كان في تصور الجماعات اللبنانية أن سوريا البعث الموحدة عصيّة على الكسر.. ربما صدّق كثيرون منهم أنها “أبدية”. سوريا تلك كانت قاسية مهما كانت هوية الحاكم؛ خالد العظم أم صلاح جديد أم حافظ الأسد؟ تُسقَط “الخشبة” على الحدود بقرارٍ واحد.
منذ العام 2011، بات اللبنانيون أمام أشباح جديدة متمددة ومنفجرة احتلالاً لمناطق حدودية أو عمليات انتحارية، بفعل الإنفجار المجتمعي الشديد التنوع والتعقيد في دولة تقع في قلب الشرق الأوسط.
سوريا الواحدة الخارجة من رحم الإنتداب الفرنسي، والمحكومة علاقتها بـ”التوأم” لبنان بظلال الشك التكويني بعد العام 1920، كانت في تصور اللبنانيين، إما تهديداً للحريات البنيوية في لبنان، أو تهديداً أمنياً وسياسياً بفعل التدخلات المستمرة والمتحولة من عبد الحميد السراج في دعم الثورة ضد كميل شمعون، وصولاً إلى إدخال “الصاعقة” وحماية المنظمات الفلسطينية المسلحة بعد العام 1968. كانت سوريا تلك أيضاً وسيلة محتملة لدعم أطراف في لبنان في سياق الصراع على السلطة، من المحاولات الإستكشافية لأنطون سعادة مع حسني الزعيم و”خيانته” له، إلى السراج وصراعات البعث ومحاولة كمال جنبلاط جذب حافظ الأسد في صراعه مع موارنة لبنان. وأيضاً، محاولة المسيحيين وتحديداً رئيس “الكتائب” بيار الجميل للإستفادة منها في الصراع مع الفلسطينيين وحلفائهم في “الحركة الوطنية اللبنانية”، قبل أن تتيقن المسيحية السياسية أن دمشق حافظ الأسد ليست بيدقاً أو بندقية في يدهم، وأنّ وريثة الأمبراطورية الأموية تتحرك وفقاً لحسابات الجغرافيا والصراع على المشرق، وأيضاً، بناء على حسابات السلطة وتشابكاتها في سوريا.
ومع تركيز السلطة في يد منظومة الطائف المستولدة أميركيا وسورياً وسعودياً، سقط النموذج اللبناني الفريد بتعدديته ومنسوب ليبراليته وألحق عملياً قرار اللبنانيين بسلطة دمشق الأمنية والسياسية. من جانب ثانٍ، لطالما قرّرت دمشق أن تخترق لبنان فكانت خصماً لجماعات عارضتها أو واجهتها، وظهيراً لجماعات أخرى أبرزها الحليف الشيعي، ما أوصل إلى إخراج الإحتلال الإسرائيلي من لبنان في ربيع العام ٢٠٠٠. لكن للمفارقة، أنَّ هذه الصورة كانت تُخفي وراءها تمدُداً لبنانياً فيما أسميه “لعبة الروليت” في داخل تلابيب النظام مع ثلاثية خدام- كنعان- الشهابي، والتي انفجرت منذ أواخر العام ٢٠٠٤ في شكلٍ دموي مأساوي، مع هبوب العاصفة الأميركية – الفرنسية من قمة النورماندي (الضوء الأخضر لولادة القرار 1559). كان انفجاراً لمحاولة لبنانية جديدة في “استخدام” النظام لاستدامة زعامات محددة. وللوضوح، أو للإنصاف، كان بشار الأسد هو الصاعق الأول في تفجير هذه المنظومة السورية – اللبنانية، لمصلحة ثنائية حزب الله – إميل لحود.
حتى الإنفجار l’eclatement السوري في العام ٢٠١١، كانت صورة سوريا الواحدة أو الأحادية في الذهن اللبناني، والمنقسم هو الآخر بين “وجدانات” المجموعات الطائفية اللبنانية، غيرُ واضحة المعالم، عن قصدٍ أو عن جهل. فاختزال سوريا في حكم شخصٍ أو حزبٍ أو حتى التعسف في وصم النظام بـ”علويةٍ” ما، هو قصورٌ حاد في فهم المجتمع السوري. يمكن وصفه بـ”ماء زرقاء” لبنانية، ومتحولة بحسب تصور التهديد في وجدان الجماعات اللبنانية.
الطوائف اللبنانية.. وسوريا
تخوّفت المسيحية السياسية تاريخياً من طبيعة النظام السلطوي السوري على “الحريات” وصورة لبنان التاريخية. وحده ميشال عون تمكن من قيادة مصالحة بعد تحقيق الإنسحاب السوري من لبنان في العام 2005، لأنه كان حائزاً الشرعية الكيانية في الوجدان المسيحي اللبناني بمواجهتها، على عكس إيلي حبيقة الذي سقطت محاولته لا تحت سنابك دبابات سمير جعجع في 15 كانون الثاني/يناير 1986، فحسب، بل تحت عدم القدرة على تقبل اتفاق مع سوريا فيما جيشها يُطبق على أكثر من نصف لبنان.
