ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.. التقاء الفرصة واللحظة

شُكّلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثالثة في العاشر من أيلول/سبتمبر 2021، وتم تعييني وزيراً للخارجية والمغتربين فيها، ومن هنا كان لا بد أن ينال ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل اهتماماً أساسياً في صلب عمل الوزارة بدءاً من لحظة دخولي إليها، وهو اهتمام تُوّج بتوقيع الاتفاق الأول من نوعه بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي منذ نحو أربعة عقود من الزمن.

منذ العام 2005 بدأت ترد إلى المسؤولين اللبنانيين تقارير من جهات إقليمية ودولية عن وجود مكامن غازية واعدة في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وبينها السواحل اللبنانية، وفي 17 كانون الثاني/يناير من العام 2007، وقّعت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة اتفاقاً لترسيم الحدود مع قبرص، أدى إلى وقوع التباس بشأن الخط 23 بسبب الإجراءات الأحادية التي قامت بها دولة قبرص مع عدد من الدول وبينها إسرائيل، ما أدى إلى اندلاع الخلاف حول مساحة تزيد عن 860 كلم2 من المنطقة الاقتصادية الخالصة التي أعلن لبنان عنها في وقت سابق. لم يكتفِ لبنان بالاعتراض لدى الأمم المتحدة بل أودعها في نهاية العام 2011 حدود منطقته الاقتصادية الخالصة، الأمر الذي اعترضت عليه إسرائيل، لتنطلق بعدها الوساطة الأميركية ممثلة بالموفد فريدريك هوف الذي أمسك بالملف وحاول طوال سنوات القيام بوساطة بين بيروت وتل أبيب، قوامها تقسيم المنطقة المتنازع عليها بحيث يحصل لبنان على أقل من الثلثين وإسرائيل على أكثر من الثلث، لكن مهمته فشلت، وحلّ من بعده أكثر من موفد أميركي للمهمة نفسها، لكن الاستعصاء ظلّ سيد الموقف حتى العام 2021.

في خريف العام 2021، عاد الخلاف حول المنطقة الاقتصادية الخالصة بين لبنان واسرائيل إلى الواجهة، في ضوء إصرار حكومة لبنان برئاسة نجيب ميقاتي على الخط رقم “23”، وفي المقابل، أصرت إسرائيل على الخط رقم “1” والفرق بين الخطين يبلغ 860 كلم2. وكان هناك ايضاً في لبنان من يرى أن الخط رقم “29” هو الخط الفاصل، مما يزيد المنطقة المتنازع عليها لتصبح 1430 كلم2 ويشمل هذا الخط (29) الجزء الشمالي من حقل “كاريش” الإسرائيلي نفسه.

اعتمدت الدولة اللبنانية وقتذاك الخط رقم “23” الذي كانت حكومة الرئيس ميقاتي الثانية قدّمته في العام 2010 (2011) إلى مكتب الأمين العام للأمم المتحدة، مصرة على كامل المنطقة المتنازع عليها، والتي تضم “حقل قانا”، وهي المنطقة التي يعتبر علماء الجيولوجيا أنها قد تحتوي على الغاز.

قامت وزارة الخارجية اللبنانية باتصالات مع الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، وذلك بالاضافة إلى اتصالات قامت بها رئاستا الجمهورية والحكومة في اتجاهات متعددة للغاية نفسها. أدت كل هذه الاتصالات إلى تعيين واشنطن موفد رئاسي، هو أموس هوكشتاين، لحل هذه المشكلة العالقة منذ أكثر من عقد من الزمن بين لبنان وإسرائيل.

من هو آموس هوكشتاين؟

لم ألتقِ أموس هوكشتاين قبل زيارته إلى لبنان في خريف 2021. كان هوكشتاين قد فشل، خلال عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما، في التوصل إلى اتفاق يتقاسم بموجبه لبنان وإسرائيل المنطقة المتنازع عليها. أموس، وكما يعرف من أصدقائه ومعارفه، هو رجل أعمال أميركي ودبلوماسي. كان مسؤولاً رفيع المستوى في إدارة الرئيس جو بايدن وقد عمل في الكونغرس الأميركي وخدم خلال إدارة باراك أوباما في وزارة الخارجية، أي في فترتي الوزيرة هيلاري كلينتون والوزير جون كيري. تم تعيينه نائبًا لمساعد وزير الخارجية في العام 2011 ومبعوثًا خاصًا ومنسقًا لشؤون الطاقة الدولية في العام 2013 . عمل أموس ايضاً، أثناء وجوده في وزارة الخارجية، مستشاراً لنائب الرئيس الأميركي وقتذاك، جو بايدن.

