هكذا لم تُصفِح الجهود والخطابات الدبلوماسيّة خلال الحروب الأهليّة التي انطلقت في بلدان عربيّة عدة، بعيد انتفاضات “الربيع العربي”، عن الأهداف الحقيقيّة للدول التي كانت تتصارع عسكريّاً مباشرةً أو بالوكالة على الأرض، بينما كانت تتفاوض في الوقت ذاته في أروقة الأمم المتحدة وغيرها حول مآلات تلك الصراعات.. ثم تأتي قرارات من مجلس الأمن لتُمَثِّل نوعاً مما تتوافق عليه القوى الكبرى، ولكن مع صيغٍ تسمح بتأويلات متعدّدة بالنسبة للأطراف التي حافظت على قدراتها وعلاقاتها وعلى صيغٍ أكثر وضوحاً تجاه الأطراف التي خسرت رهاناتها. وكما في حال جميع قرارات مجلس الأمن التي تخطّت “الفيتو”، تبقى هذه القرارات حبراً على ورق بالنسبة للأطراف القادرة بانتظار مرور الزمن وتغيير الواقع نحو خلق توازنات جديدة.
فماذا كانت الأهداف الحقيقيّة للأطراف التي تفاوضت “دبلوماسياً” ووراء توافقات قرارات مجلس الأمن في حروب ليبيا وسوريا واليمن؟
منذ سنة، شرعت إسرائيل في حرب إبادةٍ جماعيّة في غزّة دون رادع. واضحٌ أنّ هدفها هو إنهاء وضع قطاع غزّة كسجنٍ كبير، ما كان متاحاً لاحتواء أهلها لفترة، ولكن أيضاً للقضاء على وضعيّة القطاع، الخالي من المستعمرات، كأوّل لُبنة لدولة فلسطينيّة ذات سيادة على أرض. هدف حرب الإبادة هو الانتقال إلى تمدّد أرض “دولة إسرائيل” إلى غزة ومحو مدنها وتراثها لتحويلها إلى “دبي” جديدة تصبح نهاية خطٍّ اقتصاديّ يمتدّ بين إسرائيل ودول الخليج وترسيخ أبعادٍ جيوسياسيّة جديدة. هذا بالتوازي مع العمل على ضمّ الضفّة الغربيّة أيضاً، بمباركة أمريكيّة في البداية كما حدث للقدس والجولان السوري، مع الإبقاء على “سلطة” فلسطينيّة لا حول لها سوى إدارة اندماج الفلسطينيين في المخطّط أو ترحيلهم.
هل تعي دول المنطقة حقّاً مصالحها ومآلاتها المستقبليّة؟ لماذا تترك بعض هذه الدول قنواتها الإعلاميّة تروّج لوجهات النظر الإسرائيليّة وتنخُر في الانقسامات السياسيّة الطائفيّة والعرقيّة لدى الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين وغيرهم؟ ولماذا يبقى النهج الدبلوماسي عند كلّ الأطراف ضمن لعبة التمويه القائمة؟
إلاّ أنّ لغة الدبلوماسيّة وخطاباتها العلنيّة بقيت تتحدّث عن “حلّ الدولتين” في ذات الوقت الذي تتمّ فيه إزالة مقوّمات أيّة دولة فلسطينيّة. صلافةٌ ما بعدها صلافة لتضليل رأيٍ عام ومبادئ إنسانيّة، برغم وضوح الإبادة الجماعيّة. وموازنة هذا الخطاب للتمويه بين “حلّ الدولتين” وبين “حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس”، هي وحدها، ضدّ مقاومةٍ اتُّهِمَت بالتطرّف والإرهاب وكأنّها لم تنشأ أصلاً في مواجهة تطرّف وإرهاب الطرف الإسرائيلي.
لقد مضت سنةٌ من التفاوض والدبلوماسية دون نتيجة، سوى أن تُكمِل إسرائيل خطّتها الحقيقيّة.. وفرض واقع جديد يُغيّر “ترتيب المنطقة” عبر مفاوضات ليس مع الغزاويين والفلسطينيين، بل مع الدول المحيطة والمهيمنة. ولكن حول ماذا؟
وها هو لبنان يتعرّض لبداية عدوانٍ صلفٍ غير مسبوق، بعد استكمال تدمير غزّة. في حين تنشط الدبلوماسيّة من جديد. ولكن ما الهدف الحقيقي لإسرائيل من ورائه؟ كان وقف إطلاقٍ للنار في غزّة كافياً لتسوية الأمور، بخاصّةً بعد تدمير القطاع.
إنّ حزب الله، مثله مثل حماس، لم ينشأ إلاّ جرّاء الاحتلال الإسرائيلي. وهو كان يعرِف منذ بداية حرب الإبادة في غزّة أنّه سيكون المستهدف التالي بغية “إعادة ترتيب المنطقة”. لقد التزم بقواعد اشتباك تماشياً مع الدبلوماسيّة المُعلَنة. ولكنّ ذلك لم يردع القادة الإسرائيليين ولم يغيّر السعي لتحقيق الأهداف الحقيقيّة للعبة الإقليميّة والدوليّة القائمة واستغلال الفرص.
