تفكيك خطاب المقاومة.. إلى أزقةِ لبنان دُرْ!
ISRAEL-PALESTINIANS/PROTESTS-YEMEN

تعيش منطقة الشرق الأوسط حالياً مرحلة خطيرة من مراحلها. فهذه المنطقة الواقعة على فوالق زلزالية متعددة، لم تهدأ أو تستقر منذ أكثر من مئة عام حملت في طياتها دماءً ودموعاً وويلات؛ قامت دول وتلاشت أخرى؛ قامت حروب وحدثت ثورات وانقلابات. ماذا بعد؟

كانت منطقة الشرق الأوسط ممراً للكثير من المشاريع الآتية من جهة الغرب أو مقراً لها؛ فكانت المضمار الذي تلاقت عليه متناقضات العالم وتبارت فيه، فهبّت رياحها في كل الاتجاهات وارتفع غبار معاركها ليحجب نور الشمس ويُعمي الأبصار. ربما لم تشهد منطقة في العالم هذه الاستدامة في الحروب والدوام الدائم على خطوط النار والمواجهات والتبدلات، إن بالنظم أو بالرعاة، كما تشهد منطقتنا منذ عشرات العقود.

لقد رُسمت خرائط منطقة الشرق الأوسط على مقاسات متبدلة لدول متعددة، فكانت تضيق حدّ التمزق وتتوسع حدّ الترهّل. تتوالى عليها النكبات، الطبيعية منها والمفتعلة – أي من صنع البشر – فتوالدت المآسي وتكاثرت، وابتلع رملها دماء بنيه ودوماً القاتل هو نفسه؛ تتعد أسماؤه لكن الأصل نفسه والبنية نفسها، منذ وطئت سايكس بيكو أرض العرب حتى يومنا هذا.

معركة مفتوحة

إن المجزرة المفتوحة في غزة منذ أكثر من عام لم تنته بعد. زُهقت أرواحٌ كثيرةٌ وهي تجوب طول القطاع وعرضه تحت النار، والوعد بالمزيد من القتل مستمر؛ فلا العدو يُنكر ما يفعله، بل يُجاهر به ويفاخر وعلى رؤوس الأشهاد؛ الأميركي والأطلسي يدعمون ويفتحون المزيد من المستودعات، سلاحٌ ومالٌ وتغطيةٌ وحمايةٌ في وضح النهار وعلى الهواء مباشرة. لا يخجلون بما يفعلون، بل يُطالبون الضحية بالخجل وسيحاكمونها حسب قوانينهم.

لقد أعطى مناخ خطاب الشيخ نعيم قاسم ومضمونه شعوراً بانكفاءٍ ما إلى أزقة الشوارع اللبنانية المتعددة والمرتبطة عضوياً بطبيعة المكونات الطائفية والمذهبية للنظام السياسي المعمول فيه

أما لبنان الذي تحسّس الخطر المحدق به؛ فهو الأخ الشقيق لفلسطين وصحبة المصير المشترك والدم المسفوك.. لم يكن بمنأى عما كان يُحضّر؛ أربعة عشر شهراً من الإسناد المتواصل، منهم شهران تحت الغزو والعدوان؛ قدّم ما تحتاجه المعركة من دماء غالية وأرزاق وبيوت واقتصاد وتهجير.. قام بما عليه أن يقوم به، فكان الشعب اللبناني كما يجب أن يكون؛ تحمّل وزر الخيار الذي اختطه منذ عام 1937 عندما تحسّس خطورة القادم من الغرب إلى منطقتنا، محمياً ومرعياً من “جيوش ما وراء البحار” القادمة بحملة احتلال وهيمنة باسم الحضارة والتمدن والحداثة، وبثياب أنيقة وسفن حديثة وأفكار تُضمر أكثر مما تُعلن.

