هل اقتربت نهاية.. الدّين؟

ليس ذا نبوءة مادّيّة-تاريخيّة ماركسيّة أو ما شابه ذلك أبداً، ولا هو منظّرٌ إلحاديّ، ولا حتّى علمانيّ متطرّف، ولا من تلامذة البروفسور خزعل الماجديّ ونظراء هؤلاء العلماء المعاصرين (على سبيل المثال لا الحصر بالطّبع). بل هو سالكٌ "صوفيٌّ" (Mystique) كما يُقدّم نفسه، مغربيُّ الأصل، وعربيُّ الثّقافة بشكل أساسيّ، واسلاميّ البُعد الحضاريّ إلى حدّ ما.

أُكمل فأقول إن صديقَنا على “تصوّفٍ” من نوعٍ مُعيّنٍ فريد من نوعه بالنّسبة إلى ثقافتنا العربيّة-الاسلاميّة. هو، بالفعل، يقول إنّه صوفيّ عالميّ.. غير متديّن! فالتّصوّف والعرفان عنده هما جوهر الدّين.. وما الباقي، من رموز وطقوس وسرديّات وأساطير وصور وشرائع (إلخ.)، إلّا قشور، وقد آن الأوان للتّخلّي عنها والتّمسّك بالجوهر الذي هو من النّوع الإنسانيّ-العالميّ إذن.

بالنّسبة إليه؛ نعم، لقد وصلنا إلى هذا الحدّ.

لقد تطوّر وعينا الانسانيّ بما يكفي لكي نصل إلى هذا الحدّ على مستوى السّلوك والمعرفة. إنّه البروفسور الطّبيب السّالك، عزيز العمرانيّ الجوطيّ، والذي ذكرته في السّابق من القول والمقال، وهو مثالٌ بين أمثلة متعدّدة بطبيعة الحال.

في أوّل محاضرة شاهدتها له، قالها الجوطيّ بصراحة: انتهى زمن “الدّين”.. وجاء زمن “التّصوّف”. أو، بطريقة أدقّ: لقد تطوّر الوعي الانسانيّ إلى حدّ القول عنده إنّ “الدّين” (رموز معيّنة، صور معيّنة، تصوّرات-مفاهيم عقائديّة معيّنة، أساطير وسرديّات مُعيّنة، طقوس مُعيّنة، شرائع مُعيّنة.. إلى ما هنالك من جوانب رديفة أو قريبة).. صار من الماضي.. ولم يبقَ هذا الوعي بحاجة إلّا لبُعدٍ واحد من هذا “الدّين”، ألا وهو البُعد الرّوحيّ-الصّوفيّ البحت، إن جاز التّعبير.

***

كما بات معلوماً بالنّسبة إلى كلّ مراقب مهتمّ، ليست هذه دعوى “عزيز” وحده. فهو توجُّهٌ لم يزل يتوسّع وتقوى شوكته، في مختلف الأوساط، لا سيّما منها العلميّة-المعاصرة والفلسفيّة.. وبعض الأوساط الرّوحيّة أيضاً.

– “شامانيّون” جدد، أو تابعون لبعض الطّرق والشّخصيّات الشّامانيّة.. يريدون العودة إلى ما وصل إليه عدد من كهنة الأديان القديمة.

– هندوس جدد، لكن عالميّون. بوذيّون جدد، عالميّون أيضاً.

– طاويّون جدد وعالميّون.

– بل.. “هرمزيّون” جدد، وأفلاطونيّون جدد ضمن نسخ معاصرة! بل.. سبينوزيّون وسبينوزيّون جدد، وآنينشتاينيّون جدد، و”كمّيّون” جدد (نسبة إلى بعض تأويلات اكتشافات فيزياء الكمّ).. إلى آخر القائمة، التي تشمل أيضاً بعض من يقول إنّه من الحلّاجيّين الجدد (نسبة إلى الحسين بن منصور) أو الأكبريّين الجدد (نسبة إلى الشّيخ الأكبر محيى الدّين) أو المولويّين الجدد (نسبة إلى مولانا جلال الدّين).. إلى ما هنالك أيضاً.

– حتّى أنّ المفكّر والفيلسوف الفرنسيّ المرجعيّ “المُلحد”، لوك فيري، وصل إلى حدّ محاولة بناء وتسويق مفهوم “الرّوحانيّة العلمانيّة” (Spiritualisme laïc).

الفكرة الأساسيّة هي نفسها، مع بعض التّبسيط في هذا المقام: لنترك القشور “الدّينيّة”.. ولنركّز على الجواهر “الرّوحيّة”، المعرفيّة منها والعمليّة-السّلوكيّة.

***

بحسب هؤلاء أيضاً: إذا كان السّير والسّلوك والعرفان – الرّوحيّة جميعاً – هي جوهر أو جواهر الدّين، ونحن اليوم “نعلم” ذلك.. فلماذا نتعلّق بقشور هذا الأخير بأيّ ثمن؟ لماذا؟

(بحسب الجوطيّ وأمثاله: من يقاوم هذه الفكرة هو مجرّد واهم حقيقةً، فالقطار قد سبقه منذ زمن.. ولكنّ أكثر “النّاس” لا يشعرون. هي مسألة وقت فقط، قبل أن نُدرك ذلك جميعاً ونتعايش معه).

