الأغلبية الصامتة.. حزب الكنبة السوري!

دخل مصطلح الأغلبية الصامتة للمرة الأولى في الخطاب السياسي، في عهد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الذي استخدمه في خطابه الداعم للحرب الأميركية على فيتنام، متذرعاً حينها بأن الأغلبية الصامتة التي لم تتظاهر ضده هي مؤيدة في قرارة نفسها لهذه الحرب، قبل أن يثبت الواقع عكس ذلك وتنقلب عليه وعلى حربه هذه.

في منطقتنا العربية، عُرف مصطلح الأغلبية الصامتة في مراحل عدة ولا سيما إبّان ثورات الربيع العربي وبشكل خاص في مصر، حيث وُسمت هذه الأغلبية بعبارة “حزب الكنبة” للتدليل على الأفراد الذين لم ينخرطوا في الاستقطاب الحاد الذي فرزته الساحات في مصر، واكتفوا بالبقاء في منازلهم متابعين للحدث عبر وسائل الإعلام من دون أي مبادرة أو تعليق من طرفهم على كل ما يجري من أحداث اتخذت طابعاً تاريخياً.

تبدو إشكالية هذا المصطلح كبيرة جداً ابتداء من دلالة كلماته، فكيف يمكن الحكم بأنهم أغلبية وهل يُمكن قياس هذه الأغلبية كماً، وما هي معايير توصيفها، وأيضاً هل هي صامتة فعلاً، وهل هذا الصمت هو انكفاء ذاتي عن الفعل ورد الفعل، أم هو تعبير عن موقف رافض لحدة الاستقطاب الذي يفرضه المشهد السياسي، وبالتالي ما هي تمظهرات هذا الصمت إذا لم يكن تعبيراً عن حالة اللا-فعل.

تكيفٌ صيانة للمصالح

في السياق السوري حضر هذا المصطلح مع الأيام الأولى لبداية الثورة السورية في العام 2011، وشكل إطاراً واسعاً لتوصيف شريحة كبيرة من الشارع السوري رفضت الانضواء ضمن ثنائية /مؤيد – معارض/ التي فرضها توسع النزاع في سوريا، فشكلت حالة وسطية تعاملت بمنطق نقدي وببراغماتية عالية مع أطراف النزاع، وذلك بعنوان الحفاظ على مكتسباتها من جهة واستمرار وجودها من جهة أخرى. هذا المنطق أبقاها قريبة من إيجابيات كل طرف، وتبرأت بالمقابل من كل سلبية لهم أكانت خطاباً أم ممارسة.

مع ذلك لم تنجُ هذه الأغلبية، وهي تشكل حالة استقطاب تتسع مساحتها في المشهد السوري، من عمليات الاستفزاز والابتزاز من طرفي النزاع، فكلاهما كان ينظر إليها بوصفها المهددة لشرعية وجوده وسرديته حيال الحدث السوري، وتبعاً لذلك تنوعت هذه الأغلبية وتدرجت قرباً أو بعداً سواء من النظام أم من المعارضة، تبعاً لتطور شكل الصراع في سوريا وتعقده، وأيضاً تبعاً لخلفيات أصحاب هذه المواقف المناطقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والمذهبية، من دون أن يعني ذلك تخليها عن تموضعها الوسطي، كأحد عناصر الحفاظ على التوازن الهش في السياق السوري.

وقف البعض من هؤلاء مع النظام تارةً معتبراً أن المعارضة بحراكها قامت بضرب الاستقرار الذي اعتبره الركيزة الأساسية في الحفاظ على مكتسباته، برغم كل مآخذه السلبية على النظام وسياساته التي أوصلت البلاد إلى هذه الحالة، مثلما وقف البعض الآخر ضد النظام مع استخدامه للحل الأمني الذي أدخل البلاد في دوامة من العنف أطاحت بكل مكتسباتها، برغم كل مآخذه السلبية على المعارضة والتوجهات التي تبنتها في سعيها فقط لاسقاط النظام من دون أي خارطة طريق واضحة لإنقاذ البلاد وإدارتها.

