في الثالث من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ألقى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، آية الله علي خامنئي، خطاباً أمام حشد كبير من المسؤولين الحكوميين والزوار الدوليين في طهران، ذكّر فيه بالوصف الذي أطلقه مؤسس الجمهورية، آية الله الخميني، على إسرائيل: “الشيطان الأكبر”، وقال: “سيتم استئصال هذا السرطان بالتأكيد، إن شاء الله، على أيدي الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة في جميع أنحاء المنطقة”.
بعد أربعة أيام، نفذت حركة “حماس” ومقاتلون فلسطينيون آخرون عملية “طوفان الأقصى”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر، (…) قابلتها إسرائيل بعدوان عسكري شرس ضد قطاع غزَّة، متواصل حتى اليوم، وقد قضى على معظم قيادي “حماس” وآلاف المقاتلين، وعشرات الآلاف من المدنيين وتدمير أكثر من 80 بالمائة من القطاع.
وبرغم أن إيران لم تكن متورطة بشكل مباشر في عملية “طوفان الأقصى” إلا أنها ساندت المقاومة الفلسطينية على أمل تحقيق نبوءة خامنئي. في البداية، دخلت الحرب باتباع قواعد لعبتها المصقولة بشكل جيد: اتخاذ موقف دبلوماسي ضد التصعيد مع حشد ميليشياتها بالوكالة لمهاجمة إسرائيل. ولكن في 13 نيسان/أبريل 2024، غيَّرت مسارها، وشنّت للمرة الأولى هجوماً مباشراً من أراضيها على إسرائيل، لكن الأخيرة؛ وبفضل حلفائها الغربيين العرب؛ تمكنت من صدّ الهجوم، ثم انتقمت، ونجحت في احتواء التصعيد.
وبعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، يمكن القول إن اليد العُليا لإسرائيل ستقوى على إيران. ومع ذلك، فإن الوقائع التاريخية تشير إلى أنه من غير المرجح إجبار الجمهورية الإسلامية على التراجع أو الإستسلام. بل العكس هو ما سيحصل: الصراع العسكري المباشر بين إيران وإسرائيل هو تحول زلزالي من شأنه أن يخلق توازناً غير مستقر إلى حد كبير، فقد عزَّز سياسة “العين بالعين”، ورفع احتمالات أن تخوض هاتان الدولتان الأقوى في الشرق الأوسط حرباً شاملة قد تجذب أميركا وتُخلّف تأثيراً مدمراً على المنطقة والاقتصاد العالمي.
وحتى لو لم تندلع مثل هذه الحرب، فقد تسعى إيران الضعيفة إلى عزل نفسها من خلال الحصول على سلاح نووي، مما ينذر بموجة انتشار أوسع للأسلحة النووية في المنطقة. وبالتالي، فإن منع مثل هذا المستقبل يشكل تحدياً أساسياً أمام الرئيس الأميركي المُنتخب، دونالد ترامب، الذي يتعين عليه التوصل لإتفاق إقليمي (…).
قوة صاعدة
في البداية، سعت إسرائيل، التي اعتادت التعامل مع الشاه محمد رضا بهلوي، إلى إقامة علاقات هادئة مع إيران الثورة، التي اعتبرتها “بأنها لن تدوم طويلاً”، حتى أنها حرصت على إمدادها بالسلاح خلال حربها مع العراق (1980) على أمل إطالة أمد الصراع ضد بغداد (كان الإسرائيليون يرون في العراق تهديداً أكثر خطورة). ولكن هذه المناورة انتهت بشكل سيئ بعد فضيحة “إيران كونترا” (عندما تورط مسؤولون أميركيون بصفقات أسلحة ــ بما في ذلك تلك التي تبيعها إسرائيل ــ لحث طهران على إطلاق سراح الرهائن الأميركيين في الشرق الأوسط وتمويل متمردي الكونترا سراً في نيكاراغوا)، مما جعل الموقف الإيراني أكثر تصلباً، فتبددت أوهام الإسرائيليين بأن إيران الثورة لن تصمد وستزول بسرعة (…).
في الوقت نفسه، منحت نهاية الحرب الإيرانية- العراقية (1988) إيران القدرة على تحدي إسرائيل بشكل جدّي أكثر (…)، وسارع النظام إلى ترسيخ قبضته على السلطة، وتوسيع استثماراته في حركات المعارضة لإسرائيل في المنطقة.
