فاجأني ما كتبه الزميل عن الملل وقد صار صفة من صفات السياسات الخارجية والعلاقات الدولية، ففي الأسبوع نفسه، علمتُ أن في الصين جمعيات أو بالأصح تجمعات شبابية اتخذت نظرية العلاقات الدولية موضوعاً للتسلية الراقية وقضاء فسحات وقت الفراغ بين الانشغالات الأكاديمية. ومع ذلك، أتفهم صدور هذه الصفة للحال المتوقعة للعلاقات الدولية في الأسابيع القادمة فهناك من التطورات ما يمكن أن يدفع بعض المراقبين والدارسين لتبني هذا الاعتقاد. من هذه التطورات على سبيل المثال:
أولاً؛ دخلت الولايات المتحدة بالفعل إلى فترة يتصف فيها أداء السلطة، والدولة عموماً، بصفة “البطة العرجاء”. لا أعتمد على صور أخيرة للرئيس الأمريكي جو بايدن وأدائه خلال إلقائه بتصريحات للصحفيين أو أثناء مقابلاته المسجلة على الهواء مباشرة لأتفق مع نظرية “البطة العرجاء”. الرئيس بالفعل يتحرك كرجل أكبر سناً تتباطأ خطواته وتتعثر في فمه الكلمات، وهي الصعوبات التي تضيف بالسلب إلى حقيقة تاريخية تؤكد أن الرئيس الأمريكي لا يكون في العام الأخير من حكمه في المستوى اللائق أو المعتاد بسبب الحذر الشديد الذي يتوخاه تفادياً للوقوع في زلات لسان أو أخطاء تكلفه الفشل في التجديد لولاية ثانية. توقع تكرار هذه الظاهرة في الأيام القادمة ربما أوحى لمتابعي السياسة الدولية وبوجه خاص السياسة الخارجية الأمريكية بأننا إزاء فترة تتغلب فيها أسباب الملل على أسباب الاستمتاع والتلهي.
ثانياً؛ تلكأت الحرب الأوكرانية في تحقيق نتائج حاسمة. بمعنى آخر، فقدت الحرب بريقها بعد أن هدأ أوارها وانكشفت أسرارها وبخاصة أسرار نشوبها، وبعد أن خفت وميض المفارقة المثيرة التي صنّفتها حرباً بين دولة عظمي ودولة صغيرة. المسئول عن هذه المفارقة هو الإصرار الأمريكي على أن يبقي هيكل النظام الدولي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية على حاله. كانت روسيا في ظله دولة ترفل في مزايا الدولة العظمى، ثم فقدت مع الوقت مكانتها كقطب ثان ولم تفقد مكانها في مجلس الأمن وكثير غيره من مؤسسات النظام وحافظت الولايات المتحدة عليها خصماً وعدواً على مستوى لا يُهدّد هيمنتها بل يضيف لها، وسمحت لها بالاحتفاظ بثروتها من القنابل النووية. كان المتوقع، والمخطط له خلال سنوات الإعداد لهذه الحرب، أن تتغلب أوكرانيا في وقت قصير اعتماداً على دعم حلف الأطلسي. كلاهما، روسيا وأوكرانيا، تلكأتا فأضاعتا وهج الفرصة. صارت الحرب خبراً روتينياً برغم جهود خارقة من جانب القوة الإعلامية الغربية ومن جانب مظاهرات الدعم من جانب حكومات دول الاتحاد الأوروبي، هذه الحكومات التي راح أغلبها يرهن الحاضر والمستقبل معاً على آمال لم تتحقق.
حدث مع هذه الحرب ما يحدث عادة مع حروب تحوّلت إلى روتين. صارت مملة، ولدفع الملل يشغل الناس وقتهم بالبحث في أسباب وظروف نشوبها. عدنا نسمع عن السيدة أنجيلا ميركل التي وقفت ضد حملة الولايات المتحدة ودعوتها في عام 2008 وبالتحديد في مدينة بوخارست لضم أوكرانيا للناتو وهي الحملة التي وصفتها ميركل أنها كانت بمثابة إعلان حرب على روسيا. نسمع أيضاً أن قيادات عسكرية أمريكية حذرت في ذلك الحين من مغبة الاستمرار في سلوك هذا الطريق. تشاء الظروف أن يأتي جو بايدن رئيساً لأمريكا وهو المعروف دائما بتعاطفه مع أوكرانيا.