في شهر آب/أغسطس 2021، عُيّن هوكشتاين مستشارًا أول لأمن الطاقة في الخارجية الأميركية، وتم تعيينه لاحقًا منسقًا رئاسيًا خاصًا للبنية التحتية العالمية وأمن الطاقة.

والمتداول أن هوكشتاين وُلد في القدس، لأبوين يهوديين أميركيين مهاجرين إلى إسرائيل، وخدم في سلاح المدرعات التابع لجيش الدفاع الإسرائيلي، وحصل على رتبة ملازم، وأصبح ضابط اتصال مع القوات الأجنبية في الشرق الأوسط. بعد انتهاء خدمته العسكرية انتقل إلى مدينة نيويورك الأميركية للعمل في مصرف “بانكرز ترست”، ومع أن عائلة هوكشتاين المباشرة ما تزال تعيش في إسرائيل، إلا أنه لا يحمل جنسية مزدوجة.

هوكشتاين في الخارجية

أعلمتني السفيرة الأميركية السابقة لدى لبنان، دوروثي شيا، عن زيارة هوكشتاين الى لبنان قبل حوالي أسبوع من وصوله. حضرتُ الاجتماع الذي عقده هوكشتاين في القصر الجمهوري مع الرئيس ميشال عون ومستشاريه، ورحبت به في وزارة الخارجية. كان اللقاء في الخارجية ودّياً وردّدت على مسامعه الموقف اللبناني: الخلاف بيننا وبين إسرائيل حول 860 كلم2، يعتبرها لبنان بالكامل ملكه. وسألني هوكشتاين إذا كان لبنان يصر على أن يكون خط الحدود مستقيماً، فأجبته أن ذلك ليس ضرورياً طالما كانت المساحة نفسها ولكن ذلك يتطلب دراسة الخط وموافقة الحكومة. سألني أيضاً عما سيكون عليه موقف حزب الله في حال التوصل إلى اتفاق. ولما كنت قد تواصلت مع حزب الله في هذا الموضوع، أكدت له أنهم يعتبرون ترسيم الحدود البحرية شأناً حكومياً لبنانياً ولن يكون لهم موقف مختلف عما تقبل به الحكومة.

زار أموس لبنان مرتين بعد ذلك وكان يجتمع بالرؤساء الثلاثة ويزور وزارة الخارجية، بالاضافة إلى لقاءات مع اللجنة المكلفة بالمفاوضات وشخصيات لبنانية أخرى. لم يحرز هوكشتاين أي تقدم في مهمته، بل يمكن القول إن زياراته إلى لبنان وإسرائيل كانت فاشلة. لكن المفاوضات لم تتوقف لأن إسرائيل كانت بحاجة إلى اتفاق مع لبنان لتتمكن من استخراج الغاز من حقل كاريش بسلام. كان هوكشتاين يشدد في كل اجتماعاته في الخارجية على أن المفاوضات لا تعني ولن تعني أن أياً من الطرفين يُمكنه الحصول على كل مطالبه، ولذلك لا يمكن للبنان أن ينتزع من خلال اتفاق مع إسرائيل كل المنطقة البحرية المتنازع عليها، وبالتالي عليه أن يُقر بمبدأ تقاسمها مع إسرائيل. وكان الجواب اللبناني من كل الأطراف الرسمية أن تلك المنطقة لبنانية بامتياز.

الترسيم والمُسيرات!

بدأت المفاوضات الجدية بين لبنان وإسرائيل من خلال القناة الأميركية بعد أن أطلق حزب الله في الأول من تموز/يوليو 2022، ثلاث مُسيرات باتجاه منصة حقل غاز “كاريش” الإسرائيلي القريب من الحدود البحرية التي يطالب بها لبنان، أو الخط “23”. وعلى الرغم من أن المُسيرات كانت غير مسلحة واستطاعت إسرائيل تفجيرها في الجو، إلا أن اطلاقها بحد ذاته، ووصولها إلى منطقة حقل الغاز الإسرائيلي غيّرت قواعد اللعبة. بات لا يمكن لأي سفينة استخراج الغاز، وبينها سفينة “انرجيان” التي تزيد كلفتها عن المليار دولار أميركي، أن تعمل تحت تهديد مُسيرات حزب الله. بالاضافة إلى ذلك، ارتفعت تكلفة تأمين السفينة بشكل هائل، حيث سبق وأن أبلغني هوكشتاين أن شركات النفط قد استثمرت ثلاثة مليارات دولار لتاريخه في تطوير حقل “كاريش”. لذلك، وبعد أن توقف العمل في “كاريش” بسبب المُسيرات، قامت إسرائيل بالطلب من واشنطن أن تُسرّع عودة أموس هوكشتاين إلى المنطقة لمعالجة هذه الأزمة الخطيرة، وقد رحب لبنان بالخطوة الأميركية.

