ثمّ؛ كيف تَحوّلَ الرّئيسُ السّوريُّ السّابق بشّار الأسد، من كونه أحد أكثر زعماء العرب عناداً.. إلى “رئيس هارب” بين ليلةٍ وضُحاها؟ هل ما حصل هو عمليّة تسليمٍ روسيّة للسّلطة في سوريا في مقابل مكاسب ضمن الملفّ الأوكرانيّ.. بطريقة أو بأخرى؟ هذا ما ستبيّنه الأيّام لنا أيضاً، مع ترجيحي الشّخصيّ لهذه الفرضيّة حتّى الآن، وبشكل عامّ، وبالرّغم من كلّ تبريرات الجهات الرّوسيّة للموضوع.
“الثّقة” في دور روسيا مع قضايانا في المنطقة.. لا بدّ أن تصبح موضع نقد حقيقيّ على كلّ حال.
المهمّ، ما يعنيني في هذا المقال قبل أيّ شيء آخر هو عددٌ من المشاهد المُحدّدة، ومن زاوية رؤية ما بتنا نتعارف عليه بـ”محور المقاومة”.. كما ومن زاوية رؤية بيئاته الحاضنة في لبنان، وفي سوريا، وفي فلسطين، وفي العراق.. وفي هذه المنطقة ككلّ.
فلنتوقّف معاً عند هذه المشاهد، إذن، والتي يُمكن بالتّالي وصفها إلى حدّ كبير: بالتّاريخيّة من جهة، وبالرّمزيّة من جهة ثانية. ولنتركْ القارئ العزيز يتأمّل فيها معنا.
المشهد الأوّل. وقد يكون هو الأشدّ خطورة وجوهريّة في حقيقة الأمور وباطنها، مع تجنّب الأكثريّة ضمن “المحور” الحديثَ حوله الآن بسبب حساسيّته المفهومة. المشهد هو كالتّالي: بعد ما يقارب الـ٤٨ ساعة على اعلان التّوصّل إلى اتّفاق لوقف اطلاق النّار بين المقاومة اللّبنانيّة وبين الجيش الإسرائيليّ، وربّما بعد أقلّ من ذلك: يُقرّر الرّئيس التّركيّ، رجب طيب أردوغان، ذو النّزعة “الإسلاميّة” إذن، أنّ هذا توقيتٌ مناسبٌ للتّحرك ضدّ “نظام الأسد”. توقيتٌ لافتٌ جدّاً للانتباه في الحقيقة..
ونقول هذا مع تأكّدنا، وتأكّد كلّ عاقل ومراقب موضوعيّ، بأنّ الهدف الحقيقيّ المبتغى من وراء الضّوء الأخضر الأميركيّ والدّوليّ المُعطى لتحريك هذا الملف وفي هذا التّوقيت: لم يكن بشّار الأسد ونظامه أبداً.. بل خطّ امداد “حزب الله” والمقاومة اللّبنانيّة.
أيّ مقاومة لبنانيّة؟ إنّها المقاومة نفسها التي أخذت قرار اسناد غزّة، في الحرب التي أطلقتها حركة “حماس”. إنّها المقاومة نفسها التي تحمّلت ضغوطات شبه خياليّة بسبب هذا القرار التّاريخيّ، وقدّمت ربّما أغلى ما عندها على الاطلاق في هذه المعركة.
راقبْ معي جيّداً: يُقرّر أردوغان، وحلفاؤه من جماعات وحركات “إسلاميّة”.. أنّ هذا هو التّوقيت المناسب لضرب “نظام الأسد”، وبالتّالي لضرب خطّ امداد “حزب الله” وفي هذا التّوقيت السّياسيّ والعسكريّ والأمنيّ.. والتّاريخيّ.
ماذا يعني هذا المشهد في حقيقة الأمور وفي مضمونها التّاريخيّ والإسلاميّ والسّياسيّ.. وفي ما يعني قضيّة بعض الأقلّيات في هذه المنطقة؟ أعتقد أنّنا هنا أمام مشهد سيظلّ عالقاً في أذهان الكثيرين من أبناء هذه الأخيرة.. ومن أبناء هذا “المحور”، ومن أبناء بيئاتِهِ الحاضنة على اختلافها. وأترك القارئ العزيز طبعاً: يتأمّل في القضيّة بنفسه كما وعدته.. بالنّسبة إلى مقالنا هذا.
