الإجتهاد والنص.. توترُ علاقةٍ ومحنةُ فهمٍ؟

ينبعث سؤال الاجتهاد من مرتكزات النفس لا لشيء إلا لأنه في نهاية المطاف تعبير عن عملية بشرية تزخر بالخبرات والتراكمات والتوجسات التي تحتوش المراحل الزمنية المتعاقبة بكل ظروفها وخلفياتها النفسية والتاريخية والسياسية والثقافية والاجتماعية.

لعل هذا هو مفتاح ضروري لكشف تجليات النصوص، وأبعادها المنعتقة من مقيّدات القارىء والمجتهد نفسه، بوجه خاص وأن القارىء محمَّل بكثير من الخلفيات، ومتأثر ببيئة كبّلته بكثير من الانشدادات المخالفة لحرية تامة تعكس روحاً صافية وصوت الله فيه؛ هذا الصوت الذي يستوجب حرية تتناغم مع لغة الوحي وتتماشى معها ولا تلغيها، ولكن تغايرها من خلال الغوص في التفاعل العميق معها إلى أقصى الحدود الممكنة، فلم يعد هناك من زمانين أو أزمنة من زمن الصدور والتأسيس إلى زمن الفهم الأولي وما بعده.

هكذا عندما تتحرر الذات المتلقية لتصبح هي المخاطبة وعندما تنفعل الذات مع أوليات اللغة وتمزجها ببراعة مع لغة الله المفتوحة الخالدة، عندها تختلف نظرة هذه الذات للنصوص وتصبح أكثر حكمة في الفهم وأكثر لصوقاً بمقتضيات هذه اللغة التي خنقتها القوالب التخاطبية المستهلكة.

لم يكن التكلم من النبي يفرض إنصاتاً سلبياً من جانب المؤمنين، فإن تشديد القرآن الكريم على ضرورة إنصاتهم واستماعهم له حين يتلى: ﴿وَإذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون﴾‏ الأعراف: 204. هو تحفيز لهم ودفع نحو الاستماع الواعي وإنصات لصوت الفطرة الصافية بغية الهداية وإصابة الرحمة في الفهم.

***

آن الأوان أن نعمل على إرجاع أنفسنا إلى الوعي المنتج إذا نحن أردنا أن نرجع إلى ذاوتنا. وكلّ ما سوى ذلك مجرد مسرحيات نتوزع فيها الأدوار والضحكات فيما يدفع واقعنا فاتورة باهظة من التشتت والضياع والتقسيم والتقهقر

لا يخفى ما عاناه المسلمون جراء الظروف السياسية والاجتماعية المتشابكة والتي لم يخرجوا من روحها القبلية والعشائرية بسهولة، بل لو أنهم ساروا وفق عقلانية موحدة لكان إنصاتهم هو إعادة صوغ لكلام ليس معمّى، بل هو زلال على الشارب منه أن يعي كيف يشرب.

ليس غياب المؤسس (النبي) سوى حجة على المسلمين ألا يحكّموا أمزجتهم وعقدهم الذاتية ويديروا ظهورهم للمعنى ويحمّلوه مشاكلهم، بل أن يستفيدوا من هذه الشفافية المرتكزة في دوال النص التي تحاكي الفطرة وتفتح العقل على تذكرة في كل لحظة تواكب فيها زمن الله وتقتحمه بجدارة.

حتى لو سلّمنا بأن الاجتهاد عملية صناعية مارسها أصحابها من أجل إنتاج الحكم الشرعي وفق معايير افترضها الفقهاء من خارج النص، والتي منها القياس والمقدمات العقلية، والأصول العملية، وقواعد الإطلاق والتقييد، والعام والخاص، وهي جميعها قواعد استخلصها المسلمون من أصول التخاطب، إضافة إلى قواعد المنطق اليوناني، فإنّ المشكلة ليست في هذه الأدوات والقواعد بقدر ما هي في قابلياتها المعينة لمحاولة كشف الروح الكلية والخطوط العامة، التي تحكم النصوص من قرآنية وحديثية والتعرف على خصائصها وموقعيتها من المعرفة العامة، التي ترجع كل شيء إلى أصول راقية ومتعالية ضمن الهيكل التوحيدي العام.

