي بصورة كافية ما تمثِّله طرق المواصلات من الأهمية للاقتصاد والمجتمع، بخاصة إذا كان من بلدان حوض المتوسط ويشكّل صلة الوصل بين آسيا وإفريقيا»)؛

بالذاكرات الجماعية التاريخية المصابة بالـتروما في منطقتنا (أيضاً في انفجار المشرق العربي، يقول: «قد ظلّ التاريخ هنا مادة متجددة لذاكرات متنازعة بين مختلف المجموعات الاجتماعية الثقافية، التي لم تنجح الدول العربية الحديثة المتشكلة على أنقاض السلطنة العثمانية في صهرها داخل ذاكرة تاريخية موحدة وتوافقية نسبياً، على غرار ما حصل لدى شعوب أوروبا أو الشرق الأقصى»).

بهذا الربط بين وقائع الاجتماع البشري (الاقتصاد والاجتماع والجغرافيا والمواصلات والذاكرات…)، كما التقاطع بينها، سيندرج عمل جورج قرم التأريخيّ ضمن ما سمَّاه أحد أعلام تلك المدرسة الفرنسية، فرنان بروديل: «المدّة الزمنية الطويلة». فيعتبر الأخير أنّه لا ينبغي لنا أن ندرس تاريخ الأحداث بخصوصياتها الزمانية والمكانية، إلا بعد أن «نُحدِّد التيارات الكبرى الكامنة، التي غالباً ما تكون صامتة، ولا ينكشف معناها إلا إذا نظرنا إلى مُدَدٍ زمنية طويلة»، مضيفاً أنّ «الأحداث المدويّة ليست في الغالب أكثر من مجرّد لحظات، ومظاهر لهذه المصائر الواسعة، ولا يمكن تفسيرها إلا من خلالها». بهذه الخلفية يكون، بالنسبة إلى جورج قرم، غيابُ رجل مثل جمال عبد الناصر «بمثابة نهاية لعصر، لا نهاية لمأساة». يكون أيضاً حدثاً يعيد تشكيل البُنى العميقة لتاريخ المشرق العربي إذ أنّه «غيّر وجهه السياسيّ بسرعة» وأنهى «الحرب الأهلية العربية» بين «الراديكاليين» وبين «المعتدلين» بقيادة الملك السعودي فيصل. ويقصد قرم بالتغيّر على وجه الخصوص، ما يعرضه في انفجار المشرق العربي:

الانعطاف تدريجاً «لكن بصورة مؤكدة» (بخاصة بعد هزيمة 1967) باتجاه اليمين بعد «نفس يساريّ» ساد إبّان عبد الناصر (وهو ما ستغذّيه أيضاً، وفق قرم، الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979، والغزو السوفياتي لأفغانستان وتحوّلها إلى أرض جهاديةٍ بدفعٍ سعوديٍّ)؛

التحوّل من «نزعة صارخة إلى معاداة الإمبريالية والشغف بالتحديث العلماني والاشتراكي التوجه، إلى سياسات تؤيد الغرب سرّاً وعلانية»، وبروز «موجة السلفية الدينية» في ظلّ «التعاظم المفاجئ والفجّ في الثروة النفطية»[16].

