من هنا، يطرح سؤال أساسي حول علاقة هذه البيئة بالدولة. هل اختار أبناؤها العيش خارج الدولة؟ هل هم يفضلون حزب (أو أحزاب) المقاومة على الدولة؟ لماذا يدافعون عن السلاح الموصوف بـ”غير الشرعي”؟ لماذا لا يختارون مفهوم الدولة بدل مفهوم “الدويلة”، كما يصفها المناوئون لها؟
بداية، لا بد من الإقرار بأن ما من إنسان سويّ يرضى أن يعيش خارج “الدولة”. فالتطور التاريخي للبشرية هو الذي أوصلها لاختيار نموذج الدولة للعيش فيه حفظاً للمصلحة العامة ولتنظيم الحقوق والحريات ولبناء النموذج الحضاري الذي ترتأيه هذه الجماعة. لكن الخلاف هو على ماهية هذه الدولة.
هل استطاعت الدولة اللبنانية تشكيل النموذج الذي يطمح إليه جميع أبنائها؟ هل استطاعت احتضان كل الفئات التي شكّلت تعداد سكانها؟
أكرّر دائماً القول إن الدولة في لبنان بنيت على أسس خاطئة، وهي الطائفية التي جعلت هناك حاجزاً بين الدولة وبين الشعب، ومنعت تبلور مفهوم المواطنة وبالتالي أصبح الانتماء للوطن يمرّ عبر الطائفة، والولاء للوطن يمرّ عبر الولاء للطائفة أولاً. وبذلك، أصبحت المصلحة العامة كناية عن “مصالح عامة”؛ كل طائفة تسعى لانتزاع ما أمكنها من المكتسبات على حساب المصلحة العامة الوطنية الجامعة. والأخطر من هذا، أن كل طائفة راحت تسعى لحماية خارجية وللاستقواء بدولة خارجية، تارة من فرنسا وأخرى من الولايات المتحدة وغيرها، وطوراً من دول عربية وصولاً إلى الجمهورية الإسلامية في ايران. وأصبح الجدل السياسي ليس حول مبدأ الاستقواء بالخارج، والسماح للخارج بالتدخّل في الشؤون اللبنانية، بل حول هوية هذا الخارج. هذا بالإضافة للحماية التي شكّلتها الطائفية لمنظومات الفساد في مختلف المراحل.
المطلوب احتضان هذه البيئة المكلومة، المطاردة، والكفّ عن إظهار الشماتة وعن التحريض أو التبرير للعدو باستهداف المدنيين بحجة وجود سلاح أو مقاومين. احتضان المهجرين وتضميد جراحهم هو اللبنة الأولى لبناء وطن موحّد سليم معافى، لأن الحرب لا بدّ أن تنتهي يوماً وستبقى بعدها ذكرى.. إما الاحتضان أو الشماتة
من جهة أخرى، من مقوّمات الدولة الأساسية: العدل والقوة. ودولتنا لم تكن يوماً لا عادلة ولا قوية. فدولة الخمسينيات والستينيات تألّقت في بيروت وجبل لبنان وأهملت الأطراف. السيد موسى الصدر لم “يبتكر” الحرمان بل وجده وعمل على محاربته. إيران لم توجِد الضاحية بل إنها الدولة، التي أهملت أبناءها، هي التي تسبّبت بوجودها. بُنِي الجنوب بجهد أبنائه وليس بجهد الدولة. بعض مناطق بعلبك والهرمل عاشت خارج القانون حتى انتشرت فيها الممنوعات بسبب غياب الدولة. الأمر نفسه ينطبق على مناطق الشمال المحرومة هي الأخرى. أبناء هذه المناطق الذين هم اليوم ضحايا الإجرام الإسرائيلي لطالما كانوا ضحايا دولتهم التي كان من المفترض بها مدّ يدها إليهم والسعي لإلحاقهم بالتطور الذي عاش فيه أبناء المركز في بيروت وجبل لبنان.