بحسب هؤلاء:

– هل نهوى الحُجُبَ واللّغوَ واللّهوَ ومضيعةَ الوقت والطّاقة.. حتّى نتعلّق بهذه القشور، بينما الجواهر صارت بمتناول أيدينا ووعينا؟

– هل نهوى التّخلّف؟ هل نهوى التّعصّب؟ هل نهوى النّزعات السّلفيّة والتّكفيريّة في كلّ الأديان؟

– هل نهوى الحروب الديّنيّة والطّائفيّة؟

– هل نعشق بعض الطّقوس التي مرّ عليها الزّمن؟

– هل نحن مُغرمون بالتّعلّق ببعض المفاهيم الظّلاميّة والرّجعيّة.. وبجمود العقل والقلب والرّوح؟

– هل نحن ولِهون ببعض الكهنة والشّيوخ المتشدّدين و”المتخلّفين”.. وببعض ذوي الذّقن والتّحريض والقتل والذّبح والسّبي.. من كلّ الأديان؟

– لماذا نريد الإبقاء على كلّ ذلك، مع أنّنا “نعلم” اليوم أنّ سببه هو “قشور” الديّن؟ لماذا؟

بعضهم بات يصيح على غرار فريدريك نيتشه، مع تحديث مهمّ.. إذ، بحسب رأيه: لم “يَمت الله” واقعاً، بل الذي مات هو الدّين!

قد يصرخ بعضهم أيضاً، أن.. ماتَ الدّينُ، وبِقيَ “الإله”!

أو ربّما: ليَمُتِ الدّينُ فوراً.. لكي يبقى الله! (إلخ..).

***

نحن بالتّأكيد أمام دعوى عقلانيّة – ومُحقّة – إلى حدّ ليس بالقليل أو الصّغير أبداً. وقد سبق أن تحدّثنا حول هذه القضيّة مع بعض التّفصيل. فالبُعد الصّوفيّ-العرفانيّ للدّين، ولأسباب سبق وناقشناها قدر الامكان، يُمثّل جوهر هذا الأخير في رأينا. فما هو جوهر الدّين إن لم يكن، باختصار: مجاهدة النّفس الإنسانيّة، واتّباع مكارم الأخلاق (العالميّة المقصد في المبدأ)، والعمل على السّير الرّوحيّ والسّلوك، وذلك بهدف إزالة الحُجُب المعرفيّة عن وعي الفرد (وربّما الجماعة).. حتّى يرتقيَ هذا الأخير ويتعالى، فيُصبح قادراً على “معرفة الله” أو “معرفة الوجود الحقيقيّ” أو معرفة صفات هذا الأخير إن أردت، “فيستحقّ الحياة السّعيدة الأبديّة” – بطريقة أو بأخرى – وإن جاز التّعبير في كلّ هذه الجوانب؟

إقرأ على موقع 180  في التاريخ.. معرفة الذات

ما هو جوهر الدّين إن لم يكن، باختصار ومع التّبسيط، ما سبق أو فيه أو ضمنه أو قربه؟

من الواضح أيضاً أنّنا وصلنا إلى مرحلة متقدّمة ومتميّزة من تطوّر وعينا الانسانيّ.. تخوّلنا أن “نُترجم مفاهيميّاً” أغلب الرّموز والسّرديّات والصّور والعقائد الدّينيّة (إلخ..).

بلغتنا الأكاديميّة المعاصرة والمقبولة عموماً، يُمكننا مثلاً أن نتحدّث، مع التّبسيط:

  • عن مفهوم “الوعي الكونيّ الكامل الصّفات” بدلاً من تسميات “الإله” على اختلافها؛
  • عن مفهوم “تجلّي الوجود الأَحَديّ من خلال الموجودات” بدلاً من قصص الخلق وما يشبهها في أكثر الأديان؛
  • عن مفهوم “التّواصل ما بين العوالم أو الأبعاد الأكثر تعالياً، وبين عالمنا” بدلاً من قصص النّبوءات وما إلى ذلك أيضاً؛
  • عن مفهوم “استمرار الوعي ما بعد موت الجسد الدّنيويّ” بدلاً من القصص التّقليديّة حول القيام من بين الأموات، والعروج نحو “سماوات” مُعيّنة..

.. إلى ما هنالك من أمثلة، ليس الهدف منها إذن إلّا المثال والتّصوير لا أكثر.

فلماذا لا نأخذ، إذن، بقولهم القائل.. “إنّ زمن الدّين قد ولّى”؟

***

لا يكفي أن تكون هذه الدّعوى أو الفرضيّة عقلانيّة.. حتّى تكون واقعيّة.

