أحداث الساحل السوري تُنهي.. “فترة السماح”!

حدث انقلاب 8 آذار/مارس 1963 في سوريا باسم إعادة الوحدة بينها وبين مصر. تلك الوحدة التي لم تجرؤ حكومات "الانفصال" المتعاقبة عن إلغاء قراراتها "الاشتراكية" لما كان لها من دعمٍ شعبيّ. لكنّ البعثيّين سرعان ما أطاحوا بشركائهم الناصريّين، ثمّ انقسموا على أسسٍ مناطقيّة و"طبقيّة" ليطردوا عام 1965 جميع الكوادر المدينيّة من الوظيفة العامّة. أولئك الذين قامت الدولة السورية بعد الاستقلال عليهم، إلى حدٍّ كبير، بفضل التزامهم بالمصلحة العامّة ونشر التعليم والكهرباء. 

جاء انقلاب حافظ الأسد عام 1970 على خلفيّة صراع “أيلول الأسود” الأهليّ في الأردن وعلى خلفيّات طائفيّة، بل ما دون طائفيّة. وسرعان ما تمّ قمع الحركات الاجتماعيّة المدنيّة والنقابات التي رفضت استمرار قانون الطوارئ، لينتهي الأمر بأن تتخذ الخلافات مع السلطة أبعادًا طائفيّة، مع “سرايا الدفاع” و”انتفاضة” الإخوان المسلمين في حلب وحماة، المدعومة حينها من صدام حسين، غريم الأسد البعثي، والتي انتهت بمجازرٍ دامية وبسجونٍ ألغت طويلاً للكثيرين أيّ مدلول للحريّة والكرامة. بل عاش بعدها السوريّون حصاراً خارجيّاً خانقاً لم يتوقّف إلاّ مع سقوط الاتحاد السوفياتي وحرب الكويت واكتشاف النفط.

لكنّ انفتاح السلطة النسبيّ على المجتمع وعلى الخارج منذ بداية التسعينيات لم يُؤسّس للمستقبل، لأنّ السلطة لم تقبَل، لا بالتشارك مع النخب الاقتصادية الصاعدة، ولا مع التيارات السياسيّة والاجتماعيّة السوريّة التي عادت للانتعاش، لأنّ معظمها لم يقبَل أن يكون ألعوبة بيد السلطة، على عكس زعماء الحرب اللبنانيين في ظلّ احتلال الجيش السوري لبلادهم.

إلاّ أنّ المناخ الاجتماعي كان إيجابيّاً إجمالاً في التسعينيات ومع بدايات بشار الأسد في مطلع الألفية الحالية. حيث لم يكُن لـ”ربيع دمشق” أن يُهدّد حقّاً السلطة القائمة. بل كان فرصةً كي تنفتح هذه السلطة على التشاركيّة الاجتماعيّة والسياسيّة بمواجهة التحديات الخارجيّة التي تمثّلت خاصّةً في الغزو الأمريكي للعراق. وكان ذلك أيضاً فرصةً لمصالحة اجتماعيّة لالتئام جراح مجازر حماة وسجن تدمر، وما بقي كامناً يغذّي نموّ الطائفيّة، في حين كان العراق يتفجّر طائفيّاً وإثنيّاً.

أحداث الساحل السوري أنهت واقعيّاً “فترة السماح” ووجّهت المخاوف والآمال نحو مساراتٍ أخرى. كيف يُمكِن رأب الصدع الذي أخذت إليه هذه الأحداث، والتي لم تنتهِ بعد؟ وكيف يُمكِن إطلاق مسار “عدالة انتقالية” حقيقي وعقلانيّ، يحاسب المرتكبين كما مرتكبي السلطة السابقة؟ مسارٌ يحفظ وحدة سوريا في مواجهة الأطماع الخارجيّة

كان لهذه الخلفيّة دورٌ في تحوّل “انتفاضة” حرية وكرامة في سوريا، في سياق “الربيع العربي”، إلى صراعٍ أهليّ وحربٍ إقليميّة ودوليّة بالوكالة، مع زجّ كلّ متطرّفي الدنيا في أتونها. أربع عشرة سنة من المعاناة والتهجير للسوريين وجرائم ومجازر ارتكبتها أطراف الصراع جميعها، وتجويعٌ لهم من جرّاء العقوبات وتسلّط الميليشيات وذلّ الارتهان للمساعدات.

هكذا فرح السوريّون قاطبةً بسقوط بشار الأسد مع الأمل بالسير نحو نهاية المعاناة والعقوبات ونحو الحرية والكرامة. وبالتأكيد كانت هناك لدى الكثيرين مخاوفَ من خلفيّات الذين استلموا مقاليد السلطة. لكنّ الانخراط الاجتماعي إلى جانبهم، انطلاقاً من الأمل، كان كبيراً. وبخاصّة منح الفرصة للتحوّل لأخذ البلاد إلى برّ الأمان أمام التحديات الكبيرة الداخليّة والخارجيّة على السواء، وبالخصوص إنهاء تفلّت الميليشيات لترسيخ جيش منظّم والنهوض بمستوى المعيشة ولو تدريجيّاً وترسيخ أسس دولة لجميع السوريين.

لكنّ دلالات الواقع تقول شيئاً آخرَ إذ أنّ أموراً كثيرة شابت “فترة السماح”. تلك الأمور تمثّلت في ازدياد الأوضاع الاقتصادية سوءاً في بلدٍ يرزح أغلب سكّانه تحت خطّ الفقر من جراء سياسات مالية واقتصادية لم تتّسم بالحكمة بأقلّ تقدير. كما تمّ صرف أعداد كبيرة من الموظّفين الحكوميين كترجمة انتقال خطاب الإدارة من “الحفاظ على مؤسسات الدولة” إلى “إعادة بناء الدولة من الصفر”.