المشهد الثّاني. وهو، أيضاً، مشهدٌ خطيرٌ للغاية في تجلّياته وفي معانِيه. راقبْ معي جيّداً: بينما يَفرحُ الكثيرُ من السّوريّين بانتهاء حُكم “الطّاغية”، وبينما يَحتفلُ عددٌ كبيرٌ منهم في شوارع المُدُن السّوريّة.. يقوم الجيش الصّهيونيّ بمئات الغارات على البنى التّحتيّة الأساسيّة والاستراتيجيّة.. للجيش العربيّ السّوريّ في كلّ أنحاء البلاد (عداك عن التّوغّل البرّيّ العلنيّ داخل الأراضي السّوريّة، وعن الخروقات البيّنة والفاضحة للسّيادة السّوريّة).
ولا يبدو، في الظّاهر أقلّه، أنّ في هذا ما يُقلق أغلبَ هذه الحشود ونُخبِها المُحرّكة، في سوريا وخارجَها بالمناسبة. بعيداً عن مسألة بشّار الأسد ونظامه: لم ينتبه، إلّا القليل من النّاس والنّخب المتحمّسة، لِهَول ما يَحدُث. لم ينتبهوا لمسألة أنّ العدوّ الرّئيسيّ والجوهريّ لسوريا ولشعوب هذه المنطقة بأسرها.. يقوم بتدميرٍ كاملٍ للبنى التّحتيّة وللأسلحة الاستراتيجيّة.. لجيشٍ عربيٍّ محوريٍّ في الصّراع مع هذا العدوّ.. شئنا ذلك أم أبَينا.
بعد الانتصار الكبير على الجماعات الارهابيّة والمتشدّدة وغيرها عام ٢٠١٧.. ألم ينتبه أحد في “محور المقاومة” إلى لفت نظر الرّئيس الأسد أو الضّغط عليه جدّيّاً، حتّى يقوم بإصلاحات حقيقيّة وملموسة، وحتّى يقوم باتّفاقات تؤدّي إلى حلول جذريّة داخل المجتمع السّوريّ وداخل التّركيبة السّياسيّة والاثنيّة والطّائفيّة في البلد؟
إنّه، بالتّحديد، الجيش الذي شارك مثلاً في حرب الـ١٩٧٣ (حتّى لا نذكر ما قبل ذلك)؛ والذي قلب المُعادلة في لبنان بعد اجتياح ١٩٨٢؛ ودعم انتفاضة ٦ شباط/فبراير ١٩٨٤ أيضاً في لبنان، ودعم المسار المؤدّي إلى تحرير الجزء الأكبر من الجنوب اللبناني ١٩٨٥؛ وساهم مساهمة جوهريّة في الوصول إلى تحرير عام ٢٠٠٠، ومساهمة ملموسة معروفة في تحقيق انتصار عام ٢٠٠٦.. وحتّى في مقوّمات الصّمود خلال عدوان ٢٠٢٤. وهل قال نتنياهو “إنّ الأسد يلعب بالنّار” مؤخَّراً، في الهواء؟ بأيّ نار لعب الأسد برأيك، أيّها القارئ العزيز، خلال حرب ٢٠٢٤ مع لبنان؟
على المستوى السّوريّ والعربيّ: أترك الحديث حول دور هذا الجيش في مواجهة “رزيّة كامب دايفيد”، وربّما “رزيّة أوسلو”، لمناسبات أخرى.
على كلّ حال، تقوم “إسرائيل” بضرب هذا الجيش، لا بضرب “بشّار الأسد” على علمي: ويظهر أنّ هذا لا يُغضب أحداً من هذه الجماهير.. أو يكاد. انسَ العروبة، وانسَ الشّعور القوميّ، وانسَ التّعاطف مع “المقاومات” ضدّ الاحتلال، وانسَ العداء مع “إسرائيل”.. انسَ كلَّ ذلك. ما يهمّ الكثير من المواطنين السّوريّين واللّبنانيّين، بل ربّما أكثرهم في ما ظهر: هو ما تُقدّمه إليهم بروباغندا اللّحظة والآن.. هو ما تُقدّمه لهم – في النّهاية – بروباغندا أميركا وحلفائها.
فلنتفكّرْ جيّداً، كذلك، في هذا المشهد.. ولنُمعن في التّأمّل فيه.
المشهد الثّالث. قد يكون هذا المشهد أيضاً من أكثر المشاهد ازعاجاً واثارةً للحزن بالنّسبة إلى كلّ مواطن شريف وصادق.. ومؤيّد للمقاومة ضدّ الاستعمار في المنطقة وضدّ أداته المركزيّة أي “إسرائيل”. إنّه مشهد ظهور تجلّيات الفساد العميق الذي كان يعيشُ فيهِ النّظام، وكنّا جميعاً على علمٍ به.. ولكنّنا كنّا مُجبَرين على السّكوت كما هو الحال مع باقي ملفّات عدم الأخلاق والفساد والظّلم التي يتعايش معها محورنا، للأسف، وتتعايش معه بعض حركات مقاومتنا وتحرّرنا الوطنيّ.