لا جديد في أن صورة أمريكا اهتزت في نظر بقية دول العالم، ولا جديد في أن أوروبا علي حالها لا تتغير، ولا جديد في أن اليابان دخلت مؤخرا مرحلة ركود اقتصادي، ولا جديد في أن الصين صارت في حاجة إلى استثمارات أجنبية، ولا جديد في أن العلاقات بين أمريكا والصين في أسوأ حالاتها
ثالثاً؛ قبل أيام قليلة كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يجول الصين برفقة رئيسها شي جين بينج داعياً إلى تعاون روسي ـ أوروبي بينما كانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين تُهدّد من بكين حكومة الصين بعقوبات ومقاطعة لو ثبت أنها تدعم روسيا في حربها ضد أوكرانيا. يعني هذا أن الرئيس الحالي لأوروبا والرئيسة الحالية للمفوضية يعلنان موقفين متناقضين تجاه الصين. لم يكن في الأمر توزيع أدوار متعمد بل كان كما اتضح لاحقاً صورة متكررة عبر التاريخ عن أوروبا غير القابلة للوحدة، أوروبا المنقسمة دائماً على ذاتها. بمعنى آخر، لا جديد يمكن توقعه من أوروبا بل التكرار الممل لسياساتها الداخلية والخارجية على حد سواء. ما أشبه ماكرون بشارل ديجول وما أشبه العلاقات البريطانية الأوروبية الراهنة بعلاقاتهما في سالف الأزمنة وما أشبه طموحات روسيا البوتينية بروسيا القيصرية وإن اختلفت الأيام والظروف.
رابعاً؛ لم يكن النظام الدولي، وأقصد مجمل تفاعلات الدول وأدائها وأداء مؤسسات النظام، لم يكن في أي مرحلة على هذه الدرجة من الضعف. الدولة القائد مشتتة الانتباه والتركيز، وهي فوق هذا تبدو للآخرين منهكة القوى. تعدّدت في نظر خصومها مظاهر التهديد لسلامتها، من هذه المظاهر على سبيل المثال وليس الحصر، مسيرة الدولار الراهنة ومستقبله، منها أيضاً ظواهر عديدة تشير إلى تصدع اجتماعي كانتشار جرائم القتل الجماعي والفساد الضارب في إدارات الدولة، ومنها الأزمة المالية وتجاوز الدين العام لكل الحدود المقبولة، ومنها احتمال العودة للوقوع مرة أخرى في براثن حكم يقوده دونالد ترامب والتهديد الذي يمثله هذا الاحتمال لاستمرار الديموقراطية والتوازن بين السلطات منهاجاً وعقيدة. أضف إلى هذه المظاهر حقيقة صارت ماثلة أمام معظم حكام العالم النامي وهي أن الولايات المتحدة لم تكن أمينة على مسئولياتها تجاه شعوب هذه الدول، إذ مارست التخريب بل والتدمير بحرية. أعلم أن كثيرين من قادة العالم النامي صاروا يتذاكرون في مؤتمراتهم وقائع ومآسٍ تسببت فيها سياسات أمريكية منها ما تضررت منه ضرراً جسيماً دول مثل العراق وفيتنام وشيلي وفنزويلا وفلسطين.
خامساً؛ الزيادة الكبيرة في معدلات الهجرة الجماعية كعلامة من أهم علامات ضعف النظام الدولي. لا يختلف إثنان بين خبراء العلاقات الدولية على الاعتراف بأن ما نشهده في هذه الأيام من زيادات مكثفة وكبيرة في عدد وأنواع الهجرات الجماعية إنما دليل واقعي على انهيار في فعالية القوى القائدة في النظام الدولي الراهن. يشهد التاريخ على زيادات مفاجئة في الهجرة الجماعية خلال أو في أعقاب كوارث طبيعية كأزمات المناخ أو إنسانية كالحروب، يتصادف في الوقت نفسه تقلص إرادات القوى الرئيسة في النظام لضعف في القوة الذاتية أو لفوضى في العلاقات الدولية والإقليمية. لا جدال في أن الأوضاع الدولية الراهنة في مجملها تقدم النموذج الأمثل على العلاقة المتبادلة في زمن الأزمات والكوارث الطبيعية بين موجات الهجرة المكثفة من دول الشرق الأوسط وإفريقيا وتدهور العلاقات بين فرنسا وبريطانيا وبين إيطاليا وفرنسا وبين عديد دول شرق ووسط أوروبا، وعلى الناحية الأخرى الموجات الجديدة المتوقعة خلال الشهور القادمة من هجرة شعوب أمريكا الجنوبية إلى الولايات المتحدة. لا جديد هنا في نظر خبراء السياسة الدولية عن علاقات الهجرة بحال النظام الدولي السائد، معذورون إن اشتكوا من الملل.
***
ولا جديد في أن صورة أمريكا اهتزت في نظر بقية دول العالم، ولا جديد في أن أوروبا علي حالها لا تتغير، ولا جديد في أن اليابان دخلت مؤخراً مرحلة ركود اقتصادي، ولا جديد في أن الصين صارت في حاجة إلى استثمارات أجنبية، ولا جديد في أن العلاقات بين أمريكا والصين في أسوأ حالاتها ومستمرة في التدهور سواء تولى ترامب الحكم أو استمر بايدن رئيساً، ولا جديد في أن النظام الإقليمي العربي يبدأ مرحلة اختيار بين أن يعتزل لصالح نظام أرحب في إمكاناته وتحدياته وبين أن ينتفض ويعيد ترتيب كافة أوراقه وأرصدته القومية والقطرية على حد سواء سعياً لبعث جديد.