وللإشارة إلى ذلك، تكتفي الدلالات الكبيرة في نصّ مطالب أهالي السويداء التي رُفِعَت مؤخّراً للإدارة الجديدة. بالتوازي، إنّ قضيّة ضمّ الفصائل في جيشٍ سوريّ موحّد بقيت صوريّة، إذ بقي تمويل أجور هذه الفصائل يأتي مباشرةً من الخارج وليس عبر الإدارة السورية الجديدة.

وأمام تحسّن صورة الإدارة الجديدة في الخارج والأمل في رفع العقوبات، قبِلَ السوريّون، بتفهّمٍ للصعوبات، بتباطؤ الآليّة السياسيّة ونواقص التشاركيّة في الحوار الوطني، واستمرار حكومة “تسيير الأعمال” في مهامها برغم انتهاء مدّة الثلاثة أشهر. لكنّ الإدارة الجديدة ربمّا لم تنتبه إلى الاحتقان الاجتماعي الذي كان ينمو وحذّر الكثيرون من انفجاره، على أرضيّة ازدياد سوء الأوضاع المعيشيّة ونموّ الخطاب الطائفيّ وممارساته بشكلٍ غير مسبوق.

كان لا بدّ من إطلاقٍ سريعٍ لمسار “عدالة انتقالية” اجتماعي، محاسبةً ومصالحةً بالحدّ الأدنى. كي لا تؤدّي الضغائن التي راكمتها الحرب إلى انتقامات فرديّة أو جماعيّة تُفاقم الاحتقان. هكذا حتّى انفجرت أحداث منطقة الساحل السوري كي تُشكّل منعطفاً كبيراً في المسيرة الحالية.

العبرة اليوم في كيفيّة نصرة السلطة الحاليّة لتلك السيّدة العجوز التي أُعدِمَ أبناؤها أمامها وقالت للمجرمين: “فَشَرتو”!

وبالطبع يُمكِن الاختلاف كثيراً حول أسباب هذه الأحداث وآليّة انطلاقها، إلاّ أنّ مجازر واسعة موثّقة حدثت ضدّ فئة مُعيّنة من السوريين، وغيرهم بالاشتباه أو بالجملة. ما يعيد الذاكرة إلى مجازر “الحولة” و”البياضة” وغيرها. وقد أدّى عدم القدرة على التعامل مع التمرّد بمنطق الدولة وانفلات الميليشيات في مجازرها إلى صدمةٍ كبيرة ضمن المجتمع السوري وفي الخارج جعلت كلّ المسار السياسي لـ”فترة السماح” هامشيّاً، بما فيها الإعلان والتوقيع على الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية، مهما كانت إيجابيّاته أو سلبيّاته.

إقرأ على موقع 180  مشاهد سقوط الأسد.. متى ينقُد المحور عقلَهُ؟

لقد تداعت الولايات المتحدة وروسيا سويّةً، في سابقة منذ حرب أوكرانيا، في محاولة تجنّب تداعيات منعطف أحداث الساحل، ولعقد اتفاق مبادئ بين الإدارة الجديدة وإدارة شمال شرق سوريا. وقد خلق هذا الاتفاق مناخاً اجتماعياً إيجابيّاً في كلّ المناطق، ولكن قصير الأمد، بخاصّةً أنّه يضع السلطة القائمة أمام تحدّي ومسؤوليّة العمل على أساس هذا الاتفاق لوضع أسس حقيقيّة لإعادة لمّ شمل المناطق السوريّة، ليس فقط في شمال شرق البلاد، بل أيضاً في الجنوب ومع الساحل.. كما يضع الإدارة الذاتية وقوات “قسد” في شمال شرق سوريا أمام تحدٍّ ومسؤوليّة تجاه كامل التراب السوري وليس فقط مناطق سيطرتهما اليوم.

ليست التحديات والمسؤوليّات التي تقع على الطرفين بالسهلة. إذ أنّ أحداث الساحل السوري أنهت واقعيّاً “فترة السماح” ووجّهت المخاوف والآمال نحو مساراتٍ أخرى. كيف يُمكِن رأب الصدع الذي أخذت إليه هذه الأحداث، والتي لم تنتهِ بعد؟ وكيف يُمكِن إطلاق مسار “عدالة انتقالية” حقيقي وعقلانيّ، يحاسب المرتكبين كما مرتكبي السلطة السابقة؟ مسارٌ يحفظ وحدة سوريا في مواجهة الأطماع الخارجيّة.

إنّ كافّة السلطات التي حكمت سوريا منذ زمنٍ طويل لم تلتزم بالدساتير التي صاغتها بنفسها وعلى مقاسها. وما أسّس للمسار الذي عرفته واقعيّاً هو كيف تعاملت هذه السلطات تجاه المنعطفات الكبيرة، الداخليّة والخارجيّة. وتكمُن المخاطر الكبرى في فقدان الثقة بالسلطة القائمة، سواءً اجتماعيّاً داخلياً، وكذلك أمام الدول التي تحتاج سوريا إلى ترسيخ العلاقات معها لضمان استقرار البلاد في ظلّ الصراعات الإقليميّة والدوليّة المنفلتة من عقالها.

العبرة اليوم في كيفيّة نصرة السلطة الحاليّة لتلك السيّدة العجوز التي أُعدِمَ أبناؤها أمامها وقالت للمجرمين: “فَشَرتو”!، كما قالها سابقاً “الثوّار” في وجه السلطة البائدة.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  حروبنا الطائفية.. نتاجُ ديكتاتورياتنا العربية!