وكاتب هذه السّطور يميل إلى الرّأي القائل بأنّها ليست واقعيّة فعلاً، ولسبَبَين رئيسيَّين، تتفرّع منهما أسباب مُتعدّدة ومُتشعّبة:

  • السّبب الرّئيسيّ الأوّل: وهو أنّ ما سبق من ادّعاء ودعوى.. لا ينطبق على عموم البشريّة، على الأرجح، بل على بعض النّخب فقط. والرّموز والسّرديّات والصّور الدّينيّة، وربّما أغلب الطّقوس (إلخ..)، تتوجّه إلى عامّة النّاس قبل أيّ جهة أخرى. هل تطّور الوعي البشريّ إلى حدّ ما يدّعيه أصدقاؤنا؟ لا أعتقد واقعاً. يكفيك أن تُجرّب عرض مفهوم “الوجود” لوحده مثلاً، على الجماهير في أيّ مكان من العالم.. حتّى تُدرك أنّ القضيّة صعبة جدّاً – بل مستحيلة على الأرجح – من غير رمز وسرديّة وأسطورة وصورة (إلخ..). هذا عداك عمّا تُبيّنه حال الأمم والشّعوب من حولنا عموماً: لا سيّما في ما يعني بُعد أكثر النّاس، للأسف، عن التّركيز على جوهر الدّين.. وتعلّق الأكثَرين بالقشرة وبالضّجيج “الظّاهريّ” ان جاز التّعبير (أسمّيه بالفرنسيّة عادةً، على سبيل الدّعابة أحياناً، بالـAgitation).
  • السّبب الرّئيسيّ الثّانيّ: وقد يكون الأعمق والأخطر، وهو مدعّمٌ إلى حدّ بعيد باكتشافات ومفاهيم المدرسة السّيكولوجيّة اليونغيّة بشكل خاصّ (نسبة إلى شيخها الأكبر، وعلمها الأخطر، كارل غوستاف يونغ). وخلاصته تكمن في اعتبار أنّ القضيّة لا تتعلّق فقط “بالوعي”.. بل تتعدّاه إلى عالم أو عوالم “اللّا-وعي”.. وليس فقط اللّا-وعي الفرديّ، بل تتخطّى هذا الأخير أيضاً إلى “اللّا-وعي الجماعيّ” ذي الأركان المتجذّرة في أقدم التّاريخ – وما قبل “التّاريخ” الانسانيّ بكثير جدّاً بطبيعة الحال – وصولاً إلى بداية “ظهور” الوعي في هذا الكون أو على هذه الأرض.

بل تذهب المدرسة اليونغيّة عموماً إلى الاعتقاد بأنّ جذور هذا اللّا-الوعي.. قد تكون متعلّقة ببُعد أو بأبعاد من الصّنف الأزليّ أو غير المربط بالزّمان أيضاً (راجع نظريّة يونغ حول النّماذج-الأصليّة أو الـArchetypes).

وبالتّالي، يعني كلّ ما سبق[1]: أنّ المسألة، بكلّ بساطة، قد تكون بعيدة عن كونها في مُتناول يدنا واقعاً. فهي مرتبطة باللّا-وعي وأسراره وأعماقه من جهة، وبأسرار الوجود الأزليّ بأسره من جهة ثانية. ولذلك، حتّى بالنّسبة إلى النّخب، ونُخب النّخب.. قد يكون الدّين، بما هو منظومة رمزيّة وصوريّة وأسطوريّة-سرديّة وطقوسيّة-عباديّة (إلخ.) ضروريّاً في عمليّة التّواصل (قد يقول بعضهم في عملّية “الصّلاة” أو “الصّلة”.. ولكن هذا بحث آخر):

  • ما بين الوعي واللّا-وعي الفرديَّين؛
  • ما بين اللّا-وعي الفرديّ واللّا-وعي الجماعيّ؛
  • ما بين كلّ هذه.. وبين الوعي الكونيّ الأزليّ (أو “الالهيّ”) إلى ما هنالك من أبعاد متعالية.

من هنا، يتبين أنّنا لم نزل بعيدين جدّاً، في واقع الأمور وعمقها العميق، عن بلوغ مرحلة “ترك الدّين” هذه.. كما يتخيّل البعض. القضيّة أعمق وأخطر بكثير على الأرجح.

فهل يتمهّل بعض إخواننا، من جميع المدارس والثّقافات، في اطلاق هذه الدّعاوى والادّعاءات.. وفي جميع الاتّجاهات؟

والأمر ينطبق بالطّبع أيضاً على بعض إخواننا المتديّنين.. من الذين لا يُريدون فهم أنّ قضيّة الديّن.. هي، بكلّ بساطة وبوضوح، أبعد بكثير من ظاهر بعض الرّموز والصّور والطّقوس والسّرديّات والتصوّرات؟ ولكن: هذا بحثٌ وحديثٌ وحوارٌ من نوع آخر بطبيعة الحال.

[1] وقد يشمل برأيي، إلى حدّ ما، بعض جذور نظريّة “الضّرورة الأخلاقيّة” لعمانوئيل كانط، ولكن هذا بحث له تفصيل آخر.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  حزب الله بين التحرير والتغيير.. بين الممكن والمرتجى!