فهكذا، يخوض جورج قرم في الزمن الماضي عبر مسارات استكشافية لحقب تاريخية اكتملت أو أنّها بدأت منذ زمن طويل. وبينما يهدف إلى تحليل حركة حياة المجتمعات، وإعادة تماسك الحقبة وفرادتها، يضع «الأحداث في ساحتها المشهدية»، ويُلحِق بها سياقات محلية وخارجية «تعيد بلورة تعقيد الحدث». بهذه الخلفية، يرى في مؤلَّف انفجار المشرق العربي أنّ مع غياب عبد الناصر في خريف سنة 1970، «سينتهي فجأة ذلك المهرجان الخطابي والاحتفال القومي الذي لم يعرف العرب مثيلاً له منذ النبوّة القرآنية، ولربما كان الألم بحجم الصمت الذي سيغرق المجتمع العربي فيه مستقبلاً». بل سيفقد «الشعب العربي المعبِّرَ الساحرَ عن المشاعر الجماعية، والترجمان الذي أبان من خلال منطوق خطاباته، طوال سبعة عشر عاماً، عن بعض الصبوات العميقة للمجتمع، فكان كأنّه لسانها الناطق». أيضاً يربط قرم هذا الحدث بعناصر أخرى أبعد زمنياً من أجل بناء المعنى، على غرار ربطه بحدث غياب أم كلثوم إذ إنّه «وحدُه إلّي رَح يثير مشاعر حُزن وحِداد بالقدر يلّلي صار مع موت عبد الناصر». إنّهما عبّرا «عن قرون من الاستبداد والطغيان السياسي، مثل التقاليد الأبوية والامتثالية العاطفية والجنسية». لكنّه فاجأني بقدرٍ حين قال إنّه لا يحبّها، أم كلثوم؛ «كانِت ظاهرة وصوتْ استثنائي لكِنْها بِتمثِّل كآبة العالم العربي… أنا بس إسمعها بِشعُر باكتئاب كبير (ضاحِكاً)، بعكس وردة الجزائرية أحياناً».

نحو ساعة أو أكثر أمضيناها برفقة أستاذنا في الشقة تلك، ذات الباب العالي. كنّا في حيٍّ سكنيٍّ يُلاصق البحر عند الطرف الجنوبيّ لبيروت، وقد اعتدناه طويلاً يُعرِب عن الأسف «لخسارة [هذه المدينة] طابعَها المتوسطيِّ». خسرَته بعد دمار الوسط التاريخي في خلال الحرب الأهلية (1975-1990)، ثم مع إعادة إعماره وتحوّله إلى نمط آخر بقيادة رفيق الحريري. صوَّر والد جورج قرم تلك الهوية بلوحات لمناظر طبيعية وبحرية، ولمنازل قرميدية. تعود واحدة من اللوحات إلى الحيّ حيث كانت جامعتنا، والمُنحدِر على تلّة صغيرة تطلّ على الوسط والمرفأ والبحر.

على الضفة الأخرى، إذ كان خطُّ تماس إبّان الحرب الأهلية يحاذي هذا الحيّ، يقع حيّ الخندق الغميق. هناك، كان الجدّ داود قرم قد امتلك داراً في نهاية القرن التاسع عشر. وحين سكنها، كان معجباً بالمسحرّاتي أبو عبد الزغلول، فيدعوه إلى التردّد عليه وإنشاد الأناشيد الرمضانية. لا أظنّ هذا تفصيلاً في سيرة عائلة مارونية من جبل لبنان في تلك الحقبة. غير أنّي فيما أسترجع الآن وأنا أعِدّ هذا النص مشاهد لقائنا بجورج قرم، قبل نحو سبعة شهور!، أذكره يستعيد ذكرياته بروح فتى مرِحٍ، وسط إرهاقٍ بدا عليه من جرّاء علاجٍ يتابعه فيؤثِر عدم الإطالة في الإجابات. أتخايله فيما كان يسرح صامتاً أحياناً، كمن يُكمِل دورةً تعود به إلى شكله الأوَّل في لوحة أبيه التي فوق الرف؛ المرسومة في منزل عند شاطئ الحبيبة الأولى الإسكندرية. أو أنّه راجعٌ إلى تلك الطفولة البحرية الحالِمة بكليَّتِها، والمكَلَّلةِ بجُملةٍ كأنّها من غارٍ دوّنتها والدته ماري في مفكِّرة صغيرة أهدته إياها: «علّكَ تُحافظ على روح الطفولة فيك».

كأنّه فعل! ففي الواقع، «بعدما عدتُ إلى ماضيَّ – يقول في مقالة الغيريّة، لستُ أعرفها – لكي أفهم لماذا وكيف ما زلتُ في سنّي المتقدّمة هذه أرفض الاعتراف بالغَيريّة Alterity، النابعة من الرؤية العنصرية للمجتمعات وتصوُّر تراتبيات مفترضة في ما بينها، توصّلتُ إلى استنتاج أنّني بقيتُ في قرارة نفسي سجين طفولتي وتجاربي الأولى في التواصل مع الآخرين من خارج محيطي العائلي، والأرجح أنّني اتّبعتُ في ذلك نصيحةَ والدتي المدوّنة في تلك المفكرة الجميلة».