ثم جاءت الأحداث التي وقعت في العقد التالي لتعززمكانة النظام الإيراني في المنطقة. فالتدخلات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق أطاحت بأهم خصومه (حركة طالبان والرئيس العراقي السابق صدام حسين)، وأعطته مساحة أكبر للمناورة، لا سيما لناحية إقناع الداخل بأن واشنطن “تحاول خنق الجمهورية الإسلامية”. كما أصبحت إيران أكثر قدرة واستعداداً لتسليح شبكة من الحلفاء (…).
خلال الفترة ذاتها، بدأت طموحات إيران النووية تظهر للعلن (البرنامج كان قائماً قبل الثورة). ففي عام 2002، كشفت مجموعة معارضة إيرانية عن مواقع نووية مخصصة لإنتاج الوقود الذي يمكن استخدامه في صنع الأسلحة، ما اعتبرته كلٌ من إسرائيل وروسيا وأميركا وغيرها انتهاكاً لالتزامات طهران بمعاهدة منع الانتشار النووي، و”دليل” على نيتها امتلاك أسلحة نووية ونقلها إلى وكلائها.. وكانت النتيجة معاقبتها بحزمة غير مسبوقة من العقوبات الاقتصادية المتعددة الجنسيات.
هذه القيود أثّرت على أجندة طهران، لكنها لم تعطل صعودها الإقليمي، الذي عاد ليكتسب زخماً جديداً بفضل “انتفاضات الربيع العربي” (2010-2011). في البداية، شكّلت تلك الانتفاضات، وما تبعها من حروب أهلية في بعض البلدان، تحدياً لإيران، لا سيما عندما طالت الحليف الأهم في الشرق الأوسط: نظام الأسد. ولكنها تمكّنت من إنقاذ الأسد لأكثر من عقد من الزمان بمساعدة حزب الله وروسيا، كما تمكّنت من تعزيز نفوذها في سوريا، ما ساعدها في ضمان بقاء حزب الله من خلال تعزيز موقعه وتطوير ترسانته من الصواريخ الدقيقة وتزويده بالوسائل اللازمة لإنتاجها. كذلك فعلت إيران في اليمن والعراق.. وبحلول نهاية العقد الأول من القرن الحالي، يمكن القول إن إيران نجحت في تثبيت نفوذها في أنحاء واسعة في المنطقة عبر شبكة من الميليشيات الحليفة القوية: تشكيل “محور المقاومة”.
اللعب بالنار
كانت إسرائيل تراقب كل ذلك بحذر. ولسنوات ظلّت تتجنب “المهاجمة المباشرة”. ففي عام 2012، تراجعت عن ضرب البرنامج النووي الإيراني بضغط من الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. وحاولت جاهدة للحؤول دون توقيع “الاتفاق النووي الإيراني” الذي تم بين طهران وواشنطن وخمس قوى عالمية أخرى عام 2015.
لجأت إسرائيل إلى بدائل فعَّالة للعمل العسكري المباشر، ولكن بالبقاء دون العتبة التي من شأنها أن تثير انتقاماً إيرانياً مباشراً. فمن خلال العمليات السرّية والهجمات الإلكترونية، عطَّلت معظم المنشآت النووية الإيرانية الرئيسية، وسرقت السجلات الأرشيفية الخاصة. كما اغتالت عدداً من العلماء النوويين والضباط، وبنت شبكة استخبارات قوية أبقت نظام طهران في حالة من عدم التوازن عن طريق ضرب موارده خارج البلاد واستهداف حلفائه ووكلائه أينما وجدوا (قصف خطوط الإمداد الخاصة بحزب الله داخل سوريا، قصف مستودعات الأسلحة الإيرانية في العراق، تدمير مرافق إنتاج الصواريخ في لبنان، اغتيالات..). لكن، وبرغم كل ذلك، فشلت في تحقيق انتكاسات حقيقية وحاسمة ضد حزب الله أو إيران.
تزامن التصعيد الإسرائيلي في إيران وسوريا مع ولاية إدارة ترامب الأولى، التي اتخذت موقفاً أكثر صرامة تجاه إيران: انسحبت من الاتفاق النووي وفرضت عقوبات اقتصادية مشدَّدة على أمل انتزاع تنازلات بعيدة المدى، كما اغتالت قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سُليماني في العام 2020(…).
