لا تملك كامالا هاريس ما يملكه جو بايدن من تاريخ لم يستطع الفكاك منه. يؤمن بايدن بإسرائيل، كدولة وفكرة وحدوتة يراها ربانية وتستحق الوقوف بجانبها ودعمها بأى ثمن مهما كانت التكلفة أو النتائج. لا يتردد بايدن فى ترديد أنه صهيونى الهوى، ويذكر أن دعمه لإسرائيل له بعد شخصى بدأ منذ لقائه برئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة، جولدا مائير، قبل حرب أكتوبر عام 1973. كما يتفاخر بايدن بمعرفته القوية بكل قادة إسرائيل منذ ذلك التاريخ. لكن فى الوقت نفسه لم يستطع بايدن التخلص من إرث الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتى، والتى شكلت وشغلت أغلب حياته المهنية حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991، ولم يتخلص من عمق وتأثير نظريات الردع النووى، والتدمير المتبادل. ويرى بايدن أن روسيا، وريثة الاتحاد السوفيتى، هى محور الشر العالمى، ومن هنا يمكن تفهم محددات قراراته تجاه أزمة أوكرانيا.
***
على مدى السنوات الثلاث والنصف الماضية، تعرفت هاريس على السياسة الخارجية وتفاصيلها من خلال تنفيذها لأجندة الرئيس بايدن، وتجولت حول العالم وزارت 21 دولة، ومثلت بلادها فى العديد من المحافل الدولية والقمم العالمية.
مع صعودها السريع لتتبوأ بطاقة الترشح الديمقراطية للرئاسة الأمريكية، والتى قد تجعلها، حال فوزها، القائدة العليا لأكبر وأقوى جيش فى العالم، تُطرح العديد من الأسئلة حول كيفية رؤية هاريس للعالم، وقضاياه، ولدور الولايات المتحدة فيه، وكيف ستكون سياستها الخارجية إذا فازت فى الانتخابات فى الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
لا يجب أن يتصور أحد أن هاريس ستُغير السياسة الأمريكية بدرجات كبيرة، فهى تستعين بـ«فيل جوردون»، كمستشار للأمن القومى، والذى من خلال عمله فى مناصب عدة بإدارات ديمقراطية سابقة، ومراكز الأبحاث المحسوبة على الحزب الديمقراطى، يعرف قواعد عمل وحسابات وتوازنات واشنطن جيدا
بداية، هناك أسس موضوعية ستفرض حتمية تبنى نظرة مختلفة لقضايا العالم ودور بلادها فيه مقارنة بجو بايدن. هاريس تصغر بايدن بما يقرب من ربع قرن، من هنا تنتمى هاريس لجيل جديد مختلف تماما عن جيل بايدن. سمح هذا الاختلاف الجيلى بتحرر هاريس من مسلمات آمنت بها نخبة واشنطن المسنة خلال العقود الأخيرة.
قالت هاريس فى مؤتمر الحزب الديمقراطى «بصفتى رئيسة، لن أتردد أبدا فى الدفاع عن أمن أمريكا ومُثلها العليا، لأننى فى الصراع المستمر بين الديمقراطية والطغيان، أعرف أين أقف وأعرف أين تنتمى الولايات المتحدة». وقبل ذلك بشهور، وأثناء مشاركتها فى مؤتمر ميونيخ للأمن، أكدت هاريس للقادة الأوروبيين أن «العزلة ليست بديلا» فيما كان انتقادا مباشرا لنظرة دونالد ترامب للعالم.
كنائبة للرئيس، حرصت هاريس على زيارة إفريقيا ــ وهو أمر وعد بايدن بالقيام به، لكنه لم يفعله بعد. يعكس ذلك إدراك هاريس للجنوب العالمى، والدور الكبير الذى يلعبه فى القضايا العالمية الكبرى، وتأثره الكبير بالتنافس الصينى الأمريكى الحتمى.
كما أن خلفية هاريس كدارسة للقانون وعملها كمدعية عامة فى مدينة سان فرانسيسكو وولاية كاليفورنيا، تفرض عليها نمطا من التفكير، والنظر للقضايا الدولية بصورة تختلف جذريا عن بايدن.
***
على الرغم من تبنى هاريس نفس موقف إدارة بايدن فيما يتعلق بالعدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، وتأكيدها على حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها وأنها ستضمن أن يكون لديها القدرة على القيام بذلك، كانت هاريس من بين أول من أشاروا إلى حجم وعمق المعاناة الإنسانية لسكان القطاع. وخلال كلمتها فى المؤتمر العام للحزب الديمقراطى، دافعت هاريس عن تبنيها لمبدأ حل الدولتين، ودعمها لإنشاء دولة فلسطينية مجاورة لإسرائيل.
لكنها حتى الآن لم تقدم سوى القليل من المؤشرات على كيفية ترجمة تعاطفها الخطابى إلى سياسة. ويأمل بعض الخبراء المتفائلين أن تدفع خلفية هاريس القانونية لإعطاء وزن أكبر للقانون الدولى، والقوانين الأمريكية، فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة لإسرائيل، وموقف واشنطن من قرارات محكمتى العدل والجنائية الدوليتين.
لكن لا يجب أن يتصور أحد أن هاريس ستُغير السياسة الأمريكية بدرجات كبيرة، فهى تستعين بـ«فيل جوردون»، كمستشار للأمن القومى، وهو أحد خبراء السياسة الخارجية الأمريكية التقليديين، والذى، ومن خلال عمله فى مناصب عديدة بإدارات ديمقراطية سابقة، ومراكز الأبحاث المحسوبة على الحزب الديمقراطى، يعرف قواعد عمل وحسابات وتوازنات واشنطن جيدا. وقبل نهاية مايو/أيار الماضى، وفى حديث أمام مجلس العلاقات الخارجية بواشنطن حضرتُه شخصيا، أكد جوردون، أن «المسار الذى تتبعه واشنطن ووضعته إدارة بايدن لا يزال فى الأساس المسار الوحيد، الذى يبدأ باتفاق تحرير الرهائن ووقف إطلاق نار طويل الأجل، مع اتخاذ تدابير لمنع حركة حماس من أن تكون فى وضع يسمح لها مرة أخرى بحكم غزة».
اعتبر جوردون، الذى يُتوقع له أن يدير السياسة الخارجية حال فوز هاريس بالانتخابات أن «انتقال الحكم فى غزة إلى السلطة المدنية الفلسطينية، وإعادة الإعمار سيُمكن الفلسطينيين فى نهاية المطاف من حكم أنفسهم».
***
فى النهاية، تبقى هاريس ابنة لأم مهاجرة من الهند وأب مهاجر من جامايكا، قد تصل لأهم منصب على كوكب الأرض، ويدفعها ذلك لإدراك حقيقة أن العالم يتغير بطرق سريعة متنوعة ومختلفة، فى الوقت ذاته، لا يمكن عدم الأخذ فى الحسبان كون هاريس سيدة سوداء، متزوجة من محامٍ أبيض يهودى، وهو ما يؤثر كذلك فى رؤيتها وقراراتها للقضايا العالمية بما فيها الشرق الأوسط.
(*) بالتزامن مع “الشروق“