ربع قرن من الخيبات.. هل الآتي أعظم!

لا أعرف إذا كان ما شهدناه في ربع القرن الماضي من القرن الحادي والعشرين هو أحسنه ("وجه الصحّارة"، بالعامية اللبنانية) أم سيكون الآتي أسوأ. لكن الأكيد أنّه بغياب معجزة ما، سيفقد البشر السيطرة على الكثير من الأمور، وسيُدير أمورنا وتصرّفاتنا حواسيب عملاقة يُوجّهها حثالة من أمثال أيلون ماسك (Elon Musk).

أتذكّر جليّاً أنّ إطلالة القرن الحادي والعشرين صحبتها حالة قلق عالميّة. كان الإعتقاد الشائع، وقتذاك، أن البنيّة التقنيّة للكومبيوترات لم تأخذ في الحسبان التصفير الذي سيحصل في سنة 2000، وبالتالي ستكون مُهدّدة بالتوقّف عن العمل. لكن الأوّل من كانون الثاني/يناير أتى ولم تتوقّف الحواسيب، وتبيّن أن حالة الهلع لا أساس لها، فعادت البسمة إلى الوجوه.

لا يخفى على أحد ممّن عَرِفوا الحواسيب القديمة أنّها لا شيء مقارنةً بالحديثة، والشيء نفسه ينطبق على الهواتف الذكيّة التي أصبحت اليوم بحوزة كل كائن بشري، تُصَوّر كلّ شيء وتُسجّل كلّ محادثة وتضع كلّ ذلك مباشرةً على الإنترنت ليشاهده بشغف بقيّة البشر وربما بعض أصدقاءهم من الحيوانات (خصوصاً الكلاب والقططة الذين أصبحوا شغوفين بالهاتف الخلوي).

هذا التقدّم هو خطوة إلى الأمام، لكن للأسف تقابلها خطوات إلى الوراء. كلّما تطوّرت الآلات التي نستخدمها تقنيّاً، انحطّ مستوى البشر فكريّاً واجتماعيّاً وصحيّاً و..، بشكل أصبح المستقبل أكثر تشاؤماً من الحاضر، والترحّم على الماضي ينتشر على كلّ شفة ولسان.

لا يُمكن أن نتجاهل أو ندحض فوائد الحواسيب والهواتف الذكيّة. علميّاً، نحن في جنّة عدن لأنّ الخوارزميّات المستخدمة في الكومبيوترات فتحت لنا أبواباً وفرصاً واحتمالات لم تكن بمتناول البشر في أيّ وقت مضى (من بحوث وطبابة وسفر و.. إلخ). وفي بعض الجوانب الإنسانيّة، حسّنت تواصل الناس مع أصدقائهم وأقاربهم الذين تفرّقوا حول الأرض (بسبب العلم أو العمل أو اللجوء أو ..). أي شخص في أي مكان حول العالم يُمكنه أن يتحدّث ويتبادل الرسائل مباشرة مع من يريد ولحظة يريد. لكن هذا التقارب يُبعدنا عن إنسانيّتنا ولا سيما التفاعل التقليدي المباشر بين البشر.. لذلك تنتشر بشكل مقلق ومريع المشاكل النفسيّة والسيكولوجيّة واستعمال الأدوية المهدئة والمخدّرات التي يُدمن عليها كثيرون ممن باتوا يشعرون بالوحدة وانعدام الجدوى في حياتهم مع كل هذا الصخب الكومبيوتراني من حولهم؛ صخبٌ “بلا فكاهة ولا مازيّة”، كما كان يقول “أبو عنتر” في مسلسل “صحّ النوم” من بطولة دريد لحّام (غوار الطوشة).

***

الطامة الكبرى في ما رأيناه في هذا الربع قرن الماضي ليست في الهواتف أو الحواسيب، بل في انكشاف نفاق الغرب الهائل. فمع انهيار المنظومة السياسيّة التي كان يُهيمن عليها الإتّحاد السوفياتي، قبل 34 عاماً، ظهر الغرب وكأنّه الرابح الوحيد عالمياً. اعتبر كثيرون ذلك دليلاً على عظمة الحضارة الغربيّة وأفكارها وقيمها ومبادئها الرأسمالية. وبدل أن يستخدم الغرب هذه الفرصة من أجل أن يُظهر وجهاً إنسانياً ينشد تأصيل قيم المساواة والكرامة والحريّة حول العالم (خصوصاً في مجالات السياسة والإقتصاد والثقافة)، قام بنشر حالة من الرعب والحروب وسباق التسلّح والتلوّث البيئي، إلخ. فمن اجتياح أفغانستان (2001) والعراق (2003)، إلى تأجيج الحروب الأهليّة في اليمن وليبيا وسوريا و..، وحرب أوكرانيا (والتي بدأ فصلها الأوّل في سنة 2014 مع إصرار حلف الناتو على التوسع شرقاً والهيمنة على أوكرانيا بطرق غير ديموقراطيّة)، والتحضير لمنازلة عسكريّة مع الصين، وطبعاً ما حصل ويحصل في فلسطين والدعم المفتوح الذي أعطاه الغرب على كل الأصعدة (وما زال يعطيه) للمجرمين الصهاينة في تنكيلهم بالفلسطينيّين والمحرقة التي ينفّذونها في قطاع غزّة والضفّة الغربية منذ 15 شهراً.

