الإسلام بين العقل والنقل؛ بين الرأي والمأثور (2)

الكلام عن الفكر الديني في الإسلام وانقسامه إلى اتّجاه يتبع الرأي والعقل وآخر يتبع المأثور والنقل هو من العموميّات التي يشوبها الكثير من العيوب، وينتج عنها سوء فهم كبير للفكر الإسلامي عامّة والأدوات التي استنبطها المفكّرون الكلاسيكيّون من أجل الوصول إلى النتائج التي أرادوها.

عندما ندّعي أن فريقاً معيّناً يمارس الفكر الديني من منطلق النقل، يقودنا هذا الزعم إلى استنتاج أنّ هكذا فكر يخضع لإملاءات النصّ الديني أو التراث المتوارث ولا يشذّ عنه. بينما يقودنا القول عمّن يمارس الفكر من منطلق العقل والرأي إلى الإعتقاد أن الخلاصات والقناعات التي يتوصّل إليها تكون عقلانيّة ومتحرّرة من النصّ الديني. أيضاً هذا الزعم خاطئ بكل ما للكلمة من معنى. أنا لا أعني فقط أنّه ليس بصحيح أن كلّ مفكّر وصاحب رأي هو عقلاني ومنطقي أو أنّ كلّ ناقل للتراث يجترّ الكلام إجتراراً وهو مسلوب من أي إرادة فعّالة. ما أعنيه أكثر هو أنّ الفكر الذي نزعم أنّه خاضع للنصّ والنقل يلعب فيه الرأي دوراً كبيراً، والفكر الذي نزعم أنّه نتاج الرأي والعقل يتقيّد إلى درجة كبيرة بالنصّ والنقل. بمعنى آخر، كل منهما يمزج بين النقل والعقل، لكن لكلّ منهاجه ودلائله التي تعرّف مصادر النقل الصحيح ونمط الرأي الصريح.

إذا أخذنا مثلاً كتب التفاسير، يقال لنا إنّ المفسّرين انقسموا بين من فسّر القرآن بالرأي وبين من فسّره بالمأثور. ماذا يعني التفسير بالرأي أو بالمأثور؟

قيل إن التفسير بالرأي عندما يقوم المُفسّر بتفسير الآيات وفقاً لرأيه وليس وفقاً لما فسّره الصحابة والتابعون وتابعو التابعين (فسّر معظمهم تبعاً لرأيهم، لذلك نجد الإختلاف الكبير بينهم).

وقيل أيضاً إن التفسير بالمأثور هو عكس ذلك، أي أن يأخذ المُفسّر برأي الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ويتقيّد به.

إذا نظرنا مليّاً في هذين القولين للتفسير بالرأي والتفسير بالمأثور، يتبدّى لنا سطحيّتهما وسذاجتهما لأنّ الإعتقاد بأنّ القرآن يُفسَّر بالمأثور هو رأي في تفسير القرآن، مبني على قناعة أنّ الأوّلين (الصحابة والتابعون وتابعو التابعين) فسّروا القرآن وأحاطوا بكل جوانبه وليس هناك من داعٍ لإعادة تفسيره خارج تفاسيرهم. لكن الملفت للإنتباه في كثير من كتب التفاسير التي نزعم أنّها تتبع المأثور هو في أنّها تنقسم إلى قسمين. قسم يعترف، مباشرةً أو مواربةً، بالإختلاف الكبير بين الأولين حول تفسير القرآن وأنّ لكلّ منهم تفسيره ورأيه. في هذه الحالة، نجد المفسّر المتأخّر يأخذ فقط ببعض منها ويتجاهل البعض الآخر، وهذا أمر يشير إلى ممارسة الرأي في ترجيح تفسير معيّن على تفسير آخر وانتخاب ما يوافق رأي المفسّر المتأخّر وترك ما يعارضه، وهذا ما نجده مثلاً في تفسير الطبري (ت. 922)، وهو من أهمّ كتب التفاسير التي تصنّف كـ”تفسير بالمأثور”، حيث نجده في أماكن كثيرة يقول لنا رأيه في تفسير الآيات.

وهناك قسم لا يعترف إلاّ بمأثور واحد، ويتجاهل تماماً وجود تفاسير أخرى، كتفسير عبد الرزّاق الصنعاني (ت. 827) مثلاً. وهنا نحن أمام نوع من التفاسير همّه الإبقاء على تقليد معيّن، وهذا أيضاً من أنواع الرأي.

أمّا بخصوص “التفسير بالرأي”، ثمة إعتقاد شائع أن المعتزلة (سأعالج إشكاليّة تسمية “المعتزلة” في المقالة المقبلة)، مثلاً، اتّبعوه. لكن هذا القول ليس بسليم. إذا نظرنا في تفاسير المعتزلة، نجدهم يتقيّدون كثيراً بـ”المأثور”، خصوصاً في ما يتعلّق بلغة القرآن وإعرابه ومعاني آياته. من النادر أن نجد تفسيراً لآية عند عالم من علماء المعتزلة لا يستشهد فيها بقول لصحابي أو لتابعي أو لأحد مشايخ المعتزلة المتقدّمين. إذاً، المعتزلة فسّروا القرآن بمزيج من الرأي والمأثور، والمأثور عندهم يختلف بعض الشيء عن المأثور عند بعض أهل السنّة، أو المأثور عند بعض الشيعة.