لكن طهران؛ من خلال ردودها؛ قدمت دراسة حالة في حساباتها الحذرة. ففي العام الأول من تلك العقوبات، أظهرت ضبط النفس بشكل ملحوظ، ثم سرعان ما سجلت انعطافة كبيرة بشنّ سلسلة من الهجمات المضادة، بعضها طال منشآت نفطية سعودية وسفن شحن في مياه الخليج. لم يكن هذا عنفاً متعمداً: فالقادة الإيرانيون كانوا يأملون في أن تؤدي المواجهة إلى تغيير تحليل واشنطن للتكاليف والفوائد وإجبارها على وقف الضغوط ورفع العقوبات. لم ينجحوا – ولكن من وجهة نظرهم، لم تفشل مناورتهم أيضاً. فبالنسبة لطهران، غالباً ما يكون أفضل دفاع هو الهجوم الجيد، وكانت ردودها بمثابة إشارة للعالم بأنها على استعداد لفرض تكاليف موجعة على كل من يهاجمها.
إن تبادل الهجمات المباشرة بين إيران وإسرائيل مؤخراً نقل المواجهة بينهما إلى منطقة جديدة. فالغارة الإسرائيلية التي استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق، قابلتها إيران بهجوم مضاد مباشر على الأراضي الإسرائيلية. كان الرد الإيراني؛ مثل سابقاته؛ محسوباً ومصمماً بوضوح لإيصال رسالة. فإيران، بعد كل شيء، أعلنت عن الهجوم قبل وقت طويل. وإسرائيل استطاعت صدّه بفضل مساعدة أميركا وبريطانيا ودول عربية مجاورة. ومع ذلك، لا يمكن القول إن إطلاق أكثر من 350 صاروخاً باليستياً وصواريخ كروز وطائرات حربية مسيَّرة كان مجرد استعراض للقوة. بل كان هجوماً مصمماً بشكل جيد لإحداث أضرار جسيمة، والقتل، والتدمير”، بحسب الرائد بنيامين كوفي، من القوات الجوية الأميركية الذين شاركوا في صدّ الهجوم الإيراني.
لقد تسبب موت الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي (في حادث تحطم مروحيته في أيار/مايو 2024) في تشتيت النظام، وبدا وكأنه عطَّل دوامة التصعيد لفترة وجيزة. ولكن لم يمض وقت طويل قبل أن يشتعل الصراع مرة أخرى. ففي آب/أغسطس 2024، اغتالت إسرائيل رئيس حركة حماس، إسماعيل هنية، في دار ضيافة رسمية في طهران، بعد ساعات فقط من لقاء هنية بالمرشد الأعلى وحضوره مراسم تنصيب الرئيس الجديد، مسعود بزشكيان. بعد ذلك بأقل من شهرين، صعّدت إسرائيل حربها ضد لبنان: تفجير آلاف أجهزة البيجرز واللاسلكي بأيدي آلاف من عناصر حزب الله؛ اغتيال معظم قادة الصفين الأول والثاني في الحزب ومن بينهم الأمين العام السيّد حسن نصرالله، وتدمير جزء مهم من ترسانة الحزب الصاروخية وصولاً إلى وقف النار في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.
لا شك أن هذه الضربات القاسية قد أضعفت حزب الله وإيران، وأدّت إلى إهدار عقود من الاستثمار الإيراني في حزب الله بطريقة دراماتيكية. فعلى مدى أكثر من أربعين عاماً، كان الحزب العامود الفقري لـ”محور المقاومة” وبمثابة “خط الدفاع الأول” لإيران (…). وهذا “الإضعاف”؛ حتى ولو افترضناه مؤقتاً؛ تسبب في تقويض مكانة إيران ونفوذها في المنطقة. وخسارة السيّد نصرالله؛ بشكل خاص؛ كانت مدمرة للقيادة الإيرانية، فقد كان مقرباً جداً من خامنئي (علاقتهما تعود إلى الأيام الأولى لتأسيس حزب الله في لبنان)، ويعتبره “مرشده الروحي” (…).
رغبة إسرائيلية في التدمير
إن الهجمات المباشرة بين إيران وإسرائيل منحت اليد العُليا للأخيرة، التي تبدو اليوم أقوى من أي وقت مضى، برغم الفشل الكارثي الذي مُنيت به في 7 تشرين الأول/أكتوبر. كما أن مساهمة العديد من الدول العربية في صدّ الهجوم الإيراني أثبت لها استعداد هذه الدول لمساندتها في ردع إيران (…).
ومع ذلك، تواجه إيران وإسرائيل ــ والمنطقة ككل ــ مأزقاً صعباً. صحيح أن إسرائيل حقَّقت نصراً كبيراً، ولكن القادة الإيرانيين والإسرائيليين يعتقدون أن التهديد الذي يشكله الطرف الآخر لا يزال وجودياً ولا ينضب. وكلاهما يسعيان إلى تصوير الآخر على أنه في وضع حرج: رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتباهى بقدرة بلاده على ضرب إيران متى شاءت. وخامنئي يعتبر النكسات التي لحقت بحلفائه لا معنى لها؛ ويرى أن “حماس” وحزب الله انتصرا لمجرد أنهما ظلّا على قيد الحياة، ويصر على أن تدمير إسرائيل مسألة وقت فقط.