ومن مقوّمات الدولة أيضاً القوة. متى كانت دولتنا قوية؟ يوم أدخلت الفلسطينيين باتفاق القاهرة الذي لم يعلم به أبناء الجنوب يومها، ثم تركت هؤلاء يواجهون الاعتدءات الإسرائيلية وحدهم؟ تعرّضوا للاحتلال والأسر والتعذيب ولم يهبّ لنجدتهم إلا المقاومة التي أشعرتهم أنهم ليسوا متروكين لمصير مشابه لمصير الفلسطينيين. هل يُسمح للجيش اللبناني بالتسلح بما يردع العدو؟ كل مواطن يتمنى لو أن الجيش هو الذي يدافع ويحمي ويقاتل. لكن إذا كان الجيش ممنوعاً من ذلك، ماذا يفعل ابن الجنوب؟ يأخذ مفتاحه معه ثم يعلّقه في بلدان اللجوء تماماً كما حصل مع الفلسطينيين؟
والنكتة السخيفة هي في القول بأن الإسرائيلي لا يعتدي إذا لم نقم باستفزازه. يعني التعويل على حسن نية الصهاينة الذين لم يخفوا يوماً أطماعهم ببلادنا وصولاً إلى مكة المكرمة. ألم يبدِ دونالد ترامب امتعاضه من صغر حجم “إسرائيل”؟ ألم يقم بوهب الجولان السوري المحتل للكيان الصهيوني وكأنه من ميراث أبيه؟ ألم تسمعوا بحكاية “ألون ولبنان” التي تذكّرنا بأن لبنان في التوراة جزء من الأرض الموعودة؟ ألم ينبرِ القادة الصهاينة يوم ظنوا أنهم استطاعوا القضاء على المقاومة للتنصل من اتفاقية الغاز والحدود البحرية لمحاولة السيطرة الكاملة على ثروتنا الغازية؟ ألم تُمنع شركة “توتال” في حقل قانا من الاستمرار في التنقيب وأعلنت أنها لم تجد الغاز الموعود في حين أن الكيان الصهيوني يستخرج ويُصدّر من نفس البقعة تقريباً؟ كيف الاطمئنان والنوم على حرير دون قوة رادعة يُحسب لها العدو ألف حساب قبل أن يعتدي على شبر من أرضنا أو على نقطة من ثرواتنا، نحن الذين شاء سوء طالعنا أن يُقام الكيان الغاصب على حدونا؟ ما العمل طالما أن الجيش مقيّد بأوامر السفراء الأميركيين؟ هل نركن إلى خيار السلام؟ إلامَ أدّى هذا الخيار مع الكيان الصهيوني؟ هل سُمح للفلسطينيين ببناء دولة في جزء صغير من بلدهم؟ لم يحصدوا سوى سلطة دون “سلطة”، تتعرض للقضم المستمر للممتلكات وللاعتداء وللحصار والتجويع والتهجير.
بالعودة إلى لبنان، لن يتخلّى المواطن من بيئة المقاومة عن سلاح مقاومته إلا عندما يطمئنّ إلى أن دولته تحرّرت من القيود الغربية وأصبحت قادرة على حمايته بجيش قوي يملك وسائل الردع، وعندما تحتضنه هذه الدولة وتعتبره جزءاً غالياً منها وليس عدداً مكمّلاً لحاجتها لأرض زراعية ولعمال اضطرت لضمّهم بعد مجاعة الحرب العالمية الأولى واليوم تراهم عبئاً عليها لأنهم “لا يشبهون” بعض أهل المركز، ولأنهم يصلّون ويصومون ولا تشرب فئة منهم “كأساً”، كما لم يستحِ أحدهم من المجاهرة بذلك.
واليوم، المطلوب احتضان هذه البيئة المكلومة، المطاردة، والكفّ عن إظهار الشماتة وعن التحريض أو التبرير للعدو باستهداف المدنيين بحجة وجود سلاح أو مقاومين. احتضان المهجرين وتضميد جراحهم هو اللبنة الأولى لبناء وطن موحّد سليم معافى، لأن الحرب لا بدّ أن تنتهي يوماً وستبقى بعدها ذكرى.. إما الاحتضان أو الشماتة.