

دخلت الحرب “الإسرائيلية” على إيران يومها الرابع وسط تقلب في المواقف السياسية المؤثرة في هذه الحرب وفقا لتقلب مؤشر الاشتباك، ولكن الثابت فيها حتى الآن هو موقف طرفيها، فالقيادة “الإسرائيلية” بنت على نجاح هجومها المباغت فجر يوم الجمعة الفائت ضد أهداف لا تتوقف عند تدمير برنامج إيران النووي بل تصل أيضاً إلى حد الاطاحة بالنظام الإيراني، فيما إيران، كما يُبين، تطور مسار الحرب أظهرت تعافياً سريعاً من ضربة يوم الجمعة القاسية التي خسرت فيها قيادات عسكرية وأمنية من الصف الأول إضافة إلى عدد من العلماء النووين المخضرمين وتضرر منشآت نووية عدة.
ظهرت بواكير التعافي الإيراني بعد أقل من 12 ساعة من الهجوم “الإسرائيلي” المباغت، بتعيين قادة جدد مكان من استشهدوا من جهة واطلاق حملة صاروخية متدحرجة، كماً ونوعاً وأهدافاً، بلغت نيرانها ليس فقط المنشآت العسكرية والأمنية “الإسرائيلية” الحيوية بل وصلت إلى قلب تل أبيب عاصمة الكيان وتسببت بأضرار لم تكن لا القيادة “الإسرائيلية” تتخيلها ولا أحد آخر في العالم. كل ذلك يطرح أسئلة كثيرة حول ماهية الدور الأميركي في الحرب وما يمكن أن تؤول إليه من نتائج، كما عن أدوار حلفاء إيران.
شبكات تخريبية بالجملة!
لا بد من تسليط الضوء أولاً على طموحات “إسرائيل” في هذه الحرب. فكما هو معروف، لا يتموضع البرنامج النووي الإيراني في جغرافية واحدة، كما أن مواقعه تكتسب نوعين من التحصين؛ الأول، تحت جبال صخرية عالية لا تملك “إسرائيل” القدرة النارية على اختراقها (حتى أن أميركا ثمة علامات استفهام حول امتلاكها هذه القدرة) كون هذه الجبال يتراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين ألفين وخمسة آلاف متر. أما التحصين الثاني فهو الأنفاق المموهة والمتعددة المداخل والمخارج لهذه المواقع ناهيك عن شبكة دفاع جوي (أثبتت تطورات الحرب عدم جدواها). من هنا يُصبح الطموح “الإسرائيلي” بالقضاء على البرنامج النووي الإيراني غير قابل للتحقيق، وأقصى ما يمكن تحقيقه هو خلق تأخير بعض جوانبه.
أما الطموح “الإسرائيلي” الأبعد والأكثر استراتيجية، والمتمثل بضرب النظام الإسلامي في إيران، فقد أظهرت الأيام الثلاثة الأولى من هذه الحرب أن لا صوت يعلو في إيران فوق صوت الانتقام لهيبة إيران الدولة صاحبة التاريخ الامبراطوري، وكان الصوت النشاز الوحيد هو صوت نجل شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي الذي لم يعد يملك من يقرأ تصريحاته في إيران. ومن يعرف إيران جيداً يُدرك أن التعددية السياسية الموجودة فيها تقع كلها تحت سقف تأييدها للنظام الاسلامي، وبالتالي لا وجود لقوة معارضة منظمة ضد هذا النظام بالرغم من الحالة الشعبية المنادية بتخفيف القبضة المتشددة اجتماعياً للنظام على الحياة اليومية للناس.
ومن اللافت للانتباه أن القوة المعارضة الإيرانية المنظمة الوحيدة هي “منظمة مجاهدي خلق” التي لها قاعدة في ألبانيا يتواجد فيها نحو ألفي مقاتل، وقد التزمت الصمت ولم تُعلق حتى الآن على الهجوم “الإسرائيلي” على إيران، لكن ثمة تقديرات إيرانية أن ما حقّقه “الموساد” الإسرائيلي من اختراقات في الداخل الإيراني وأدى إلى تصفية معظم القيادات العسكرية والأمنية وعدد من العلماء من خلال عمليات اغتيال مركبة (مسيرات وعبوات وصواريخ إلخ..) “ما كان ليحصل لولا وجود شبكات تخريبية، ولا سيما بعض المجموعات التي تبين أنها تنتمي إلى تنظيم مجاهدي خلق”.
ويشي التاريخ الإيراني الحديث أن تغيير النظام في إيران يتم إما بانقلاب عسكري، كما حصل في أواسط خمسينيات القرن الماضي عندما أطاح الجيش (بدعم أميركي) بحكومة الإصلاحي محمد مصدق وأعاد الشاه محمد رضا بهلوي إلى الحكم، وإما بثورة شعبية منظمة كما حصل في العام 1979 بقيادة آية الله الخميني. حالياً لا وجود لقوة شعبية إيرانية منظمة قادرة على تنفيذ “ثورة”، ولا تفسخات من أي نوع كانت داخل بنية الجيش الإيراني ورديفه الحرس الثوري تفتح الباب أمام اية محاولة للانقلاب على النظام الحالي. صحيح أن إيران شهدت في ربع القرن الأخير العديد من مواسم الاحتجاجات، لكن لم يصل أحدها في ذروته إلى حد تشكيل خطر على النظام.