إن ظهور أجيال جديدة، تمثلت بالتابعين وتابعِ التابعين، كان من المفترض أن يكونوا متحررين أكثر في طبيعة فهمهم وتلقيهم للنصوص، ولكن إلى أي حد كانوا أحراراً؟

فالمقلدة حتى في الفهم وطرائقه بقوا كذلك مع بعض التغييرات التي لم تطال الفهم ذاته ومناهجه فبقيت الروحية في شكلها مرنة، ولكن في العمق كانت ما تزال تخفي الكثير من التبعية العمياء لمدارس وأشخاص مُنحوا درجة التقديس لقرون.

***

حين تتغير معطيات الواقع، لا ينبغي أن يفقد النص الديني قدرته على تقديم أجوبة حاسمة لاستيعاب الجديد، لكن عندما ينحصر الصراع التأويلي من أجل دعم أفكار وأهواء مسبقة متعلقة بسلطة سياسية أو دينية يصبح النص مكبلاً لهذا الفهم أو ذاك التأويل المصلحي الآني الضيق فلا خيارات مفتوحة للإنسان كي يواكب مكامن النصوص الرفيعة.

فالاجتهاد لم يعد اجتهاداً في فهم النص الحديثي أو القرآني، بل هو أيضاً اجتهادٌ في فهم النسيج العام للمنظومة الأخلاقية والعقيدية والاجتماعية بغية تركيز الموضوعات الجديدة، وهو استيعابٌ لحقيقة التحولات وجديتها وفق هذا الفهم الذي يبقى سيالاً غير منقطع وهذا ما يحمي النص من تحريف معناه وسوء توظيفه.

لم يعد الفقه إذ ذاك أحكاماً معلبة، بل عبارة عن استنطاق مستمر باعث على تنشيط الحقول الأخلاقية والعقدية التي ترسم حدود الفاعليات والمسؤوليات الفردية والجمعية بغية التصدي لكل محاولات الإسفاف والانحطاط، فالفقه السياسي والمعاملاتي هو ما نحتاج تبيانه وإبرازه في حياتنا الصاخبة بكل ألوان المؤثرات والتحديات، وليس من أنفع من تفعيل الخطاب القرآني الدافع نحو فقه منتج كاشف لشخصية المؤمن العامة تعيد تشكيل الفضاء المعيوش وفق روح توحيدية ناظمة للمسلكيات والمفاهيم تكون مرجعية معرفية حاكمة للمعايير والاستنتاجات الفقهية البعيدة عن منطق الجبرية السياسية والاجتهادية.

فالله يريد إنساناً مريداً متحرراً ليقوم بالتماهي مع خطابه المتجلي في إنسان توّاق للسؤال والاستنتاج وفق قاعدة متينة تأخذ بيده لاقتحام زمن الله ولغته المتعالية على ضمور الوعي وجهل الطريق، والمجتهد بما أنه المؤتمن على فهم هذا الخطاب أكثر والتماشي معه بحرية تامة، فمقتضى الأمانة أن يكون متقناً للغة الله المتعالية ولصوته فينا المستثير لتوحيدية تجمع ما تشتت من ذهن الإنسان وواقعه.

هذا البناء الفقهي هو وليد روح حرة وكفوءة تنصت بوعي لا ترجح فقط هذا المعنى أو ذاك، بل تتقن ربطه بحقوله الدلالية العامة، وما يمكن له أن يخدم ضمن بوتقة التوحيد والإيمان تتقن معرفة حدود ما هو خارج النص وما هو متميز في دواخله.

فالفقيه هو من يُعبّر عن اجتهاده ليس فقط من خلال ما يتقنه من حرفة فقهية، بل من خلال تتابع إعمال العقل البنّاء الذي يلاحق تفاصيل خيوط النسيج الكلي العام للنصوص الدينية ومدى تقاطعها وانسجامها مع ما أراده الله للإنسان من لحظات تحرر داخلية وخارجية لا تتوقف. هكذا يتقرب الفقيه إلى الله ليس فقط من خلال ما يطرحه لمريديه من رسائل فقهية في دائرة العبادات والمعاملات، بل من خلال أسلوبه الذي يكون جواب طاعة لله عبر رفده للحياة بكل أثر نافع يجعل منها عبادة اجتهادية ومعرفية متجددة تنقل العوام أقله من حضيض الهمج الرعاع إلى مستوى المتعلم على سبيل النجاة.

