

معنى اسم “المعتزلة” كما اختاره أصحابها الأولون هو “المحايدون” الذين لم ينتصروا لأحد الفريقين المتنازعين حينها (السنّة – الخوارج) في المسألة السياسية الدينية وهي مسألة “الفاسق” هل هو مخلد في النار كمقولة الخوارج؟ أو هو مؤمن يعاقب على الكبيرة بقدرها؟ أو هو منزلة بين المنزلتين وهو ما يقوله المعتزلة؟
نرى أنَّ مسألة الفاسق سبقت الجدال الكلامي تاريخيًا في مسألة لا تقل أهمية عنها، وهي “الجبر والإختيار”، كما يقول عبد الرحمن بدوي في كتابه (“مذاهب الإسلاميين..” ص 37). ويضيف بدوي أنه ليس صحيحًا أنّ المعتزلة هم في الأصل فرعٌ أو استمرارٌ للقدرية في القرن الأول الهجري وأنّ نقطة ابتدائهم كانت مذهب الإختيار وحرية الإرادة. (من كتاب التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، ص 190-192).
ما تميّز المعتزلة الأوائل به هو الاهتمام بالبحث الفكري، فهم من أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والإستنباط مبتعدين في البداية عن النزاع السياسي، ومحاولين زرع بذور المعرفة العقلية وهذا ما طبع مسيرتهم لاحقًا في عهد عبدالله المأمون العباسي (170-218 هـ) بغض النظر عن التوظيفات النفسانية والسياسية التي سارت عليها الأسرة العباسية الحاكمة اتجاه هذه الفرق الكلامية.
لمع منهم أعلامٌ كثرٌ منهم:
-معبد الجُهني (توفي 83 هـ/702 م) الذي يُعد من القائلين بنفي القدر في البصرة وكان الجهني يجالس الحسن البصري (21-110 هـ/642-728 م)، ونفي القدر عند الجهني وأتباعه لا يعني أن الإنسان قادر على خلق الفعل فحسب، بل أنكروا القدر في العلم والتقدير أيضاً، فلا قدر موجوداً، والأمرُ أنفٌ أي مستأنفٌ.
-الجُعد بن درهم (توفي 99 هـ/721 م)، من مدينة حرّان في شمال العراق، وإليه تنسب مقالة خلق القرآن.
-غيلان الدمشقي (توفي 124 هـ/743 م)، أصله قبطي من مصر وتلميذ معبد الجهني، ويُعد المتكلم الثاني بعد شيخه الجهني في مقولة نفي القدر، والإقرار أن الإنسان مختار في أفعاله شرها وخيرها، والله يحاسبه على هذا الإختيار.
-الجهم بن صفوان (توفي 126 هـ/745 م)، من نواحي سمرقند ثبت على عقيدته في مقولتيْ خلق القرآن ونفي الصفات الإلهية.
-إبراهيم بن سَيَّار بن هانئ، أبو إسحاق النظام البصري شيخ المعتزلة (توفي 221 هـ/836 م)، وافق أبو إسحاق النظام المعتزلةَ في مسائلهم، وانفرد عنهم بمسائل أخرى؛ منها: أن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشر والمعاصي، وقال المعتزلة هو قادر عليها لكنه لا يفعلها لقبحها.
إن الله تعالى إنما يقدر على فعل ما علم أن فيه صلاح العباد، هذا بالنظر إلى أحكام هذه الدنيا، وأما في الآخرة فلا يوصف بالقدرة على زيادة عذاب أهل النار ولا ينقص منه شيئاً ولا يقدر على أن يخرج أحداً من الجنة.
نفى إرادة الله تعالى حقيقة، فإذا قيل: إنه مريد لأفعال العباد فالمراد أنه أمر بها، وعنه أخذ هذا المذهب أبو القاسم الكعبي.. وكثيرة هي المصادر والمراجع التي عنت بسير أعلام الفرق وطبقاتهم وأفكارهم وما نود في هذا المقام أن نلفت الانتباه إليه هو أن كثيرين ربما يخلطون بين المعتزلة كفرقة كلامية ومدرسة فكرية وبين الشيعة الإمامية الاثني عشرية، فيعدون الشيعة الإمامية فرعًا من المعتزلة ومن المتماهين مع أفكارهم وعقائدهم ومن أتباعهم وهذا غير دقيق فلكل مدرسة مبادؤها وقد تلتقي في نقاط وقد تختلف في أخرى على الرغم من مرجعية القرآن الكريم والحديث لكل الفرق الإسلامية حتى المستشرقين وقع بعضهم في هكذا شبهات عندما ردّ الشيعة في أصولهم إلى المعتزلة قال “آدم متز” في كتاب “الحضارة الإسلامية” (إن الشيعة ورثة المعتزلة)، وهذا غير دقيق البتة فلقد سبقت الشيعة المعتزلة والأشاعرة إذ ظهر الشيعة بداية مع صحابة علي وأبنائه وبشكل أوضح وقت المبايعة بالخلافة إلى وقت تولي علي للخلافة وما جرى في تلك المرحلة من أحداث مثّلت زلزالًا سياسيًا وعقائديًا هائلًا بعد رحيل الرسول محمد وكان للشيعة آراؤهم الخاصة بهم .