بدورها، تقلّبت السُنية السياسية في علاقتها مع حُكّام دمشق وبخاصة بعد إحكام البعث وحافظ الأسد على مقاليد السلطة، وصولاً إلى النفور من رعاية دمشق لإحكام سيطرة “أمل” و”الإشتراكي” على بيروت وتصفية “المرابطون”، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. التصريح الشهير لمفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ الشهيد حسن خالد أن “الغربية تُقصف من الغربية”، كان أبرز تعبير عن نفور سُنّة العاصمة من الإدارة السورية، إن لم نذكر المواجهة مع الأصولية الإسلامية في طرابلس أيضاً في منتصف الثمانينيات الماضية. مسارٌ تُوّج في لحظة تشييع رفيق الحريري في شوارع بيروت في شتاء العام 2005، باتهام دمشق وجيشها باغتيال زعيم السنة في لبنان.
أما الشيعية السياسية المتفجّرة منذ استنهاض السيد موسى الصدر وصعود نجم “أمل” و”حزب الله”، فقد وجدت في هذه الـ”سوريا” الحليف المرتجى لتثبيت الدور. مسارٌ بدأه موسى الصدر ثم نبيه بري مع حافظ الأسد وتوّجهُ حزب الله بجعل بشار الأسد حجر زاوية في محور يمتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق.
وللدرزية السياسية حصتها، إذ أنها تقلبت بين السعي لتوريط دمشق وأحياناً جماعاتها الفلسطينية (أبو موسى قائد فتح الإنتفاضة وأحمد جبريل زعيم الجبهة الشعبية القيادة العامة) من “حرب الجبل” الأولى في العام 1976، إلى “حرب الجبل” الثانية في العام 1983، وبين قرار الزعامة الجنبلاطية خوض غمار مواجهة سوريا منذ محاولة اغتيال مروان حمادة في العام 2004 وحتى خروجها من لبنان في العام التالي، قبل أن تتقلب العلاقة على جمر “السين سين” ثم الجرح السوري المفتوح منذ ثلاثة عشر عاماً.
الثنائيات القاتلة
القصور، وربما ثقل إطباق النظام على لبنان، أبعدا تهديدات مخفية كانت تموج تحت سلطة البعث والأسد في السبعينيات والثمانينيات المنصرمة. كان يصعب مثلاً على الوجدان المسيحي اللبناني، أن يتصوّر طبيعة الخطر الذي يُمثّله تطرف “الإخوان المسلمين” والذي تُرجم بـ”الطليعة المقاتلة” في المدن السورية التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة الآن. مسيحيو لبنان شاهدوا العسكري السوري في “برج رزق” في الأشرفية وعلى أبواب مدينة زحلة، وذاقوا ألم القصف بمدافع الـ240 ملم، لكنهم لم يلمسوا، أو يتصوّروا، ماذا يعني التطرف وتسعير الصراع في سوريا على أساس ثنائية سنية – علوية، على ما أفصح في ذلك الهجوم الذي قاده الضابط ابراهيم اليوسف على زملائه في مدرسة المدفعية في حلب عام 1979. ولذلك، ضاع قسم منهم عندما ظهرت الجماعات المتطرفة من رحم انفجار 2011، وأضاعوا أنفسهم في الإنقسام التقليدي “السياسوي”، فانزلقت قوى “14 آذار” إلى تبرير احتلال مناطق حدودية من شرق لبنان، أو “تشتيت” كرة المسؤولية في اتجاه النظام السوري.
هذه “الماء الزرقاء” اللبنانية، لم تُدرك أو تجاهلت عمداً، أن الأنظمة المتعاقبة على سوريا، ومن بينها نظام البعث والمكرّس مع حافظ الأسد ثم نجله بشار طوال 54 عاماً، كانت نتيجة التفاعلات المجتمعية السورية. حتى بسلطويته، لم يستطع هذا النظام الحكم بالقبضة الأمنية وحدها، إلا بكسب دعم البرجوازية المدينية السُنية في العاصمتين السياسية والإقتصادية: دمشق وحلب. من دون بدر الدين الشلاح رئيس غرفة تجارة دمشق، لم يكن لحافظ الأسد أن يحفظ استقرار دمشق، ويتفرغ لتطويع “الإخوان” المنتفضين من حماه إلى حلب. ولم يكن هذا النظام ليستمر في إدارة التعقيد السوري، وتوظيفه، من دون تشابك بين الطوائف والمناطق والبنى المجتمعية بين مدينية وريفية، وصولاً إلى تداخل “البعث” والسلطة.
استراتيجية لبنانية
اليوم، وفي ظل سقوط النظام السوري، يجد اللبنانيون أنفسهم وللمرة الأولى منذ تأسيس كيانهم، قبل نحو مائة سنة، أمام التحديات الهائلة لسوريا المقسمة أجزاء حالياً، بين احتلالات إسرائيلية وتركية وأميركية، ولو بنسب متفاوتة، ونفوذ روسي. تفتتٌ جغرافيٌ ومجتمعيٌ هائل، لا يمكن للبنان أن يصمد أمامه من دون مظلة حماية إقليمية ـ دولية أولاً، ومن دون الحد الأدنى من التوافق الداخلي في مقاربة التحديات الخارجية ثانياً.
الخشية كل الخشية أن طبقة سياسية عيونها مصابة بـ”الماء الزرقاء” التي تُغشي أبصارها، تبدو عاجزة عن وضع استراتيجية لبنانية موحدة لمواجهة التهديدات الناتجة عن انفجار سوريا حالياً.
اللهم أن تعي الطبقة الحاكمة برؤوس متعددة، ألا سقف فوقها، وأن تتراجع مجموعاتها الطائفية، عن أي رهانات ليست في محلها، فلطالما كانت جماعات لبنانية تنتظر الترياق من الخارج، هل آن الأوان للقول ماذا يريد اللبنانيون من أنفسهم لا ماذا يريد الآخرون لهم؟