إقرأ على موقع 180  لبنان: تعويم الحريري بـ"فاول" عوني.. إلى الإنتخابات النيابية دُرْ!

اتصلت بي في اليوم التالي لإطلاق المُسيرات السفيرة الأميركية دوروثي شيّا، تطالب الحكومة اللبنانية باصدار بيان يُدين ما قام به حزب الله، أي إطلاق المُسيرات على حقل “كاريش”. كما شدّدت شيّا على أن أميركا صنّفت حزب الله منظمة ارهابية وما قام به هو بالتحديد عمل ارهابي. أجبتها أن ذلك العمل، حتى لو كان إرهابياً، قد يفيد لبنان بالمفاوضات الجارية. أجابتني أن ذلك قد يكون صحيحاً إذا استمرت المفاوضات، وكرّرت أن المفاوضات لن تستمر إن لم يدن لبنان ما قام به حزب الله. وبعد أخذ ورد كبيرين، أعلمتني بأنها قد تواصلت مع الرئيس نجيب ميقاتي وهو ينتظر مكالمة مني لبحث هذا الموضوع.

اتصلت برئيس الحكومة وقصدت مكتبه في السرايا الكبير واتفقنا على إصدار بيان قصير اعتبر “ان ما قام به حزب الله غير مقبول” من الحكومة اللبنانية. اعتبر الأميركيون أن البيان كافٍ لاستمرار المفاوضات ولم يعتبر حزب الله أن البيان يُشكل ادانة له.

الترسيم له أسبابه

كان لا بد من المفاوضات بين لبنان وإسرائيل برعاية الأميركيين أن تنتهي قبل آخر تشرين الأول/أكتوبر 2022 لثلاثة أسباب:

أولاً؛ ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون تنتهي في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، وقد لا يستطيع مجلس النواب ان ينتخب رئيساً قبل ذلك التاريخ. كما ان الدستور اللبناني يحصر توقيع الاتفاقات الدولية برئيس الجمهورية.

ثانياً؛ الانتخابات الإسرائيلية النيابية حُدّدت في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2022، وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد يخوض انتخابات شرسة ضد بنيامين نتنياهو. كما أن واشنطن كانت تحبذ نجاح لابيد لسهولة التعامل معه ولامكانية السير معه في مفاوضات قد تؤدي إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين. لذلك، كان الأميركيون يأملون أن يؤدي الاتفاق على الحدود البحرية إلى مساعدة لابيد في انتخابات الكنيست الإسرائيلي.

ثالثاً؛ كما ذكر سابقاً، تم استثمار مبالغ طائلة في تطوير حقل كاريش، ولا يمكن لإسرائيل استخراج الغاز من الحقل من دون اتفاق مع لبنان بسبب تهديد مُسيرات حزب الله.

أحدثت حادثة المسيرات دينامية دبلوماسية استثنائية وأعقبها قيام هوكشتاين بزيارات مكوكية بين بيروت وتل أبيب أدت إلى قبول إسرائيل بملكية لبنان كامل المنطقة المتنازع عليها وفق الخط 23 من دون أن يقدم لبنان أي تنازل كما كان يصر هوكشتاين في البداية والتي تعني بطبيعتها تنازلات من الطرفين، وقد أبلغ هوكشتاين لبنان بالاقتراح الإسرائيلي في بداية شهر أيلول/سبتمبر. وتضمنت الاتفاقية التي تم التوقيع عليها في 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2022 بشكل منفصل، ما يلي:

(1) اعتماد الخط 23 كخط نهائي يفصل بين المنطقتين الاقتصاديتين الخالصتين للبنان وإسرائيل.