أضف إلى ذلك أنَّ النظَّام أحد شيوخ المعتزلة قد تتلمذ على هشام بن الحكم تلميذ الإمام جعفر الصادق.
هذا وقد أورد الشيخ محمد جواد مغنية في مجلة رسالة الإسلام العدد 46 بعض المفارقات الكلامية والعقيدية بين الشيعة والمعتزلة، ونذكر في ما يلي طرفاً من المسائل التي اتفقوا عليها – الشيعة الإمامية – مع الأشاعرة ضد المعتزلة:
1-الشفاعة: أجمع المسلمون كافة على ثبوت أصل الشفاعة، وأنها تقبل من الرسول الأعظم واختلفوا في تعيين المشفوع فيه، فقال الإمامية والأشاعرة: إن النبي يشفع لأهل الكبائر بإسقاط العقاب عنهم.
وقال المعتزلة لا يشفع إلا للمطيعين المستحقين للثواب، ومعنى شفاعته للمؤمن المطيع أن يطلب له من الله زيادة الثواب وتضاعف الحسنات، وأبطل المحقق الطوسي (محمد بن الحسن الفيلسوف الإمامي، وله مؤلفات كثيرة في علم الكلام والفلك والهندسة، وتحدث عنه علماء الغرب والشرق، وهو صاحب الرصد العظيم بمدينة مراغة، توفي سنة 622 هـ) في “كتاب التجريد” هذا القول بأنه لو كانت الشفاعة في زيادة المنافع، لجاز أن نشفع نحن في النبي، ونطلب له علو الدرجات وهو باطل، لأن الشافع أعلى من المشفوع فيه وأما الآيات الدالة على نفي الشفاعة كقوله: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) المدثر:48. فمتأولة بالجاحدين، جمعاً بينها وبين ما دل على قبول الشفاعة.
2 – الجنة والنار: قال الإمامية والأشاعرة إن الجنة والنار مخلوقتان الآن، بدلالة الشرع على ذلك. وقال أكثر المعتزلة إنهما غير موجودتين الآن، وستخلقان غداً يوم الجزاء.
3 – مرتكب الكبيرة: قال الإمامية والأشاعرة إن مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق يجب إقامة الحد الشرعي عليه إذا سرق أو شرب أو زنى. وقال الخوارج: هو كافر، وقال المعتزلة: لا مؤمن ولا كافر، وأثبتوا المنزلة بين المنزلتين، وهذه المسألة هي السبب لافتراق واصل عن أستاذه الحسن البصري، وإنشاء فرقة الاعتزال.
4 – الأمر بالمعروف: إتفق المسلمون كافة على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واختلفوا: هل يجبان بالسمع أو بالعقل؟ فقال الإمامية والأشاعرة: يجبان بالسمع، بنص الكتاب والسنة، ولولا وجود النص الشرعي لم يكن أي باعث على الوجوب، وقال المعتزلة: يجبان بالعقل، أما الشرع فيؤكد حكم العقل ويقره، وعليه فإن الوجوب ثابت، حتى ولو لم يرد النص الشرعي.
5 – الإحباط: قال جمهور المعتزلة إن المؤمن المطيع يسقط ثوابه المتقدم بكامله، إذا صدرت منه معصية متأخرة، حتى إن من عبد الله طول عمره، ثم شرب جرعة من خمر فهو كمن لم يعبد الله أبدا، وكذا الطاعة المتأخرة تسقط الذنوب المتقدمة، وهذا هو معنى الإحباط.
واتفق الإمامية والأشاعرة على بطلان الإحباط، وقالوا إن لكل عمل حسابه الخاص، ولا ترتبط الطاعات بالمعاصي، ولا المعاصي بالطاعات، والإحباط يختص بالجاحدين، الذين لا يؤمنون بالله ولا بالرسول واليوم الآخر، كما دلت الآية الكريمة: (لئن أشركت ليحبطن عملك، ولتكونن من الخاسرين) الزمر:65؛ لأن الجحود سيئة لا تقبل معه حسنة، وليس بعد الشرك إلا العذاب، أما من أساء وأذنب، وهو يؤمن بالله، فيوازن بين حسناته وسيئاته، فإن كانت الإساءة أكثر كان كمن لم يحسن، وإن كان الإحسان أكثر كان كمن لم يسء، إذ الأكثر ينفي الأقل، وإن تساويا كانا كمن لم يصدر عنه شيء، وقال صاحب كتاب “المواقف” (القاضي عضد الدين الإيجي) إن الذي تتساوى حسناته مع سيئاته يجوز أن يثاب، ترجيحًا لجانب الثواب على العقاب.