قد تكون مواقف خامنئي الأخيرة مبالغ فيها نظراً للخسائر التي تكبدتها بلاده وحلفاؤه (…). ومع ذلك، فقد رأينا، على مدى السنوات الـ45 الماضية، كيف تمكنت القيادة الإيرانية من تجاوز العديد من النكسات الكبيرة ببراعة مدهشة، من خلال تقبل التحدي والضغوط بنفس طويل، التراجع أو التحول حسب الضرورة، نشر الموارد وحبك العلاقات المحدودة بشكل إبداعي، والمجازفة من أجل تثبيت النفوذ. وهو قد يفعل ذلك مرة أخرى اليوم وفي المستقبل القريب (…).
لا شك أن اغتيال نصرالله شكّل ضربة موجعة لحزب الله. ولا شك أيضاً أن إسقاط نظام الأسد يشكل ضربة لـ”محور المقاومة”. ولكن إيران الضعيفة لا تعني بالضرورة أنها أصبحت أقل خطورة (…) والسوابق التاريخية تشهد على أنه من الخطأ الافتراض أنه بالإمكان فرض الاستسلام على إيران. وهناك علامات بدأت تظهر تؤكد أنها سترفع الرهانات لموازنة نقاط ضعفها الجديدة. فلأول مرة منذ عقدين من الزمان، تبرز أصوات مهمة داخل البلاد تدعو علناً إلى إمتلاك سلاح نووي (المحافظون طلبوا من خامنئي علناً إعادة النظر في فتواه التي تحظر إنتاج الأسلحة النووية). فإذا كانت القواعد الأساسية للعبة قد تغيرت بعد “طوفان الأقصى”، فإن عقيدة الدفاع الإيرانية ستتغير أيضاً. وإذا ما أصرَّ ترامب على منح إسرائيل الدعم المطلق سيكون بذلك يدفع طهران إلى تسريع جدولها النووي وتبني التسليح علناً (…).
ترامب وكيل الفوضى
ستتولى إدارة ترامب الثانية منصبها عازمة على اتخاذ موقف صارم تجاه طهران، تماماً كما فعلت إدارته الأولى. فهو شخصياً توعد الإيرانيين بـ”تفجير أكبر مدنكم، وتحويل بلادكم إلى أشلاء إذا حاولتم اغتيالي”! كما أن فريقه توعد بتكثيف الضغوط الاقتصادية (…). وعلى عكس إدارة جو بايدن، قد لا يهتم فريق ترامب كثيراً بالنتائج العكسية المحتملة للقضاء على قدرات الحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق. وهذا يعني أن المنطقة متجهة نحو المزيد من إراقة الدماء. وإذا خلعت إسرائيل أو أميركا قفازاتهما في العراق واليمن، فقد يؤدي ذلك إلى زعزعة استقرار العراق ويدفع الحوثيين إلى استهداف شركاء أميركا في الشرق الأوسط (منهم الأردن والسعودية والإمارات)، ويعرقل الإنسحاب العسكري الأميركي من المنطقة (…). وكذلك يمكن أن يؤدي عدم اليقين بشأن مستقبل لبنان وسوريا.
ومع ذلك، قد تكون سياسة ترامب أكثر دقة من المواجهة الثابتة. بادئ ذي بدء، ستجد الإدارة الجديدة أن الأدوات المتاحة لها أقل فعّالية مما كانت عليه خلال الولاية الأولى. على سبيل المثال، نجحت عقوبات “الضغوط القصوى” التي فرضها في خفض صادرات النفط الإيرانية وعائداتها بفضل التعاون من جانب الصين، وهو ما قد لا تكون بكين على استعداد لتكراره، لا سيما وأن شبكات التهريب أصبحت أكثر تعقيداً. كما أن أي إكراه اقتصادي جديد قد يواجه رياحاً معاكسة من حلفاء واشنطن في الخليج، الذين باتوا يفضلون استقطاب طهران بدلاً من مواجهتها.
ثم هناك أيضاً آراء ترامب الخاصة بشأن إيران. فهو عبَّر عن رغبته في التوصل إلى اتفاق معها (…) ويبدو أنه أعطى الضوء الأخضر للمشاركة المبكرة مع المسؤولين الإيرانيين هذه المرة (إرسال إيلون ماسك للقاء سفير إيران لدى الأمم المتحدة في الشهر الماضي).