المعركة المفتوحة على كل الاحتمالات تُلخّص حقيقة العدوان المتواصل من مئة عام؛ إمبرياليات قاتلة بمشاريع تدميرية. هو ذلك المسار الذي لم يتورع أصحابه عن المجاهرة بحقيقته؛ كوندوليزا رايس وزيرة خارجية دولة العدوان الدائم وقائدته قالت عن حرب تموز 2006، بأنها “مخاض ولادة” الشرق الأوسط الجديد، والذي افتتحته إدارتها بتدمير أفغانستان وحرق الشعب العراقي وتدمير لبنان ومحاصرة سوريا ومن ثم تدميرها وإخراجها من معادلة الصراع، ومعاودة العدوان على كل ما تبقى من جغرافيا فلسطين، إن بالضفة أو بالقطاع، مروراً باليمن وصولاً إلى الحصار والعقوبات وتغيير النظم واستغلال الحراكات الشعبية وحرفها عن مسارها..

هو “فيلم أميركي طويل” بدأ ولم ينته بعد. هي مجزرةٌ تُرتكب على الهواء مباشرة وأمام عيون العالم المنقسم على نفسه؛ يرى ويتفاعل؛ يرى ويغض النظر؛ يرى ويدعم ثم يُبارك. هذه المجزرة الدائمة في منطقتنا أصبحت من أدوات الحكم والتحكم، تتوارثها الاحتلالات وتتفنن في التعبير عن مواقفها، قتلاً وتجويعاً ويأساً، غير آبهين بشعار الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، مفتاح غزوهم ومبرره والكذبة السمجة التي أرهقوا آذان العالم بها.

شمولية المواجهة

إن لبنان الخارج اليوم من معمودية إضافية للقتل الممنهج، التي مارستها “أفعى العدوان” إسرائيل، قتلاً وتنكيلاً بشعبنا الهائم بين مدنه وقراه ومنازله المُهدّمة، يُلملم آثار العدوان ويُحصي الخسائر والانجازات. فبينما يواصل العدو اعتداءاته ومن خارج اتفاق وقف إطلاق النار، للأسبوع الثالث على التوالي، نجد من يستعجل في الاستثمار السياسي لمخرجات المعركة التي كلّفت الشعب اللبناني الكثير الكثير من التضحيات. فالتباين، حدّ التناقض، بين أفرقاء النظام السياسي ليس موضوعه نتائج الحرب ولا عدد الشهداء ولا الدمار ولا التهجير.. بل موضوعه الوحيد والأساس هو المنطلقات. فالصراع مع العدو الإسرائيلي ومن ورائه من إمبرياليات عالمية متحكمة بالمصائر والأرواح؛ هو صراعٌ أبديٌ بين التحرر والهيمنة؛ بين الاستزلام وفك التبعية؛ بين الانقسام بأوجهه المتعدة، وبين المشروع الوطني القائم على مرتكزات تضمن بناء الأساس لمشروع الدولة بكل مندرجاتها: الوطنية بتكوينها وسلوكها، لا يلتبس عليها العدو، بل دوماً في صف الشعوب ومصالح الأكثر تضرراً من سلطتي الطوائف ورأس المال. الدولة العادلة والمنحازة إلى مصالح شعبية وحقوق وواجبات. لا مكان فيها للزبائنية ولا للهيمنة ولا للتسلط. هنا الأمر يستوي على صراط قويم، لا تدخله شائبة ولا التباس.

أما في المقابل، فخيار المقاومة ليس ردة فعل على العدوان أو الاحتلال أو الهيمنة فقط، هو كل ذلك وأيضاً بمفاعيل تدخل في التكوين الأساسي للنظام أو الحكم وممارساته. لا مساومة على المنطلقات التأسيسية، ولا تفريط بالتاريخ لمصلحة مصالح اللحظة الآنية؛ فقرار المواجهة مع الموقع المتقدم للإمبريالية الغربية في منطقتنا، والذي نعني فيه العدو الصهيوني، هو قرار إبتدأ العمل به منذ أن وُجد هذا الكيان في منطقتنا، بشكله ووظيفته ورعاته ومموليه ومريديه.. وعليه المهادنة في الصراع أو الاتفاقات على الصلح معه ستكون في مكان ما هي إنكار لكل ذلك التاريخ.