في ترجمةٍ مباشرة لرفضه مبدأ الغيرية برغم النزعة القومية لديه، يقول جورج قرم: «أنا أؤمن بوحدة الجنس البشري، وأمقت مقتاً شديداً المقاربات التي تُجمِّد الشعوب والحضارات والأديان أو مجتمعات دينية معيَّنةٍ بكليشيهات». يلفت النظر إلى وجود «تنوّع هائل في كلّ مجتمع بشري، حتى إذا كان دينياً أو عرقياً». كما يوضح أنّ مصطلحات الغرب والشرق بدت له «مجرَّدة» منذ شبابه الأوّل. إذ اختلط في أثناء الدراسة الجامعية في باريس، وقبلها في القاهرة، بالشرقيين «والفرنسيين والإيطاليين والمالطيين، وكل الغربيين أو الأوروبيين الذين كانت تعجّ بهم مدرسة العائلة المقدّسة»، واكتشف وجود «عديد من الغربيين وعدد لا يحصى من الشرقيين».

إنّها تجارب شخصية يُخبِر بأنّه بنى عليها فقادته إلى تأليف: L’Europe et l’Orient [أوروبا والمشرق العربي] (1989)، ثم Orient-Occident, la fracture imaginaire [شرق وغرب، الشرخ الأسطوري] (2002)، وبعدهما L’Europe et le mythe de l’Occident. La construction d’une histoire [تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب] (2009). ويحذِّر جورج قرم في هذا الكتاب الأخير من «الوقوع في الالتباس في إدراك ظواهر القوّة التي ضبطت على الدوام إيقاع تاريخ البشرية، عبر إقحام ما تحمله الأنثروبولوجيا الدينية من اعتبارات تخيّليّةٍ أكثر منها واقعيةٍ لارتكازها على صور نمطية وأحكام مسبقة»[17]. ويتساءل: «هل ينبغي مثلاً اعتبار الديانة الإسلامية كأن ليست لها أي علاقة تقاربٍ فكريٍّ مع الديانتين التوحيديّتين الأخريين؟».

في هذا الإطار، «سعى قرم في أعماله – وفق الباحثة لينا كنّوش– إلى إظهار أنّ مفهوم الغرب لا يمكن فهمه إلا من خلال المواجهة الحتميّة بينه وبين الشرق، وأنّه قائم على أُسُس مُتخيّلة لكن ذات آثار جليّة في الواقعَين السياسي والجيوسياسي»، وتنقل عنه أنّ «مفهوم الغرب لم يعد ذا أهمية الآن بعدما قوّضته الحقائق الجديدة (…) عهد الغرب انتهى، وإنّ استخدام هذا المصطلح أمر مبالغ فيه تماماً لأنّ العالم غدا متعدد الأقطاب، ولم يعد يوجد هذا الغرب المهيمن والواثق بنفسه».

نستطرد في سياق الحديث فيقول جورج قرم إنّ «موقف الإنسان العربي من الغرب يتشكّل وفق محيطه وأهله وطائفته أحياناً، فمثلاً أنا كانوا دايماً يقولوا لي باستنكار إنتَ ماروني وهيك تفكيرك!»، ضاحِكاً. إنّها صور عن قناعته برفض الغَيريّة. متأثِّراً بجملة والدتِه.

 لوحة رائعة لوجه والدتي في متحف سرسق

«بذل جورج قرم – تقول الباحثة لينا كنّوش – جهوداً جدّية لإعادة ترتيب المشهد المعرفي حول المشرق العربي وأنظمة إدراكه السائدة»، بخاصة في انفجار المشرق العربي. يروي لنا: «كتبتُه في شقتي في حيّ فردان تحت القصف إبّان اجتياح بيروت في صيف عام 1982». ثم يشير إلى زوجته التي كانت تمرّ من أمامنا باتجاه ماكينة القهوة في آخر المكتب: «هي التي كانت تطبع، على آلة طباعة قديمة كانت لها. (صمتٌ) لا أعرف أين صارت الآن مع كل تنقلاتنا وأغراضنا الموزّعة هنا وهناك».