لنأخذ مثلاً أوّل سورة المؤمنين في تفسير الحاكم الجِشُمي (ت. 1101) – المسمّى “التهذيب في تفسير القرآن” – نجده ينقل عن أبيّ بن كعب عن النبيّ أنّ “من قرأ سورة المؤمنين بشّرته الملائكة بالروح والريحان وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت”. ويُنقل حديثٌ آخر بالمعنى ذاته عن عمر بن الخطّاب عن النبي محمد. ونجده أيضاً يُنقل عن ابن عبّاس (ت. 687)، الحسن البَصري (ت. 728)، مقاتل بن سليمان (ت. 767)، أبي علي الجُبّائي (ت. 915) وأبي مسلم الإصفهاني (ت. 1067). الخلاصة هنا أنّ الجِشُمي مزج بين العقل والنقل في تفسير آيات القرآن، واستخدامه للنقل ساعده على تأكيد إعتقاداته، بما في ذلك أنّ المعاصي هي من عمل الناس وأنّها غير مقدّرة عليهم.

بُني الفكر الإسلامي الكلاسيكي على مزيج من العقل والنقل. كلّ فرقة أوجدت خليطاً من الرأي والتراث المأثور تتبعه وتنقل عنه ولا تعارض فيه، واتّهمت من خالفها باتباع آراء زائفة. إذاً، ما تقوله كلّ فرقة عن نهجها وفكرها هو نوع من الدعاية. قبل أن نتقبّله علينا أن نحلّله ونحاول إيجاد القطبة المخفيّة التي تدلّنا على حقيقة ما أرادوا

ونجد الأسلوب ذاته في علم الكلام. كلّ فرقة خلطت بين المأثور والرأي. فالمعتزلة، الذي يتّهموا بعدم اتباع المأثور، تقيّدوا بما ينصّ عليه القرآن والسنّة وما نقله الصحابة والتابعون. لكن الفرق بينهم وبين باقي أهل السنّة كان حول المصادر والأسماء الموثوقة التي يمكن النقل عنها. لذلك نجدهم يتسلّحون بالآيات والأحاديث والآراء التي تؤكّد على وحدانيّة الله، وعدالته، وخلق القرآن، ومسؤوليّة البشر عن أعمالهم، والحساب والعقاب، إلخ، من أجل التأكيد والدفاع عن معتقداتهم. بكلام آخر، لا نجد بين المعتزلة أحداً رفض النقل واعتمد فقط على العقل. إذاً، كل شيء ينصّ على خلاف مذهبهم ومعتقداتهم (إن كان رأياً أو نقلاً) يجب إعادة النظر فيه، من أجل رفضه أو توضيحه.

إقرأ على موقع 180  كونديرا: الروح السلافية وأزمة أوروبا الحضارية | (2)

سأُقدّم مثلاً ثانياً حول الأشاعرة، الذين يُمدَحون عادةً بأنّهم تقيّدوا بالمأثور وبكتاب الله وسنّة نبيّه، ورفضوا الرأي. نجد رأيهم يتحكّم في كلّ مقالة قالوها، مثل أنّ لا شيء يعلو على علم الله وكلّ شيء يجب أن يُعاد النظر فيه إذا ما نقض مفهوم الله كعالم بكلّ شيء حتّى قبل وجود الأشياء، وأنّ لله جسم وأنّ المؤمنون يرونه يوم القيامة، إلخ. وأخذوا من القرآن والسنّة ما يؤكّد ويدافع عن ذلك، وزعموا برأيهم أنّ ما نقلته المعتزلة (أو غيرهم) من الآيات والمرويات هو غير صحيح أو أكاذيب.

وقبل أن أختم أستشهد بقول لابن تيمية (ت. 1328) في كتاب “درء تعارض العقل والنقل”، حيث نجده يدافع عن رأيه في ضرورة الأخذ بالعقل والنقل وأنّهما لا يتعارضان، وإذا ما تعارضا، فذلك يدلّ على وجود خطأ في النقل أو العقل أو في الإثنين معاً. يقول ابن تيمية: “… يضع كل فريق لأنفسهم قانوناً فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنّوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعاً له، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه”. لا يتحدّث ابن تيمية هنا عن فرق إسلاميّة “ضالّة”، كالخوارج، والمعتزلة، والشيعة، والمرجئة، إلخ، أو عن فرق غير إسلاميّة. من يقصدهم كانوا من كبار علماء التراث السنّي الكلاسيكي مثل أبو بكر الباقلّاني (ت. 1013) وأبو بكر بن العربي (ت. 1148). كلام ابن تيمية ليس بحاجة إلى تعليق؛ فهو كمن يقول: شهد شاهد من أهله.

في الخلاصة، بُني الفكر الإسلامي الكلاسيكي على مزيج من العقل والنقل. كلّ فرقة أوجدت خليطاً من الرأي والتراث المأثور تتبعه وتنقل عنه ولا تعارض فيه، واتّهمت من خالفها باتباع آراء زائفة. إذاً، ما تقوله كلّ فرقة عن نهجها وفكرها هو نوع من الدعاية. قبل أن نتقبّله علينا أن نحلّله ونحاول إيجاد القطبة المخفيّة التي تدلّنا على حقيقة ما أرادوا.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  فرنسا تُحذّر لبنان: خطر الموت داهم، أًوقِفُوا المراوغة!