برغم منسوب التشاؤم المرتفع، نحن نعيش مرحلة تاريخية جديدة، وعلينا أن نمتلك الأدوات التي تساعدنا في إجراء المراجعة اللازمة وصولاً إلى صياغة برنامج يكفل النهوض بمجتمعاتنا، اقتصادياً وإنمائياً وإجتماعياً وثقافياً وإعلامياً وتربوياً.. ومن هنا تبدأ المقاومة الحقيقية

هذا السلوك الغربي يشي بأنّ المجتمعات الغربيّة المُقرّرة لا يهمّها إلا ما يضمن لها أن تُحافظ على هيمنتها على العالم. يستوجب ذلك استقطاب الكفاءات والعقول حتى يستخدمها الغرب في مصانعه وجامعاته ومستشفياته ومصارفه ومؤسّساته كافةً، مثلما يستوجب تهجير رؤوس الأموال بحيث لا تجد ملاذاً آمناً إلاّ في المؤسّسات الإقتصاديّة الغربيّة، وبذلك يستمرّ الغرب في اتباع استراتيجيّة إفقار دول العالم لكي يحافظ على منسوب معقول من الرفاهية في دوله.

ومع كلّ ذلك، برهنت السنوات الـ25 الماضيّة أن مشاكل الغرب تتزايد، ومنسوب الرفاهية فيه ينحدر، وتعود الفاشيّة إلى التفشي بشكل سريع، ولعل السنوات المقبلة تكون أكبر شاهد وبقسوة على المآلات التي يقودنا إليها هذا التغول اليميني المنفلت من عقاله عالمياً. لكن انتشار الفاشيّة هو نتاج للبرامج التي تُدير عقول الناس عبر خوارزميّات ضخمة تُلقّنهم المعلومات المضلّلة تلقيناً فيجترّونها ثقافة فاشيّةً بوجه الضعفاء (مثل المهاجرين والسود، إلخ). نعم، أصبحت الحواسيب أخطر علينا من الأوبئة لأنّ معظم الناس لا يدركون حجم التضليل الذي يُمارس عليهم، أو أنّ ردّات فعلهم المرجوّة لا تصبّ في مصلحتهم بل في مصلحة أصحاب الثروات.

إقرأ على موقع 180  الزراعة الرأسمالية وكوفيد-19: الخلطة القاتلة

***

لبنانيّاً، في السنة الأولى من القرن الحادي والعشرين كنا أمام إنجاز ضخم جداً: تحرير منطقة الشريط الحدودي من الإحتلال الصهيوني. أول أرض عربية تتحرر من الاحتلال بلا قيد أو شرط. لكن الفرحة الكبرى سرعان ما تلاشت بعد خمس وعشرين سنة، مع عودة القديم إلى قديمه، وتعمّق الإنقسام الداخلي.

وبدل أن ينهض البلد، اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً و..، تفشّى فيه الفساد وتشعّب أكثر من أي وقت مضى. إلى أن أتت الفاجعة الكبرى مع انهيار النظام المصرفي في سنة 2019 وسلب أموال الناس، ثم كان انفجار مرفأ بيروت في صيف العام 2020، بالتزامن مع تفشي جائحة كورونا و..، وأخيراً الحرب التي شنتها إسرائيل طوال ستة وستين يوماً على لبنان واحتلالها بعض التلال والقرى الحدودية واغتيال عدد من قادة المقاومة، والأخطر كسر منظومة الردع التي حمت لبنان طوال ربع قرن من الزمن، وبالتالي نحن أمام حصيلة كارثية بكل معنى الكلمة.

ومن دون شكّ، إذا بحثنا عن سبب الكارثة، سنجدها في الحواسيب والخوارزميّات. التلاعب بالنظام المصرفي اللبناني وإظهاره كأنّه “سليم” هو نتاج الحيل والبرمجات والهندسات التي اعتمدها ساسة الإقتصاد المالي والنقدي في لبنان والتي أخفت ما أرادوا طمسه وأبرزت ما أرادوا إبرازه إلى درجة صار النموذج المالي اللبناني يستحق أن يكون مادة للتدريس في أهم كليات الاقتصاد وادارة الأعمال في العالم..

ولولا التكنولوجيا والخوارزميّات، لما استطاعت إسرائيل أن تخرق حزب الله وتُسبّب كارثة البايجر والأجهزة اللاسلكية وتُجبره على القبول بوقف إطلاق النار والسكوت عن خروقات الصهاينة وتماديهم في تدمير القرى الأمامية في جنوب لبنان.

***

في الخلاصة، وبرغم منسوب التشاؤم المرتفع، نحن نعيش مرحلة تاريخية جديدة، وعلينا أن نمتلك الأدوات التي تساعدنا في إجراء المراجعة اللازمة وصولاً إلى صياغة برنامج يكفل النهوض بمجتمعاتنا، اقتصادياً وإنمائياً وإجتماعياً وثقافياً وإعلامياً وتربوياً.. ومن هنا تبدأ المقاومة الحقيقية.. للبحث صلة.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أساطير أميركا.. بين ليبرالية الشمال وعبودية الجنوب