

دونالد ترامب الكاره لفتح حروب وجبهات في الخارج، بحسب زعمه، جازفَ بقصف الحوثيين كي يُقصّر المسافة بينه وبين طهران، بينما ينتظر مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف بفارغ الصبر تكليفه بالملف الإيراني، بعد ملفي الشرق الأوسط وأوكرانيا، وهو واثق من أنه سيصل إلى نتائج مع إيران في غضون فترة قصيرة، ولن ينتظر سنتين على غرار ما فعلته إدارة الرئيس سابقاً باراك أوباما.
مصدر الإزعاج الوحيد لترامب، مما بات يعرف بـ”سيغنال غايت”، هو أن القضية حرفت الأنظار عن الحملة الجوية المكثفة على الحوثيين وعن الوظيفة المتوخاة من الحملة، وهي البعث برسالة قوية إلى إيران.
ولذا، لم يهتم الرئيس الأميركي بما يقال عن تعريض الأمن القومي لبلاده إلى الخطر، عندما يعمد كبار مساعديه إلى إجراء مداولات حول قرار الرئيس بضرب الحوثيين، عبر تطبيق “سيغنال” للمراسلات، وليس في غرف آمنة، ومن دون أن يبحث في السبب الذي أدى إلى إدراج رئيس تحرير مجلة “الأتلانتيك” جيفري غولدبرغ في هذه المداولات، وتالياً هو الذي أفشى للجمهور الواسع بما يفكر فيه مساعدو ترامب في شأن لزوم الضربة من عدمها، وإظهار نائب الرئيس جيه. دي. فانس، مزيداً من الكراهية لأوروبا إلى درجة قوله إنه “يعارض إنقاذ القارة مجدداً” في وقت يجب أن تتحمل هي مسؤولياتها لأن 75 في المئة من تجارتها تمر في قناة السويس بينما لا تتعدى التجارة الأميركية المارة في القناة 3 في المئة. وخلص إلى أن ضرب الحوثيين يعد بمثابة رسالة تثبت القوة الأميركية على المسرح العالمي.
القذائف في اليمن.. والهدف طهران!
بعد تفشي “سيغنال غايت” التي وجد فيها الديموقراطيون ضالتهم لكيل الاتهامات إلى ترامب، صعّد البنتاغون من عرض القوة الأميركي في اليمن، الذي تُستخدم فيه القاذفات الاستراتيجية من طراز “بي-2” غير المرئية للرادارات، وما يقال عن تزويدها بقنابل خارقة للتحصينات من طراز “جي بي يو-57” التي تزن الواحدة منها 30 ألف باوند، والتي يقول خبراء عسكريون إنها قادرة على اختراق تحصينات منشأة “فوردو” المُشيّدة تحت جبل بمحافظة قم في جنوب طهران. ونشر القاذفات في قاعدة دييغو غارسيا بالمحيط الهندي على مسافة 3300 ميل من إيران، يرمي إلى إظهار جدية الإدارة الأميركية في اللجوء إلى القوة إذا دعت الحاجة وليس الاكتفاء بالتلويح بها. وانسجاماً مع تعزيز الحشد العسكري، رُفدت حاملة الطائرات “هاري ترومان” التي تبحر في الشرق الأوسط بالحاملة “كارل فنسن”.
يُريد ترامب من خلال هذه الخطوات سد كل المنافذ الإقليمية على إيران، بدءاً من بغداد والضغوط التي تمارس على حكومة محمد شياع السوداني، لحل فصائل الحشد الشعبي، والابتعاد خطوة عن إيران. وهكذا أتى نزع الاستثناء الذي كان ممنوحاً للعراق لاستجرار الغاز الإيراني بغية توليد الكهرباء. وثمة محاولات لدفع بغداد إلى التطبيع مع النظام الجديد في سوريا بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع.
يطمح ترامب إلى تكبيل إيران وثنيها عن أي محاولة لاستعادة الوضع الذي كان قائماً قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وإحياء “حلقة النار” حول إسرائيل. أقصى ما هو معروض على طهران تسوية تحفظ استمرارية النظام أو المجازفة بحرب مع الولايات المتحدة وإسرائيل في بيئة استراتيجية غير مناسبة
و”حزب الله” في لبنان يتعرض للضغط مع التصعيد على الحدود الجنوبية مع إسرائيل والشرقية مع سوريا. ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يُوشك على استئناف حرب لبنان على نطاق واسع مثلما فعل في غزة، علماً أن إسرائيل لم تلتزم اتفاق وقف النار منذ إعلانه في 27 تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، إذ بلغ عدد الشهداء منذ ذلك التاريخ حتى الآن أكثر من 120 شهيداً ومئات الجرحى، فضلاً عن الدمار الكبير الذي لحق بقرى الحافة الأمامية ومناطق أخرى.
هوامش المناورة.. تضيق
وبين حرب ترامب على الحوثيين، واستئناف نتنياهو حروبه على غزة وتوسيعها مجدداً إلى لبنان، والمضي في التمدد في الأراضي السورية، والتلويح الأميركي لروسيا بحل ملائم لها في أوكرانيا، وتصاعد نبرة الخطاب التركي المتشنج حيال طهران، تضيق هوامش المناورة أمام إيران.