باعتقادي فإن رهانات الاجتهاد لا بد وأن تتناغم مع أطر ذهنية جديدة ترصد كل تحولات ممكنة ومتناسبة مع الوقائع المستجدة، تفقه إرادة الله الكلية وخطابه المفتوح على التأويلات لجهة إيجاد إنسان موحد مصداق لصورته.

إقرأ على موقع 180  الإنتصار لفلسطين .. يبدأ بالصوت

***

إذا كانت الغاية شريفة فلا ضير من العمل على إيجاد مؤسسة اجتهادية منفتحة ومعاصرة تستوعب كل التحديات وتضع إجابات كافية وشافية قابلة للنقاش تنسحب على كل الموضوعات ومنها الإصلاحية على مستوى التعليم الديني والتوجيهي وعلى مستوى القضاء والمحاكم وعملها وانضباطها وغير ذلك؛ مؤسسة دينية فاعلة في قلب الواقع وتقوم بدورها الطبيعي المتابع والملاحظ والباعث لحركة متجددة وإصلاحية.

ولعل أحد أبرز المراجع المعاصرين ممن نادوا بهذا الطرح هو السيد محمد حسين فضل الله الذي صرّح بأن قيام المرجعية كمؤسسة، يحمل في ثناياه حافزاً أخلاقياً، بمعنى أداء الحق والواجب تجاه احترام ما تنتجه الذات المبدعة في انفتاحها على المعرفة، والإفادة من خبراتها لخدمة الذات الإنسانية العامة.. مشيراً إلى ضرورة نهوض المؤسَّسة على مستوى المرجعية بقوله: “إننا نعتقد أن التطورات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، التي بات يعرفها المسلمون الآن، وخصوصاً في الدائرة الإسلامية الشيعية، أصبحت بحاجة إلى المرجعية المؤسسة، بمعنى أن تكون المرجعية مؤسسة يقودها مرجع، لأن القضية أصبحت تحتاج إلى أجهزة ودراسات تتصل بمجمل المواقع العامة، وتشارك في كل القضايا المطروحة في الساحة، ليس من الضروري أن يكون الأعلم، ولكن لا بد من أن يكون له، من خلال ممارساته، قدر كبير من النضج الذي يُمكّنه من أن يفتي في كل قضية، أو أن يكتشف روح الإسلام في هذا الموقع أو ذاك..”. (الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل، ص: 279).

لكن ما الذي يمنع قيام هكذا مؤسسة إذا كانت الغاية منها شريفة ومهمة إلا إذا كانت الحسابات والخلفيات أقوى؟

وما نلفت الإنتباه إليه في هذا المقام أن قيام مؤسسة مرجعية ليس معناه تحولها مع الزمن إلى صنمية جامدة معطلة القوة والإنتاج تسيطر عليها الرتابة والعمل الوظيفي الآلي الفارغ، بل لا بد لها من الدفع نحو تجديد ذاتها وقدراتها الخلّاقة على الدوام كالنهر السيال الذي يعاود تطهير نفسه والفيض على غيره بكل ما ينفع.

***

أمام كل هذه التحديات – إذا أردنا إجراء مصالحة وتصحيح للوضع الديني والمؤسساتي ومن ضمنها المدارس الدينية وما أكثرها – علينا أن ننبذ الصراعات بين بيوتات المرجعيات الدينية وقهر الأنانيات التي تحكم البعض؛ فمن غير المقبول أن نعاني في حوزاتنا التي نُعلّم فيها الأخلاق أن يبيح البعض لنفسه غيبة فلان أو يستعدي فلان بحجة ومبرر غصبه لمنصب علمي أو غير ذلك من المبررات النفسية المريضة، فالقضية هي سلوك إيماني أخلاقي ومسار ومسيرة ومسؤوليات ومصير يحتم على مراكز التأثير والنفوذ أن يتصالحوا وينفتحوا على بعضهم البعض عبر ثقافة القبول للآخر والاستماع إليه ومحاولة فهم تجاربه، وليس أن نعيش العقد والخوف من الآخر لا بل قتله معنوياً.