إن أهمية المواجهة الدائرة في منطقتنا منذ مئة عام هي بوضوحها، أي بتلازم المواجهات وتعدّد أشكالها. والوضوح هو في الاتجاهين: العدو وممارساته المكشوفة وأهدافه المُعلنة من جهة، ومن يقف في الجهة المقابلة، على تنوعها وتعدُد مشاربها من جهة ثانية.

إقرأ على موقع 180  من جورج فلويد إلى خيري علقم.. ازدواجية معايير الغرب

المواجهة الشاملة هي في مكان ما ضرورة تفرضها طبيعة المعركة؛ فالعدو بكل أسمائه وقواه وأهدافه هو عدوٌ واحد. أضراره تعمّ الجميع واتساع عدوانه يطال كل المجالات. بهذا المعنى هو ومَنْ خلفه يعلنون ما يضمرون. في المقابل، من يواجه، هُم في ساحات متعددة وفي تموضعات متنوعة. صعوبة الوحدة بينهم تكمن في المنطلقات: الشمولية، الترابط، والأهداف.. احتلال الأرض يلزمه مقاومة للتحرير، هذا لا أحد، ربما، يختلف عليه. لكن الناتج من التحرير أو التحرر أليس مطلوباً تبيانه وبالعلن؟

لقد تغيّرت الكثير من المعادلات وأصبحت رهن تفسير كل جماعة، إن بفهمها للأمور أو بما يُوحى لها. هل هي مرحلة جديدة ستؤسس لإعادة انتاج الشوارع اللبنانية بكل تناقضاتها؟ الجواب لن يطول، فتسارع الأحداث في المنطقة سيتكفل بكشف المستور

تفكيك الخطاب

إن الخطاب السياسي الذي رافق مرحلة العدوان الإسرائيلي الأخير يحمل الكثير من التأويلات؛ هو أساساً بطبيعته حمّال أوجه. فحين كان القتال مستعراً والقصف عاماً وشاملاً والدم غزيراً في كل نقاط الاشتباك، كان ثمة مَنْ راهن ـ وما يزال ـ على العدوان ويتمنى انتصاره. هي معادلة مقلوبة في بلد التركيبات الهجينة؛ فكيف يستوي الذين يقاتلون والذين يساومون على الدماء في مركب النظام الواحد؟ هي ليست معضلة أو أحجية، بل هي من “بركات” طبيعة النظام السياسي المعمول به حالياً في لبنان. وكيف يستوي خطاب التهوين والتخوين في مركب واحد؟ كيف يتعايش النصر مع الهزيمة على منصة واحدة؟

أسئلةٌ كثيرةٌ يُمكن أن تخطر على بال المتابع، لكن لفهم طبيعة الأجوبة نُرجعكم إلى أصل الحكاية. هي حكاية التناقض بين الفعل والفاعل؛ تلك المعضلة المتأصلة في العقلية المهيمنة على المسرح السياسي منذ قيام “لبنان الكبير” وحتى اليوم. هو نظام التعايش المصلحي وليس المبدئي بين جماعات لم تقتنع بأنها كما كل البشر؛ هو منطق القبول بالقناعة بين تكوينات مستقلة بكل ما فيها لكن مجتمعة في ظلال نظام سياسي لا تعرف أوله من آخره.