هذا ليس كل شيء. فالأوروبيون المختلفون مع ترامب حول أوكرانيا، يسيرون في ركبه عندما يتعلق الأمر بإيران. والترويكا الأوروبية المؤلفة من فرنسا وبريطانيا وألمانيا، قد تلجأ إلى مجلس الأمن قبل تشرين الثاني/نوفمبر المقبل موعد انتهاء مفعول الاتفاق النووي لعام 2015، كي يعيدوا تفعيل آلية فرض العقوبات الأممية على إيران (سناب باك).
وعندما حدّد ترامب مهلة شهرين لإيران كي تعطي جواباً حول ما إذا كانت تريد التفاوض أو المواجهة، فإنه سعى إلى حرمان طهران من ورقة شراء الوقت في انتظار حصول تغير ما في الظروف الإقليمية أو الدولية.
الجواب المبدئي الذي ورد على لساني كمال خرازي وعلي شمخاني، مستشارا المرشد آية الله علي خامنئي قبل أيام، كان القبول بالمفاوضات غير المباشرة، في حين أن الموقف الإيراني الأكثر تفصيلاً تضمنته الرسالة الجوابية “المتزنة”، التي سلّمتها طهران إلى سلطنة عمان كي تنقلها إلى البيت الأبيض.
هذه الرسالة، وحسب المعلومات الديبلوماسية، تتضمن إشارات واضحة إلى أن إيران لم ولن تسعى لإنتاج السلاح النووي وهي مستعدة للتفاوض بشرط توفير ضمانات بشأن رفع العقوبات والالتزام بالاتفاق الجديد ومغادرة منطق التهديد والإملاءات والتشديد على أن برنامج إيران الدفاعي هو شأن سيادي والترحيب بدخول الشركات الأميركية للاستثمار في إيران بعد رفع العقوبات، فضلاً عن الإشارة إلى أنه من المبكر الحديث منذ الآن عن عقد قمة أميركية – إيرانية.
تكبيل إيران.. واحياء “حلقة النار”
عند هذا الحد، هل يُمكن لديبلوماسية المراسلات أن تكون فاتحة للمفاوضات غير المباشرة ومن بعدها يأتي الحوار المباشر، وتعاد تجربة محمد جواد ظريف وجون كيري التي أثمرت “خطة العمل الشاملة المشتركة” (الإسم الرسمي للاتفاق النووي لعام 2015)، لكن هذه المرة نحو اتفاق أكثر شمولاً من البرنامج النووي، ويتعداه إلى القدرات الصاروخية والدور الإقليمي لإيران إلا إذا أراد الجانبان الإكتفاء باتفاق مرحلي حالياً يُمهّد لاتفاق أشمل في مرحلة لاحقة؟
وعندما يتحدث ترامب عن اعتزامه إحلال السلام في الشرق الأوسط، فإنه لا يعني إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، وإنما فرض رؤيته حول تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمزيد من الدول العربية، وليس مع السعودية فقط. وها هو ستيف ويتكوف يتحدث عن طموحه بالتوصل إلى اتفاقات سلام بين إسرائيل وكل من سوريا ولبنان أيضاً. أما بالنسبة للفلسطينيين، فتجعلهم رؤية ترامب فريسة للحل التوراتي، مع ميزان قوة مختل إلى حد بعيد لمصلحة بنيامين نتنياهو وشركائه من اليمين المتطرف.
ضمن هذه الرؤية، يطمح ترامب إلى تكبيل إيران وثنيها عن أي محاولة لاستعادة الوضع الذي كان قائماً قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وإحياء “حلقة النار” حول إسرائيل. أقصى ما هو معروض على طهران تسوية تحفظ استمرارية النظام أو المجازفة بحرب مع الولايات المتحدة وإسرائيل في بيئة استراتيجية غير مناسبة.
في ظل هذا المناخ، لماذا يُصر ترامب على تحريك “جبهة اليمن”؟
يضرب ترامب الحوثيين تحت عنوان اقناعهم بالكف عن مهاجمة خطوط الملاحة الدولية والسفن الحربية الأميركية. لكن بعد أسبوعين من القصف، لا يزال الحوثيون يطلقون الصواريخ بمعدل شبه يومي على إسرائيل وعلى حاملة الطائرات “هاري ترومان” بينما معظم الشركات العالمية تبقى مترددة في الملاحة بالبحر الأحمر.
في هذا السياق، بدأت تبرز تساؤلات عن الانعكاسات التي يُمكن أن تترتب على مواصلة القصف الأميركي لمدة أطول. هل تؤدي الضربات الأميركية إلى ارتفاع في الأسعار العالمية للنفط، وتالياً زيادة التضخم، مما لا يصب في مصلحة الإدارة الأميركية داخلياً؟ وهذه إحدى النواحي التي أثارها نائب الرئيس الأميركي في معرض تحفظه عن توجيه الضربات إلى الحوثيين.
ربما تلافياً لتورط طويل الأمد في اليمن، يُشدّد ترامب الضغوط أكثر على إيران كي تقتنع بأن التفاوض هو أفضل السبل، لتلافي كارثة أخرى في الشرق الأوسط.