عُدّ معي ما استطعت: كوارث السّجون وظلم النّفس الانسانيّة (كباقي أغلب السّجون العربيّة، وعلينا أن نوقف مسرحيّات المبالغة والانتقائيّة هنا)؛ فظائع مظاهر وأدوات التّعذيب والاذلال والقهر؛ مصائب أحوال بعض مؤسّسات الأمن والجيش والدّولة؛ طامات بعض مظاهر الاثراء غير المشروع على حساب الشّعب..
حتّى صار حلفاء “غوانتنامو” و”أبو غريب” و”قنبلة هيروشيما” وقاطعي الرّؤوس وعدالة السّاطور والفؤوس.. يشمتون لا ببشّار الأسد عمليّاً، بل بمحور المقاومة! صار حلفاء “غوانتنامو” في لبنان وفي العالم العربيّ مُنظرّين حول السّجون ومسائل حقوق الانسان المرتبطة بها!
على كلّ حال: بعد الانتصار الكبير على الجماعات الارهابيّة والمتشدّدة وغيرها عام ٢٠١٧.. ألم ينتبه أحد في “محور المقاومة” إلى لفت نظر الرّئيس الأسد أو الضّغط عليه جدّيّاً، حتّى يقوم بإصلاحات حقيقيّة وملموسة، وحتّى يقوم باتّفاقات تؤدّي إلى حلول جذريّة داخل المجتمع السّوريّ وداخل التّركيبة السّياسيّة والاثنيّة والطّائفيّة في البلد؟
هل يُعقل أن نبقى على عِنادِنا أو تَغافلِنا عن هذا الجانب منذ عام ٢٠١٧ إلى اليوم؟
هل يُصدّق عاقلٌ أنّ القيام بإصلاحات جذريّة في النّظام وفي الدّولة.. هو أمرٌ مُستحيل في سوريا؟ هل نُصدّق أنّ الحوار مع الرّئيس الأسد كان مستحيلاً بالمرّة؟
كنّا “لِنبلعَ” هذا الكلام.. لو أنّ الحال كان أفضل، بشكل راديكاليّ، في أماكن أُخرى من هذا المحور. فهل هو أفضل بكثير في بلاد كالعراق ولبنان تحديداً.. وداخل بعض المنظّمات “الحليفة” و”الصّديقة” و”الرّديفة” وما إلى ذلك.. دون ذكر الدّول “الحاضنة” المعنيّة إذا صحّ التّعبير؟
أتركُ القارئ، هنا أيضاً، مع التّفكّر والتّأمّل في هذا المشهد العجيب والمُثير للغضب.
***
احتراماً لمنهجيّة المقال، لن أدخل الآن في مناقشة تفصيليّة للتّحليلات وللاستنتاجات في ما يخصّ هذه المشاهد الثّلاثة المذكورة. ولكن، من الواضح أنّ “محور المقاومة” وبيئاته الحضانة قد أمسَوا بحاجة مُلحّة إلى مراجعة موضوعيّة وجذريّة في ما يخصّ مسائل أساسيّة ومنها ما قد تُعبّر عنه الأسئلة المهمّة التّالية (وباختصار شديد):
- هل على بعض الأقلّيّات في المنطقة أن تظلّ “تحمل السّلّم بالعرض”.. وتقوم، بالقوّة، بمهمّات يقع عاتق تحقيقها عادةً وطبيعةً.. على الأكثريّة بشكل أساسيّ؟
- أليس اقناع الأكثريّة، بالقوّة المعنويّة و/أو العسكريّة، “بما هو صحيح”، ضرباً من الجنون.. وضرباً من مُعاكسةٍ لطبيعة الحياة والاجتماع والتّاريخ؟
- أليس من واجبنا الآن التّفكير مليّاً في مقاربتنا للوسائل العمليّة.. المستخدمة بغيةَ تحقيق الهدف الأسمى والمتمثّل “بتحرير فلسطين” كما وتحرير منطقتنا من كلّ استعمار؟ هل أدواتنا الحاليّة صالحة، بناءً على ما سبق وما سيلي؟
- هل يُعقل أن نظلّ في موقع الذي يدعو إلى مواجهة فساد أمريكا و”إسرائيل”.. بأدواتٍ، مِنها ما هو أكثر من فاسد؟ أُحيل هنا إلى المَثَلِ الفرنسيّ المعروف: “من يسرقْ بيضةً.. يسرقْ بقرةً!”. من يتجرّأ على الفساد الصّغير، سيتجرّأ – عاجلاً أم آجلاً – على الفساد الكبير. فلنتفكّر في ذلك جيّداً!
وقد يكون للحديث هذا تتمّة.. ان شاء الله تعالى.