(2) حصل لبنان على حقوقه كاملة في حقل قانا، المنطقة التي يعتقد علماء الجيولوجيا أنها قد تحتوي على هيدروكربون، كما وافق لبنان على السماح لإسرائيل بحصة من العائدات من خلال اتفاقية جانبية مع الشركة الفرنسية، “توتال إنرجايز”، من الحقل المذكور في حين يكون امتداده إلى جنوب الخط “23”. كان للرئيس الفرنسي، مانويل ماكرون تأثيراً رئيسيًا في إقناع “توتال انرجايز” بهذا الموقف.

(3) حصلت إسرائيل بالكامل على حق استخراج الغاز من حقل كاريش وعاد العمل فيه مباشرة بعد ايداع نسختي الاتفاق اللبناني – الإسرائيلي مكتب الأمين العام للأمم المتحدة في نيويورك.

لقد تقاطعت الفرصة مع نضوج الظروف الأمنية والسياسية والاقتصادية للتوصل إلى اتفاق بشأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، ولا شك أن أموس هوكشتاين لعب دوراً أساسياً في تذليل العقبات التي واجهت المفاوضات من خلال بناء ثقة بينه وبين الجانبين وصولاً إلى ابرام اتفاق مقبول من كلا الطرفين لأنه يلبي مصالحهما.

من المستفيد من هذا الاتفاق؟

أولاً؛ حصل لبنان على مبتغاه. أصبح الخط “23” رسمياً حدوده البحرية، ومن ثم اتفق مع مجموعة شركات نفطية بقيادة “توتال إنرجايز” الفرنسية، وبمشاركة “إيني” الإيطالية و”قطر إنرجي” القطرية، لاستكشاف الغاز في حقل قانا. أوقفت شركة “توتال”، في تشرين الأول/أكتوبر 2023، عمليات الحفر وادعت أنها لم تعثر على الغاز بكميات تجارية. لكن الكثير من اللبنانيين يتساءلون عما إذا كان قرار الشركة سياسياً أو بسبب الحرب التي أعقبت اندلاع “طوفان الأقصى” وبالتالي عدم توفر الاستقرار الأمني والسياسي في المنطقة.

ثانياً؛ بدأت إسرائيل باستخراج الغاز وتصديره من حقل كاريش بعد أسابيع قليلة من توقيع الاتفاقية، ولم يتوقف العمل في كاريش خلال حرب إسرائيل مع حماس وحزب الله.

ثالثاً؛ بالنسبة إلى الولايات المتحدة، كانت هذه الاتفاقية الدولية الاولى والوحيدة لإدارة الرئيس جو بايدن خلال أربع سنوات.

رابعاً؛ سياسياً، لم يعقد حفل توقيع للاتفاق، بل سلم كل من الطرفين اتفاقية موقعة من رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون ورئيس حكومة اسرائل يائير لابيد، لمكتب الأمم المتحدة في الناقورة ليسلمه لاحقاً إلى الأمين العام للأمم المتحدة في نيويورك. وبينما شدّد الرئيس عون على أن الاتفاق “لا يشكل اتفاقية سلام مع إسرائيل”، أكد لابيد أن الاتفاق انتصار سياسي لإسرائيل، مشدداً على أنه “ليس كل يوم تعترف فيه دولة معادية بدولة إسرائيل”.

لاقت الاتفاقية إعجاباً دولياً عبّر عنه وزير خارجية اليونان وقتذاك عندما زرته في أثينا بعد توقيع الاتفاق. سألني: “كيف تمكنتم من التوصل إلى اتفاق مع دولة لا تعترفون بها وليس هناك أي تبادل دبلوماسي بينكما، ونحن نحاول مع إيطاليا وتركيا منذ عقود لترسيم حدود بحرية بيننا، وبمفاوضات مباشرة، ولم ننجح”.

باختصار، ازالت الاتفاقية، في حال احترام الطرفين لمندرجاتها، عقبة رئيسية في سبيل استغلال لبنان وإسرائيل مواردهما البحرية، وذلك من خلال استتاب الامن، مما يشجع المستثمرين المحتملين على العمل في المنطقتين الاقتصاديتين في المستقبل.

ولعل أهم عبرة يجب أن يستخلصها اللبنانيون من خلال معركة ترسيم الحدود البحرية أن وحدتهم الوطنية هي سلاحهم الأمضى لأجل تحصيل حقوقهم وتحصين وطنهم، فقد تناغم الموقف الرسمي والوطني والشعبي وأنتج معادلة تمكن لبنان من خلالها من تحصيل معظم حقوقه في حدوده البحرية.

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله بو حبيب

وزير خارجية لبنان السابق

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  فلسطين أسئلةً ومصطلحات.. ودولةً واحدةً؟