

تتبدى الآن سيناريوهات متضاربة على ثلاث جبهات مشتعلة والمفاوضات فيها على طرق شبه مسدودة.
الجبهة الأولى، الحرب على غزة وما قد تسفر عنه من نتائج وتداعيات تدخل فى صلب الصراع على مستقبل الإقليم لعقود طويلة مقبلة.
السؤال هنا: إلى أى مدى يمكن أن تتمدد حربى الإبادة والتجويع دون رادع حقيقى يوقف المأساة الإنسانية المروعة؟
بصياغة أخرى هل يصح التعويل على أى دور امريكى بعد إجهاض مشروع قرار فى مجلس الأمن باستخدام حق النقض يدعو إلى وقف الحرب فورًا؟
الجبهة الثانية، المفاوضات الأمريكية الإيرانية وما قد تصل إليه من تفاهمات، أو ما قد تتدهور إليه من انفلاتات.
السؤال هنا: هل يمكن أن تنزلق الحوادث إلى عمليات عسكرية واسعة بتحريض إسرائيلى تهدد سلامة الإقليم كله؟
الجبهة الثالثة، الحرب الأوكرانية، التى تتصدر الحسابات الدولية المتداخلة بأزمات الشرق الأوسط، حيث يتصاعد الحديث المتزامن عن التصعيد إلى الحافة النووية مع جولات تفاوض غير مباشر للوصول إلى تسوية.
السؤال هنا: أيهما أكثر ترجيحًا فى الموازين الحالية بعد قصف المسيرات الأوكرانية لطائرات ومراكز عسكرية بالغة الأهمية والحساسية؟
إننا أمام حالة غير مسبوقة فى سيولة النيران والسياسة معًا.
تحتاج مصر أن تواجه نفسها بالحقائق المستجدة. إذا أرادت أن تستعيد أدوارها مرة أخرى فلا بد أن تكون متأهبة لتحسين ملف الحريات العامة وحقوق الإنسان وتصويب المسار الاقتصادى المختل بفداحة وأن تكون موحدة ومتماسكة لدفع أثمان وتكاليف أى مواجهات قد تفرض عليها
الاحتمالات كلها مفتوحة والأطراف الإقليمية كلها تتأهب لميلاد شرق أوسط جديد دون أن يكون واضحًا أمامها طبيعته ومعادلاته وموازين القوى، التى سوف يستقر عليها.
برز مصطلح الشرق الأوسط الجدى لأول مرة إثر سقوط بغداد (2003).
تبنته وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بذريعة إشاعة الديمقراطية، لكنه ترجم نفسه عمليًا فى تفكيك وتجزئة الدول العربية على أسس عرقية ومذهبية.
عاد المصطلح – مرة ثانية – إلى واجهة الأحداث إثر ما أطلق عليها «ثورات الربيع العربى»، التى تحولت أغلبها لحروب أهلية نالت من دول كليبيا وسوريا واليمن.
ثم مرة أخرى إجهاض الديمقراطية بتدخلات غربية.
ثم طرح المصطلح أخيرا بعد صعود دونالد ترامب.
اللافت هنا أنه لا تعنيه الأفكار والتصورات، فهو رجل صفقات بالمقام الأول.
تكفل “نتنياهو” بالمهمة لمقتضى هدفه الرئيسى فى تمديد الحرب على غزة وتوسيعها إلى أبعد مدى ممكن حتى لا يجد نفسه خارج الحياة السياسية الإسرائيلية كلها متهمًا بالاحتيال والرشى فضلًا عن مسئوليته عن أحداث السابع من أكتوبر (2023).
يكاد يتلخص الشرق الأوسط الجديد إسرائيليًا فى ثلاث معادلات رئيسية: شطب القضية الفلسطينية، وتنحية إيران بإدخال تعديلات جوهرية على طبيعة أدوارها، وتهميش مصر حتى يفقد العالم العربى إتزانه وأى قدرة له على التماسك.
شطب القضية الفلسطينية يتجاوز إخلاء غزة من أهلها بالتهجير القسرى، أو الطوعى، والتوسع الاستيطانى فى الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة عليها وتهويد القدس نيلًا من سلامة المسجد الأقصى إلى إعادة رسم خرائط الشرق العربى كله بتقاسم النفوذ على سوريا مع تركيا.
هذه معادلة مبتورة تهيمن عليها أوهام اليمين الصهيونى المتطرف.
ربما تجرى إطاحة حكومة اليمين المتطرف بأسرع من أى توقع.
وجود «نتنياهو» فى الحكم بات عبئًا على مستقبل إسرائيل.
هذه حقيقة يتردد صداها فى استطلاعات الرأى العام الإسرائيلى.
تنحية إيران عن معادلات الإقليم معادلة مبتورة أخرى.
إيران قوة رئيسية فى الإقليم وليست طارئة عليه.
هذه حقيقة أخرى.
القضية الحقيقية فى المفاوضات الأمريكية الإيرانية دورها الإقليمى، لا مشروعها النووى.
الهدف الغربى الجوهرى استعادة إيران إلى الدور الذى كانت تلعبه أيام الشاه شرطيًا فى المنطقة لا ضربها عسكريًا وتحطيم بنيتها التحتية.
إيران ليست بوارد التنازل بسهولة عن التخصيب النووى، فهذا يعنى بالضبط تقويضًا لشرعية نظامها.
الغرب رغم الحملات الممنهجة والعقوبات الاقتصادية، التى فرضها لا يميل فى إجماله إلى الخيار العسكرى خشية تأثيراته الخطرة على جوارها حيث منابع النفط.
المثير للتعجب أن إسرائيل تعتبر المشروع النووى الإيرانى تهديدًا وجوديًا لها، رغم أنها تحتكر السلاح النووى، الذى يعد تهديدًا وجوديًا للعالم العربى كله.
رغم المفاوضات تلوح إسرائيل بعمل عسكرى كبير ضد إيران.
ذلك مجرد تلويح، فليس بوسعها أن تدخل مواجهة مفتوحة مع الإيرانيين دون غطاء أمريكى يحميها من ردات فعل قد تشل الحياة فيها.
كان الاقتراب المصرى الإيرانى خطوة إيجابية، فلا يعقل أن تظل العلاقات الدبلوماسية بين البلدين مقطوعة منذ (1979).
فى ذلك السياق بدا التركيز على تهميش مصر مقصودًا به أدوارها، التى تقتضيها حقائق الجغرافيا والتاريخ والمصالح وأمنها القومى.
عندما انسحبت مصر من الصراع العربى الإسرائيلى بعد اتفاقية “كامب ديفيد” (1978) تراجعت بفداحة أدوارها القيادية فى المنطقة ونفوذها فى إفريقيا والعالم الثالث.
ثم أفضت أوضاعها الاقتصادية الصعبة إلى الكلام المعلن عن سيناريوهات نقل مركز الثقل بعيدًا عنها.
تحتاج مصر أن تواجه نفسها بالحقائق المستجدة.
إذا أرادت أن تستعيد أدوارها مرة أخرى فلا بد أن تكون متأهبة لتحسين ملف الحريات العامة وحقوق الإنسان وتصويب المسار الاقتصادى المختل بفداحة وأن تكون موحدة ومتماسكة لدفع أثمان وتكاليف أى مواجهات قد تفرض عليها.
لا أدوار مجانية.
هذا هو درس التاريخ.
(*) بالتزامن مع “الشروق“