إن تفكيك الخطاب السياسي وفهمه عند كل مكونات النظام اللبناني لا تجد مصطلح التوافق بين أسطره أبداً؛ هُم مختلفون على طبيعة الصراع وعلى وظيفة البلد وموقعه في المنطقة والأدوار المنوطة به. على المقاومة وعلى العدو وعلى التموضع وعلى العلاقات مع الآخرين.. في كل شيء يلعب الخيل بينهم. فقط المُتفق عليه هو الإبقاء على الطبيعة المذهبية وعلى هذا النظام الطائفي، حتى عندما تحاول فتح ثغرة “مدنية” صغيرة في جدار موضوع الأحوال الشخصية مثلاً أو الإرث، تنتفض الطوائف، برموزها وأبواقها، رفضاً وتقريعاً وتهديداً بالثبور وعظائم الأمور؛ هنا المعضلة الواجب العمل على تفكيكها.

المقاومة تنكفىء

لقد دفع لبنان، بشعبه وجيشه ومقاومته وأرضه وبناه التحتية أثماناً باهظة من الحرب العدوانية التي شنّها العدو الصهيوني، مدعوماً من إمبرياليات العالم ودولها. لم تكن المواجهة متكافئة في ظل الاصطفاف الغربي حول العدو. لكن شهرين من المواجهة كانا كفيليّن في تأكيد الثوابت التالية: لم يستطع العدو تحقيق أهدافه المعلنة من هذه الحرب وأهمها سحق المقاومة؛ لم ينجح في احتلال شريط القرى الأمامية؛ لم يستطع شلّ قدرات المقاومة؛ استمر القتال في قرى الحافة طيلة شهري الحرب؛ قصف العدو كل المناطق اللبنانية وعمّم الدمار.. هذا بالفعل المباشر، لكن الضخ الإعلامي والتوهين والدعم المفتوح لم يُنتجوا إلّا مزيداً من التخبط عند الكيان وداعميه ما دفعهم إلى القبول بوقف إطلاق النار..

بطبيعة الحال، لا يهمني ما يقوله العدو أو يفعله. بل ما يهمني هو ما نفعله، نحن، في لبنان. خطابُ الخلف في الأمانة العامة لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم، وأقصد تحديداً الخطابين الأول والأخير، بما حملا من دلالات كثيرة. لن أدخل في تفسير خطاب قيادة حزب الله، بل استوقفتني بعض المضامين؛ فلطالما كان حزب الله يتموضع إلى جانب المظلوم دوماً، وهذا موروث تاريخي تحوّل إلى فعل “جهادي” مارسته المقاومة في أماكن عدة، وكان أساس الخطاب التعبوي لجمهورها. لقد طغى على منطق خطاب الأمين العام الجديد الكثير من التموضع الداخلي: أسقط “وحدة الساحات”، كما أسقط منطق “المحور”. لم يكن يتكلم سماحة الأمين العام إلّا بمنطق الداخل فأشّر إلى اتفاق الطائف والالتزام به والقرارات الدولية واحترام وقف إطلاق النار وإعادة الإعمار وانتخاب رئيس جديد للجمهورية والمشاركة من خلال الدولة في برنامج انقاذي وإعطاء إشارة بشأن اسعداد حزب الله للحوار حول القضايا الإشكالية، وأولها ما يتصل بموقع لبنان الإقليمي إلخ..

لن أخوض في التفاصيل كي لا نقع في سوء الفهم. لقد أعطى مناخ خطاب الشيخ قاسم ومضمونه شعوراً بانكفاءٍ ما إلى أزقة الشوارع اللبنانية المتعددة والمرتبطة عضوياً بطبيعة المكونات الطائفية والمذهبية للنظام السياسي المعمول فيه. لقد تغيّرت الكثير من المعادلات وأصبحت رهن تفسير كل جماعة، إن بفهمها للأمور أو بما يُوحى لها. هل هي مرحلة جديدة ستؤسس لإعادة انتاج الشوارع اللبنانية بكل تناقضاتها؟ الجواب لن يطول، فتسارع الأحداث في المنطقة سيتكفل بكشف المستور.

Print Friendly, PDF & Email
حسن خليل

كاتب، أكاديمي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  دراسة التاريخ.. ومستقبلنا القاتم