يروي صديقه الناشر الفرنسي فرنسوا جيز، أنّه في يوم من أيام عام 1982 وقد كان مديراً لدار نشر La Découverte، التقى جورج قرم يحمل «مخطوطاً كبيراً كان قد رُفض للتوّ من ناشر باريسي كبير: إنّه انفجار المشرق العربي، من السويس إلى غزو لبنان – 1956-1982، والذي سأنشره في العام التالي». كما يوضح جيز أنّه في ذلك الوقت «كان اليسار في فرنسا قد بلغ السلطة لتوِّه بانتخاب فرانسوا ميتران رئيساً للجمهورية في أيار/مايو 1981. لكن من المفارقات أنّ عودة اليسار الإصلاحي إلى السلطة تزامنت مع انهيار كامل للأطر الأيديولوجية والسياسية التي طبعت العقد السابق [السبعينيات] بعمق، وتميّزت بانتشار المراجع الماركسية والبنيوية بين الشباب وجزء كبير من المثقفين». إنّه ما أكسب العمل أهميةً إضافيةً، وفي عاصمةٍ ذات دور كبير في المشرق العربي نفسه.

لكن «برغم الأصداء الواسعة، وقد نشرته بعد ذلك دار Gallimard، كذلك الأصداء التي ستعرفها أعماله على مدار العقود الماضية بخاصة في فرنسا وأوروبا، فإنّها كانت أيضاً موضع نقد لاذع». يعلِّق: «كتب أشخاص أشياء لا تُصدّق على الإطلاق ضدي، لكن كانت لي مفاجأة إلهية عندما قدمت لي هيلين كارير دونكوس [في تموز/يوليو 2018] جائزة الأكاديمية الفرنسية لأفضل مقال بحثيّ Essai عن La nouvelle question d’Orient، ما أتاح لي توطيد مواقفي».

مع النظر في توليفة هذا الرجل وحياته، قد تظهر الحبكة الأوليسية بصورة أجلى. فأوليس بدأ مغامراته حين تخيّل اليونانيون أنّ المسألة قد حُسمت أخيراً. وفي حالة قرم، فقد بدأ في مرحلة اعتقد العرب فيها أنّ المسألة انتهت مع تشكّل الدول الوطنية بعد الاستعمار، وأيضاً مع بروز الثروات النفطية وتراكمها. لكن هل سيعود جورج قرم إلى الإسكندرية كما فعل أوليس برجوعه إلى إيثاكا بعد سفره الطويل جداً؟ لا أظن، لأنّ «مصر كانت بمثابة وطن عبور»، يقول في مقابلة قديمة. وأياً تكن الإجابة، فالأكيد أنّه سبق لهذه المدينة الإسكندرية أن أنقذته من القتل، أو من الاختطاف على أقل تقدير. فيبطئ في سرعة الكلام، ثم يروي:

«خلال الحرب بلبنان، وأنا راجِع ع البيت بليلة من الليالي السود، كِنتْ عم لِف بالسيارة لفوت على شارع [يتفرَّع من جادة] فردان، وفجأة لقيت حالي أمام حاجز طيّار لملثّمين وحطوا الكلاشنكوف براسي وصاروا يلحّوا بطلب الهوية، وأنا طبعاً ما كنت بحملها معي أبداً [في ظروف كهذه شاعت فيها عمليات الخطف على الهوية]، ولأنّه مكتوب عليها مارونيّ. فخبّرتهم إنّه الهوية فوق بالبيت.. إذا بتحبّوا شرفوا. لكن ضل يصرِّخ هيدا الصبي وكان صغير والكلاشنكوف على جبيني. قلت له يا صبي إذا عندك شي حدا مخطوف وبدك تبادلني معه بتكون عم تضيّع وقتك لأن أنا لو كتائبي [أؤيد حزب الكتائب] ما كنت بسكن بـهَا الْحَيّ… يعني اسمح لي فيها! (ضاحِكاً). حاصله صار في أخد وعطا وبعدين كان في واحد كبير بالعُمُر هو مسؤول الحاجز، فإجا وخبرته إنّه الصبي عندك مخمّن إنّي كتائبي لأنّي مسيحي بس طبعاً ما إلي علاقة بالكتائب.. إذا أنا كتائبي ما بسكن بـهَا الْحَيّ يعني كبروا عقلكم! (ضاحِكاً). بعدين طَلَّعتِ له دفتر السواقة ومكتوب فيه مواليد الإسكندرية، وهيدي يللي أنقذتني!».