وعلى امتداد سنوات الأزمة السورية، وتنوع المناطق وتعدد سلطات الأمر الواقع، طوّرت هذه الأغلبية آليات تكيفها واستجاباتها لمستجدات الحدث السوري انطلاقاً من محدداتها الأساسية (الحفاظ على المكتسبات والاستمرارية)، فشكلت بذلك حالة عابرة لكل الاصطفافات ومناطق السيطرة والنفوذ، وعزّزت من حضورها القوي أمام قوى الأمر الواقع في كل المناطق التي حاولت كسبها إلى صفها، أو أقله عدم خسارتها إلى المعسكر المقابل، وهي بذلك ساهمت في كبح جماح تغول هذه القوى على الأرض والحفاظ ما أمكن على الاستقرار السوري الهش. فكان هذا “الصمت” أحد المحركات الأساسية للأحداث، ولم يكن وليدها.

تحولات مستجدة

فرض سقوط النظام السوري تغيراً جذرياً على الساحة السورية، كان من الطبيعي أن ينعكس مباشرة على هذه الأغلبية الصامتة التي وجدت نفسها تضطرب أمام مستجدات تعيد تشكيل وتعريف وتموضع هذه “الأغلبية” من جديد.

يشير غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجيا الجماهير” إلى السهولة التي يُمكن من خلالها أن تنتقل الجماهير من اصطفاف إلى اصطفاف مقابل، عند وجود محفز قوي أو حدث كبير يُحرّكها بحيث يتعطل منطق التفكير لدى الأفراد لمصلحة حالة جماهيرية تقود الجميع وتتحكم بهم. يمكن الاستناد إلى هذا في توصيف الحالة الجماهيرية التي رافقت الأيام الأولى لسقوط النظام، حيث كانت هذه اللحظة التي جمعت وللمرة الأولى بين جمهورين، الأول، جمهور الثورة الذي تحمل الصمت خلال كل سنوات النزاع في سوريا، والجمهور الآخر كان الجمهور الرافض لحكم آل الأسد ونظامهم وسياساتهم التي أرهقت حاضنتهم من مختلف الفئات. كلا الجمهورين تعاظم حضورهما بشكل أساسي خلال السنوات الأخيرة التي سبقت السقوط، دون أن يعرفا سبيلاً إلى اللقاء في ظل اتهامات متبادلة بلغت حد التخوين في ظل استحالة الوصول إلى حل للأزمة في سوريا، وتحميل كل طرف مسؤولية ذلك على الآخر، لذا وجد كلا الجمهورين أنفسهم أمام لحظة وحدتهم، فقد تحقق حلم كان بعيد المنال بسقوط الأسد الإبن وانتهاء حقبة حكمه.

على امتداد سنوات الأزمة السورية، طوّرت هذه الأغلبية الصامتة آليات تكيفها واستجاباتها انطلاقاً من محدداتها الأساسية (الحفاظ على المكتسبات والاستمرارية)، فشكلت بذلك حالة عابرة لكل الاصطفافات ومناطق السيطرة والنفوذ، وعزّزت حضورها القوي أمام قوى الأمر الواقع في كل المناطق التي حاولت كسبها إلى صفها، أو أقله عدم خسارتها إلى المعسكر المقابل، وهي بذلك ساهمت في كبح جماح تغول هذه القوى على الأرض والحفاظ ما أمكن على الاستقرار السوري الهش

بدا للحظة كما لو أن المجتمع السوري توحد أمام هذا الحدث التاريخي، ووجد كل تيار ضالته ولو أن السوريين اختلفوا في قراءة المسببات والحيثيات، لكنهم اتفقوا في أن نتائجه شكّلت النهاية الحتمية لمظلوميتهم التي تراكمت لعقود من الزمن. وفي مقابل هذا اتكأت السلطة السورية الجديدة على هذا المشهد وبنت خطابها في النصر الذي تحقق لكل السوريين ولأجلهم في محاولة لاكتساب شرعية جماهيرية إلى جانب الشرعية الثورية التي فرضها اسقاط النظام.

إقرأ على موقع 180  الصراع على فلسطين.. القدس مركز العالم (4)