6- ثبوت الحال: أثبت المعتزلة الواسطة بين الوجود والعدم، وقالوا بثبوت الحال، وهو عندهم عبارة عن صفة لشيء، ولكنه لا يوصف بالوجود ولا بالعدم، ولا بالمعلوم ولا بالمجهول ولا بشيء أبدًا. وأنكره الإمامية والأشاعرة، وقالوا: لا شيء سوى الوجود والعدم.
7- الشرع والعقل: أسرف المعتزلة في تمسكهم بالعقل، وغالى أهل الظاهر في جمودهم على ظاهر النص، فوقف الإمامية والأشاعرة موقفاً وسطاً بين الفريقين، والتزموا تأويل كل ظاهر للكتاب وللسنة مخالف لبديهة العقل، وبهذه المحاولة جمعوا بين الشرع والعقل، وأعرض المعتزلة عن هذه المحاولة.
يستحكم بالوعي الجمعي نوعٌ من العبث الكامن نتيجة التكرار الزمني الممل لمشاهد الإنغماس في الأهواء والمفاسد والإستمرار الوهمي في الإنحرافات العقيدية والفكرية والتأسيس عليها خطابات موتورة ومتشنجة غير متصالحة مع روحية الدين الشفافة، فتولد من كل ذلك السأم طقوسٍ بالية، إذ حاولت بعض هذه الحركات الفكرية الضخمة توجيه العقل العربي والإسلامي وأن تستبدل حاضرها الأليم بإشعاع شمس الحضارة العقلية والفكرية التي وإن دخلت في معارك فقهية وعقيدية مدفوعة من السلطات الحاكمة وقتها إلا أنها كانت مشبعة بكثافة من الأفكار والطروحات التي تغني مسيرة الإنسان، فالغاية هي توليد المعاني والبحث عنها والإبداع في توجيهها والتنبه لمآلاتها التي تغذي الخلق المعرفي السيّال، فيما اليوم لا نعثر على هذا الإنتباه الوظيفي المطلوب والبحث عن المعنى وجر منافعه لرفع المعاناة عن واقعنا، وبدل عن ذلك ما زلنا نتلهى بالشكليات الفارغة على الصعد كافة والتي لا تنتج أثرًا، بل على العكس تدفعنا دفعًا نحو السقوط والتقوقع.
تتأرجح قصة الإنسان ما بين إيمان وتعقل ما يفرضه هذا الإيمان، فتمخضت معاناة فكرية وحياتية ومصيرية تجاذبته بقوة وتركت آثارها على كل مواقفه ومشاعره منذ القديم فجعلته غامضًا ومضطربًا، فالإستغراق في المأساة غذتها خطابات الحكام والمتنفذين وأزلامهم وكيدياتهم المغلفة بكل شهوة نابعة من الأنفس الطامحة إلى تجسيد طبع غرائزي أناني قاتل.
بات كثيرون ما بين نارين: نار التبعية لتقاليد خاوية ونار من يُصدِّر خطابات بالية باسم الدين والسياسة حيث سيطرة لغة دار الفناء على حساب دار البقاء في حس مصلحي ضيق ومريض.
حاول المعتزلة أصحاب “العقلانية المؤمنة” كما يحلو لمحمد عمارة تسميتهم وكذلك الإمامية وغيرهما من المدارس التعبير الحر عن شغف العلم والوعي لمقاومة ما يفرض على الإنسان لجعله محدودًا فجسّدوا بطروحاتهم وأفكارهم الفعل الحضاري المتأصل الذي يحاول نفض الغبار عن مأساة الإنسان على مدى مسيرته وإعادته إلى الصخب المعرفي الذي يدفع عنه كل سطحية ورتابة وتفاهة ويصالحه أكثر مع تعامله النوعي مع صيرورة المتغيرات التاريخية والإجتماعية في سير معرفي ثابت.
أما قصتنا اليوم فخطوطها متشابكة كبيت العنكبوت حيث اختلط السياسي والديني والثقافي بالمصلحي إلى حدود بعيدة جعلت من تفاعل الشخصية مع القيم شيئًا مستصعبًا في أوطان التآمر على الحق والحقيقة وانعدمت تاليًا فرصة نقد الذات لمحاسبتها وتصحيح أوضاعها في لحظات انفصام قوية عن الواقع، فمتى نخرج من ظلام التزمت والمقيدات إلى نور العقلانية والتوحّد؟