بتنا ندمن ثقافة التهجم ولم نتعود ثقافة التقبل، وبتنا ندمن الأنانية ولم نتعود التعاون وبتنا ندمن الشخصنة ولم نتعود النقد البناء والمساءلة، وبتنا ندمن منطق التجارة المادية مع الدين ولم نتعود أن نربح أنفسنا كي نكون أصحاب دين يقبله الله.

الفقيه هو من يُعبّر عن اجتهاده ليس فقط من خلال ما يتقنه من حرفة فقهية، بل من خلال تتابع إعمال العقل البنّاء الذي يلاحق تفاصيل خيوط النسيج الكلي العام للنصوص الدينية ومدى تقاطعها وانسجامها مع ما أراده الله للإنسان من لحظات تحرر داخلية وخارجية لا تتوقف

تُطالعنا أم المشكلات وهي فقدان الواقع لقيادات علمياً وسلوكياً، فنحن نعاني فعلاً من أزمة قيادات متلبسة بالعلم والعمل والتعمق في الدقة والملاحظة، وكأننا نحاول مقاومة سريان السطحية والهزالة إلى كل المؤسسات في زمن طغى فيه حكم التافهين والمترسمين.

كأن التصالح ممنوعٌ بين النص والاجتهاد، لأنه على الدوام يعكس أزمة عجز الإنسان وضعفه وتوتر علاقته مع حدود لغة الله الشفافة العلية في مدى قربه أو ابتعاده عنها؛ إنه غاية الانكسار النفسي جراء خوفه وتقوقعه وخنوعه، فنراه قد تاه في حجب من صنع أوهامه وحساباته فسقط صريعاً لها ولا يزال يدفع الثمن مع تقديرنا لكل التجارب، التي حاولت التجديد والتحرر ما أمكنها.

باعتقادي دين الله، هو دعوة إلى التسامح، وإلى تغليب الانفتاح على التقوقع، وإلى انتصار التعاون الإنسانيّ على الدوران المضلل في متاهة الذات بما تنطوي عليه من سرديّات متورّمة تقضي على روح الإنتاج وتخطف أنفاس الإبداع.

***

إذا كان الوعي هو قوام الإيمان في الأديان السماوية، فإنّ كلّ المنظومات الفكريّة التي راكمها الإسلام عبر العصور، خاضعة للنقد والمساءلة والمراجعة انطلاقاً من معياريّة الوعي الثاقب الذي ينتج عنه عطاءات وثمار معرفية غير بالية، بل منبجسة من واقع تحديات الحياة.

وإذا كان الأصل كذلك، فإنّ كلّ العمارات العقائديّة والفكرية والمؤسّسات بكل شعاراتها يجب أن تكون امتداداً لهذا الوعي المسائل والملاحظ والمتابع والمشارك في كل ذلك. وهي إذا لم تكن كذلك، فقد خسرت مشروعيّتها وصدقيّتها ودواعي وجودها.

ينتج من هذا أنّ الوعي، فضلاً عن كونه قوة الحق والحقيقة، هو أيضاً دافع نحو وضع الأمور في نصابها، بمعنى وضع الأشياء في قوالبها الأصيلة فلا زوائد ولا مجمِّلات وتبريرات ولا اجتراراً أعمى لما تحجر من خطابات منغلقة لا روح فيها.

فالإسلام كما المسيحية ينبغي أن يكونا جواب طاعة لله بمقدار ما يكون أتباعهما ملتصقين بالوعي يحملون لواءه ويسيرون خلفه ويلبون نداءه في الواقع فيحفظون للأمة قيمها ومسيرتها، فلم يعد هنا إذ ذاك من طوائف شتى ومشارب متباعدة، بل الوعي وحده كطاقة متجددة هو الذي يصهر كل التباينات والاختلافات ويوحّد الأمة ويجذبها نحو مركزها التوحيدي الصافي.

لقد آن الأوان أن نعمل على إرجاع أنفسنا إلى الوعي المنتج إذا نحن أردنا أن نرجع إلى ذاوتنا. وكلّ ما سوى ذلك مجرد مسرحيات نتوزع فيها الأدوار والضحكات فيما يدفع واقعنا فاتورة باهظة من التشتت والضياع والتقسيم والتقهقر.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

باحث وكاتب، لبنان

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  هلْ "مُحمَّدٌ".. شخصيّةٌ كونيّةٌ أيضاً؟ (2/2)