لم يدم هذا التموضع الجديد للأغلبية الصامتة طويلاً، وساهمت في ذلك جملة من العوامل أهمها انكفاء السلطات الجديدة أكثر فأكثر إلى حاضنتها المجتمعية وإلى الأيديولوجيا التي تُحرّكها وتتفاعل من خلالها مع الوسط المحيط، وهي بنتيجة ذلك خسرت فرصة استثمار رافعة شعبية كبيرة تحلقت من حولها، من خلال خنق المساحات التي تسمح لهذا الحضور الشعبي بالمشاركة والتعبير عن نفسه، سواء في الخطابات التي تم تبنيها باسم هذه السلطة، أو من خلال الممارسات الاقصائية على مختلف الأصعدة، وصولاً إلى دوامة العنف التي انفجرت في أكثر من منطقة في سوريا مُعززةً بخطاب كراهية أيديولوجي، أعاد طرح الأسئلة لدى جمهور كبير من السوريين، عوضاً عن الإجابات التي كانوا ينتظرونها من هذه السلطة فيما يتعلق بمستقبل البلاد، ودفعت هذا الجمهور على اختلاف فئاته إلى التموضع مجدداً في مقابل هذه السلطة، وكان المحرك الأكبر لهذا التموضع هو الخوف بكل أبعاده ومسبباته.

إذاً وبنتيجة كل المُحدّدات السابقة، تحوّلت الأغلبية الصامتة من حالة وسطية تُشكل عامل توازن ما بين مؤيد ومعارض، إلى طرف في مقابل مجتمع الثورة الرافض لأي صوت سواه. وبدلاً من منطق التفكير البراغماتي النقدي لكل من السلطة والمعارضة الذي حكم سابقاً علاقة هذه الأغلبية فيما بينها ومع الآخر، حلّ التفكير الغرائزي القائم على الخوف من التهديد الوجودي، وهو منطق يقضي على أي تفكير نقدي منتج، ومع ذلك يُشكّل قوة استقطاب كبيرة لمصلحة هذه الأغلبية التي تتسع مساحة حضورها في الشارع السوري، ليصبح الصمت هنا ليس موقفاً، بمقدار ما هو خيار الضرورة الذي يفرض نوعاً من الانكفاء عن أي مشاركة أو جهد.

نحو ديكتاتورية جديدة

قد يبدو من الغبن وسم هذه الأغلبية الصامتة بـ”حزب الكنبة السوري” برغم أن البعض تبنى سابقاً هذا النهج، وما زال البعض الآخر يحافظ عليه، مثلما يبدو من الغبن أيضاً توصيف هذه الأغلبية بـ”الصامتة” برغم امتلاكها ديناميتها الخاصة التي تستطيع أن تؤثر في مسار الأحداث، فالصمت هنا دلالة على عدم اتخاذ أي موقف يُبيّن اصطفافها مع السلطة أو ضدها، لكنها مع ذلك تبقى أحد أهم عوامل اكساب الشرعية لأي سلطة سابقة أو حالية. فعدم تبنيها لخطاب معارض، يفتح الباب لأي سلطة لتُنصّب نفسها ناطقاً باسمها. وعندما تصمت هذه الأغلبية عن المجاهرة بخلاف ذلك، تكتسب توصيفها وتساهم في تشكل ديكتاتورية جديدة، كما كان حالها طيلة نصف قرن من تاريخ هذه البلاد.

لقد أخطأ النظام سابقاً حين استسهل اعتقاده بأن هذه الأغلبية في صفه، ولم يبدِ جهداً في محاولة فهم وتحليل صمتها وكسر حلقاته، فبقيت على مسافة منه محافظة على مكتسباتها مهادنة له بما راكمته من براغماتية في التفكير والفعل حتى اللحظة الأخيرة فلم تنقلب عليه ولم تقف إلى جانبه في مواجهة مصيره.

اليوم تقع هذه السلطة في الخطأ نفسه في عدم احتوائها لهذه الأغلبية وتبديد هواجسها، وبناء خطاب مصالح جديد، قولاً وممارسة، وصنع جسور الثقة التي ستبني عليها حكمها في المرحلة المقبلة.

يثبت التاريخ أن الديكتاتوريات المبنية على المصالح أشد استقراراً من ديكتاتوريات الخوف، فالتفكير المصلحي هو تفكير هادئ ينطلق من المصلحة وينتهي إليها معززاً من قيمة الاستقرار فوق أي قيمة. أما الخوف فهو شعور غريزي منفعل، ينطلق من الوجود ولا ينظر إلى سواه، وهو في سبيل ذلك قد يذهب إلى خيارات يرى فيها هروباً من مخاوفه، من دون أن يدرك أنه يهرب إلى مخاوف أكبر على البلاد ومستقبلها.

Print Friendly, PDF & Email
بشّار مبارك

كاتب وباحث سوري متخصص في مجال الإدارة المحلية والعمل مع المجتمعات المحلية

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  هل سيعود اللاجئون واللاجئات إلى بلدهم سوريا؟