لا شك أن الإدارة الأميركية الجديدة ستتبنى نهجاً متساهلاً تجاه الطموحات الإقليمية الإسرائيلية. لكن ترامب يقول أيضاً إنه يريد إنهاء الحرب في غزَّة وتوسيع “اتفاقات أبراهام” بإضافة السعودية، وتخفيف الالتزامات العسكرية، وخفض أسعار الطاقة، وخلق صين أكثر طاعة، وإنهاء البرنامج النووي الإيراني. وتحقيق هذه الأهداف يتطلب مقايضات صعبة، ويستلزم استراتيجية أكثر تعقيداً من مجرد مهاجمة إيران وحلفائها.
قد لا تكون “الوصفة المثالية” للاستقرار في الشرق الأوسط متوفرة في الوقت الراهن (…). ومع ذلك، قد تكون هذه هي اللحظة المناسبة للفوضى غير التقليدية وغير المتوقعة وغير المقصودة (…). إن طموحات ترامب الكبرى ونهجه في السياسة الخارجية مناسبان بشكل مدهش للشرق الأوسط اليوم، حيث المصالح والاستثمارات الانتهازية هي اللغة المشتركة.
ولكي ينجح ترامب، يتعين عليه إدارة وجهات النظر والأولويات المتنافسة لموظفي إدارته (…). وقد يبدأ، كما فعل في ولايته الأولى، مع دول الخليج التي تريد بشدة وقف حرب غزَّة (…)، كما باستطاعتها المساعدة في التوصل إلى اتفاق جديد مع إيران (…). ومن المؤكد أن العالم العربي سوف يرحب باتفاق يمنع وقوع حرب شاملة تؤذن بعواقب كارثية على الجميع.
إن إلتقاء المصالح مفيد، ولكنه غير كافٍ لتحقيق النتائج التي يرغب فيها ترامب. وهنا قد تكون تقلبات الرئيس المنتخب وقسوته غير متوقعة. فإذا أعاد ترامب فرض ضغوط اقتصادية ذات مغزى على إيران ومنح إسرائيل المزيد من الحرية لمواصلة عدوانها العسكري هنا وهناك، فقد ينجح في إظهار قدرات بلاده وقد يجبر إيران على تغيير مواقفها. ومثل هذا “النهج الأميركي القوي” أتى بثماره في الماضي مع قيادة إيرانية كان اهتمامها الأساسي هو بقاء النظام (…) وقد يثمر في المستقبل القريب “صفقة القرن” الحقيقية: تخفيف الصراعات المتعددة الأطراف المستعرة في الشرق الأوسط، رسم أفق سياسي للوضع في فلسطين ولبنان، انتزاع تنازلات من طهران بشأن برنامجها النووي وتدخلاتها في الإقليم.
ولكن التوصل إلى مثل هذه “الصفقة” ما يزال صعباً للغاية. فخلال فترة ولايته الأولى، لم تفلح الدبلوماسية غير التقليدية التي انتهجها ترامب مع قوة نووية أخرى متمردة، كوريا الشمالية، في نهاية المطاف، ولم تحقق إدارته سوى القليل من الاختراقات الملحوظة في التعامل مع القوى المعادية. وحتى لو تحقق ذلك، فمن غير المرجح أن تستمر “الصفقة” لفترة طويلة، ذلك أن عداء القيادة الإيرانية الحالية لكل من إسرائيل وأميركا ثابت، وكذلك الاستثمار في البرنامج النووي و”محور المقاومة” كأساس لاستراتيجية بقائه ثابتٌ أيضاً.
ومن جانبه، يتمسك نتنياهو بنهجه العسكري المتطرف لتحقيق مكاسب استراتيجية تساعده في حصد فوائد سياسية محلية. وبقاء نتنياهو في الحكم يعني أنه لا يوجد نقص في المفسدين في هذه المنطقة القابلة للاشتعال.
المطلوب هو العمل من أجل التوافق على مجموعة من التفاهمات تكفي لتخفيف حدَّة التوتر في الشرق الأوسط. فهذا من شأنه أيضاً أن يمكّن واشنطن، والعالم، من تحويل انتباههم إلى تحديات أكبر: الصين وروسيا على سبيل المثال. ومن يدري، لربما إذا نجح ترامب في وقف بعض إراقة الدماء والتقليل من بعض المخاطر المحدقة بالمنطقة والعالم- ولو مؤقتاً- فقد ينال جائزة نوبل للسلام التي ينشدها بشدة!
– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.
(*) سوزان مالوني، نائبة رئيس ومديرة برنامج السياسة الخارجية في مؤسسة “بروكينغز”.