لقد أُضعِفَ لبنان منذ تُرِكَ حاكم مصرفه يلعَب سنوات بـ”الهندسات المالية” في ظلّ إطراءٍ دوليّ بينما كان البلد مُفلساً ولكي تتبخّر عشرات مليارات الدولارات من ودائع طبقته الوسطى. وكان بمستطاع الدول الفاعلة الضغط لدرء هذه الكارثة. وأُضعِفَ لبنان منذ أن عملت الدول الخارجيّة على اللعب على دعم هذا الزعيم الطائفي أو ذاك، كما في زمن مرض الإمبراطورية العثمانية، كي تتعطّل المؤسسات السياسية ويتوقّف أيّ إصلاح وكي تضعُف الدولة بينما يعتاش جنود جيش البلاد من المساعدات الخارجية. وأُضعِفَ لبنان حين تمّ تعطيل أيّ توافق سياسي في سوريا للخروج من كارثة الحرب الداخليّة والتقسيم ومُنِعَت أيّة إعادة إعمار في سوريا، ليبقى لبنان حاملاً عبء لاجئين سوريين يشكّلون اليوم ثلث سكّانه. بل أُضعِفَ لبنان قبلها عندما تمّ زجّ أطرافه جميعها في الحرب السورية، قتالاً وتمويلاً وتوريداً للسلاح. فماذا كان الهدف الحقيقيّ من وراء إضعاف لبنان على المدى الطويل؟ أمن أجل هذه اللحظة التي تستبيحه فيها العنجهيّة الإسرائيليّة؟ وما فائدة “الدبلوماسيّة” الإقليميّة والدوليّة اليوم إذا لم تكُن لوقف العدوان عليه؟
إنّ الخطاب الدبلوماسي العلني يُركِّز على أشياءٍ أُخرى. “وقف التصعيد الإسرائيلي” مقابل وقف إطلاق النار من الجانب اللبناني.. وحده. و”عودة سكّان شمال إسرائيل وجنوب لبنان إلى ديارهم” وليس عودة أهل قطاع غزّة إلى ديارهم. “تجنّب توسعة الصراع إلى صراعٍ إقليميّ”، كما حصل في بداية حرب غزّة، في ظلّ التهديد الإسرائيلي اليوم باجتياح برّي للبنان وسوريا، وكأنّ الصراع ليس إقليميّاً في الأصل. خطابٌ يعزّز مخاوف أنّ أهداف المرحلة الحالية أبعد بكثير ممّا حصل في جولات العدوان السابقة. والدليل هو الجهد الإعلامي الكبير الذي يبذله الإسرائيليّون على وسائل التواصل الاجتماعي لشرذمة الوحدة الوطنيّة في كلّ دول الجوار. كأنّ يُقال مثلاً أنّ “إسرائيل تنتقم اليوم للسوريين”!
لكن ماذا عن دبلوماسيّة دول الإقليم؟ خطاباتٌ رنّانة هنا وهناك، ووساطات لا جدوى لها، كما في حال غزّة. ما يدعو للتساؤل عمّا إذا كانت دول المنطقة تعي حقّاً مصالحها ومآلاتها المستقبليّة؟ لماذا تترك بعض هذه الدول قنواتها الإعلاميّة تروّج لوجهات النظر الإسرائيليّة وتنخُر في الانقسامات السياسيّة الطائفيّة والعرقيّة لدى الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين وغيرهم؟ ولماذا يبقى النهج الدبلوماسي عند كلّ الأطراف ضمن لعبة التمويه القائمة؟
نحن في مشهدٍ يشبه ما عرفه الغزو الصليبيّ، مع فارق أنّ هناك دبلوماسيّة دوليّة تصل إلى كلّ بيت وإعلام منتشِر بقوّة. بلدان المشرق كانت غارقة في صراعاتها الداخليّة وعلى السلطة والبذخ والتوسّع. وخلافة عباسيّة رمزيّة لا حول لها ولا قوّة. سلاجقة أتراك سنّة يتصارعون مع بويهيين إيرانيّين ديالمة اسماعيليين وشيعة وفاطميّين عرب وأمازيغ إسماعيليّين في القاهرة. “إمبراطوريّات”، جميعها متعدّدة الأديان والمذاهب والأقوام، تعاونت مع أعدائها الواحدة ضدّ الأخرى. ثمّ سقطت جميعها وتمّ احتلال بلاد الشام وبيت المقدس، بانتظار الزنكيين والأيوبيين، ولكن بعد عقودٍ طويلة ومآسٍ إنسانيّة كبيرة.
واضحٌ أنّ أبناء هذه المنطقة، من زعماء البلدان والطوائف، لم يتعلّموا شيئاً من تاريخهم.. لصنع مستقبلهم.