قبل ذلك بمدّة غير بعيدة، كانت شرفة شقة جورج قرم المطلّة على المكان حيث قام الحاجز الطيار، قد جمعته إلى صديق طفولة الإسكندرية إدوارد سعيد. «أهمّ مؤلفاته هو “الثقافة والإمبريالية” لا “الاستشراق”، وللأسف الجيل الجديد ما بيعرفه لهيدا الكتاب»، وقد يبدو أستاذنا متأثِّراً بسعيد ويتقاطع معه بخاصة لناحية النظر إلى النقد بصفته فعلاً سياسياً بامتياز. لكن ليلة جمعتهما شرفة فردان كانت الثورة الإيرانية في بداياتها وإدوارد سعيد متحمِّس لها، حتى راح مضيفنا يلومه: «قِلتِ له يا إدوارد كبِّر عقلك (بنغمة تتصاعد)! إنتَ ما بتضاين يومين بجوّ الثورة الإيرانية (ضاحِكاً)». يرى قرم أنّها وُلِدت «نتيجة سوء فهم جيو-سياسي كبير»[18]، فما الذي تغيّر حتى عُرِفت بقربك من حزب الله منذ التسعينيات على وجه الخصوص؟ «لأنّي مع المقاومة أساساً ومعادي لإسرائيل والصهيونية.. وللاستعمار الأميركي.. إلى أقصى الحدود».

بلى، على غرارِ شيءٍ من مغامرة أوليس، كان أستاذنا في رحلته الطويلة يستكشف فضاءات مجهولة باستمرار. توجد عِبرةٌ يستخلصها من هذه الأسطورة واحدٌ من أبرز مؤرِّخي اليونان القديمة، الفرنسي جان بيار فرنان. يقول: «أن تكون في عالم الإنسان هو أن تكون حيّاً في ضوء الشمس، أن ترى الآخرين وأن يروك، أن تعيش في المعاملة بالمثل، أن تتذكر نفسك والآخرين». أين كان مبتدأ ذلك في حياة الإغريقي جورج قرم؟ أظنّ الإجابة في ما رواه مجيباً على سؤالي: إن وُجدت ذكرى أو حادثة ما تُخبِرنا بها عن طفولتك في الإسكندرية [حيث رسمَتْ ريشةُ الأب، ونحتَتْ جملة الأم]؟

«إي.. كنت بْقَضّي وقت طويل عند ستّي لأمي [الدمشقية]، لأن كان منزلها ملاصق بمنزلنا. كانت امرأة تِعبِت بحياتها، وزوجها [يوسف بخيت] كان إنسان صارم بينما هي العكس… كان عندي علاقة مُفضَّلِة معها، وكِنتْ وقت بروح بزورها لاقيها قاعدة بالعتمة وترفض إنّي افتح الشبابيك… وتصير تقول لأ ولاء..»، يُكمِل جورج قرم بضحكٍ عاد به إلى تلك الطفولة بلا شك، بعدما نقَّل فؤاده فعلاً حيث شاء من الهوى. كان في أثناء نقله الرواية هذه يُحرِّك يديه بحماسةٍ وعفويةٍ، حتى خطر في مخيّلتي مشهدٌ يتمثَّل خلاله جورج قرم حياته كلِّها. فالإلحاح في منزل معتمٍ قرب بحر الإسكندرية، على الجدّة الدمشقية بوجوب الخروج من العتمة يبدو هو لا غير صانع المعنى في حياة هذا الرجل، وراسم الضحكةِ الأولى التي بها بدأ كلُّ شيءٍ.

[1] CORM Georges, «Itinéraire d’un intellectuel libanais francophone», Revue internationale et stratégique, 2011/1 (n° 81), p. 7-17.

[2] Georges Corm, la mue ; Récit fantastique, Noel Blandin, Paris, 1992, page 28.

[3] صدر هذا المؤلّف في نسخ مزيدةٍ عدّة منذ ظهور الأولى في عام 1983 حاملةً عنوان le Proche-Orient éclaté, de Suez à l’invasion du Liban, 1956-1982 [انفجار المشرق العربي؛ من السويس حتى اجتياح لبنان 1956-1982]. وفي نهاية التسعينيات صدرت نسخة بأربع فصول أضيفت في البداية، بمثابة نقدٍ معرفيّ حول موضوع الدراسة: المشرق العربي.

[4] Conflits ; Revue de géopolitique, Tigrane Yegavian, Entretien avec Georges Corm, 21/06/2020.

[5] جورج قرم، مسار حياة…، في مجلّد جورج داود القرم، الناشر مكتبة أنطوان، بيروت، 2007، ص177-178.، ص194.

[6] المصدر نفسه.

[7] إتيل عدنان، سيِّد الطبيعة اللبنانية، في مجلّد جورج داود القرم، ص177-178.

[8] رقم 364 بتاريخ 24/06.

[9] انفجار المشرق العربي، ص201.

[10] Georges Corm, Pensée et politique dans le monde arabe, Éditions La Découverte, Paris, 2016, page 165.

وقد صدر في نسخة عربية (الفكر والسياسة في العالم العربي) عن دار الفارابي في بيروت، عام 2018.

[11] جورج قرم، تاريخ أوروبا وأسطورة الغرب، دار الفارابي، 2011، ص194. وكان هذا المؤلَّف قد صدر بالفرنسية بعنوان: L’Europe et le mythe de l’Occident.

[12] انفجار المشرق العربي، ص99.

[13] Conflits ;Revue de géopolitique, Op. cit.

[14] جورج قرم، مدخل إلى لبنان واللبنانيين، دار الجديد، بيروت، 1996 ص88.

[15] RISSET Jacqueline, «Vernant conteur d’Ulysse», Le Genre humain, 2012/2 (N° 53), p. 59-64.

[16] يخلص جورج قرم في المصدر نفسه: انفجار المشرق العربي، إلى أنّ «المأساة بقيت [بعد رحيل عبد الناصر] هي نفسها، إذ إن في خارج الحلقات الضيّقة المستفيدة من ريع النفط، استمر الفقر المدقع، والشعور بالمهانة والمذلة إزاء تفتُّت العالم العربي وضعفه ضمن خريطة الجغرافيا السياسية الدولية التي يتحكم بها كبار هذه المعمورة».

[17] تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب، ص400.

[18] CORM Georges, «Religion et géopolitique : une relation perverse», Revue internationale et stratégique, 2009/4 (n° 76), p. 23-34.

«كان سعي الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون – يقول جورج قرم في مقابلة سابقة – إلى إيجاد بديل يمنع الحزب الشيوعي الإيراني القوي (توده) وغيره من الأحزاب المناهضة للإمبريالية الوصول إلى السلطة». ويضيف: «ظنّ الخبراء الإسلاميون الغربيون بسذاجة أنّهم يتعاملون مع شكل جديد من أشكال التزمت الوهابي المعادي للإلحاد والماركسية، ولكنّه لا يعادي بأي حال من الأحوال القوة الأميركية».

(*) يُنشر النص بالتزامن مع موقع “المراسل

Print Friendly, PDF & Email
محمود مروّة

مُحرّر موقع "المراسل"، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  كذبة السيادة.. وأولاد الجرائم المتبادلة!