إيران تساوي “إسرائيل” 70 مرة!
إذاً، على ماذا يُراهن رئيس الحكومة “الإسرائيلية” بنيامين نتنياهو لمواصلة هذه الحرب؟
لقد بنى نتنياهو كثيراً على نتائج الضربة “الإسرائيلية” الأولى والمفاجئة للقيادة الإيرانية، لكن تطورات الساعات والأيام الماضية أظهرت أن “إسرائيل” منفردة لا تستطيع تحقيق انتصار حاسم على إيران، فالجغرافيا عدو لدود لها أولاً وموقف حليفها الأميركي ما زال متردداً حتى الآن ثانياً. وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً، نُلاحظ أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان يعيش نشوة النصر في الساعات الأولى للحرب ويتحدث بفوقية عن إيران قائلاً إن الضربة “كانت أكثر من ممتازة وفاقت انجازاتها كل التوقعات”، فيما تصريحاته اليوم تقول إنه لا بد من العودة إلى طاولة المفاوضات.
ولا يجب أن يغيب عن بالنا أن الولايات المتحدة وإن كانت ملتزمة بالدفاع عن أمن “إسرائيل” وتقديم العون الدفاعي لها في مواجهة الصواريخ الإيرانية غير أن ترامب يبدو متردداً في الانتقال من الدفاع إلى المشاركة المباشرة والعلنية في الهجوم على إيران، لما في ذلك من تداعيات على أمن قواعده وبوارجه في المنطقة وعلى الوضع الاقتصادي العالمي الذي يُمكن أن يتضرر بفعل أية حرب اقليمية. وهنا يمكن اختصار موقف ترامب بأنه أعطى الضوء الأخضر لنتنياهو لشن هذه الحرب ضمن ضوابط عدم مشاركته الهجومية فيها، فإن انتصر نتنياهو يكون ترامب شريكاً في النصر وإن هُزم نتنياهو فإنه يكون المهزوم الوحيد. لا يمنع ذلك من القول إن الولايات المتحدة ليست صاحبة مصلحة في أية مواجهة تكون إيران منتصرة فيها مقابل إسرائيل مهزومة.
هنا نصل إلى دور الجغرافيا في هذه الحرب. عند المقارنة بين جغرافية فلسطين المحتلة وجغرافية إيران، يتبين لنا أن مساحة فلسطين المحتلة ومن ضمنها قطاع غزة والضفة الغربية تبلغ 27072 كيلومتراً مربعاً تحتل “إسرائيل” منها 20770 كيلومتراً مربعاً. ويبلغ عدد سكانها حوالي تسعة ملايين نسمة، بينهم قرابة مليوني فلسطيني من حاملي الجنسية “الإسرائيلية”، علماً أن أغلبية هؤلاء متمسكين بانتمائهم لفلسطين. وتبلغ المسافة بين أقرب نقطتين بين إيران وفلسطين المحتلة 1738 كيلومتراً. في المقابل، تبلغ مساحة إيران مليون وأكثر من 600 ألف كيلومتر مربع (مساحة محافظة طهران وحدها تكاد تساوي مساحة الكيان العبري) ويبلغ عدد سكانها حوالي 85 مليون نسمة (50% من الإيرانيين تحت سن الثلاثين).
الكرة في ملعب ترامب
تملك “إسرائيل” نقطتي قوة أساسيتين هما تفوق سلاحها الجوي وقدرتها على اقامة بنى تحتية أمنية داخل إيران، لكن لنقطة القوة الأولى محدوديتها، إذ ليس من السهل أن تُرسل سرباً من الطائرات الحربية كل هذه المسافة بين البلدين وممارسة مناورة جوية معقدة فوق إيران وعودة هذا السرب إلى قواعده من دون التزود بالوقود جواً، ناهيك عن الكلفة المالية الباهظة لكل رحلة، ومن المعروف أن “إسرائيل” لا تملك طائرات لتزويد مقاتلاتها الجوية بالوقود جواً وهي تستعين بحلفائها (أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وايطاليا) لتأمين هذه الخدمة، لذلك فان استمرارية سلاح الجو لديها بالقيام بغارات على إيران سيكون قصير الأمد إلا إذا قدّمت بعض الدول المجاورة لإيران تسهيلات جوية للتزود بالوقود في قواعد عسكرية على أرضها.. وهنا تكون ثمة مخاطرة في جر هذه الدول إلى الحرب مع إيران.
في مقابل ذلك تعمل إيران على تعويض الضعف في قدرات سلاحها الجوي ودفاعاتها الجوية بالاستناد على سلاحها الصاروخي البعيد المدى والذي على الرغم من كل القدرات المتوفرة لـ”إسرائيل” في التصدي له، فإنه حقّق اختراقاً لهذه القدرات وتمكن من ضرب قلب تل أبيب بصواريخ مدمرة. ومن خلال الأيام الثلاثة المنصرمة من المواجهات برز خط الصواريخ الأكثر أماناً هو المتجه عبر العراق نحو سوريا ولبنان ومنها إلى فلسطين المحتلة، فلا دفاعات جوية لـ”إسرائيل” وحلفائها في هذه الدول فيما الدفاعات الجوية في شمال فلسطين غير كافية للتصدي لوابل الصواريخ الإيرانية حتى مع الاستعانة بسلاح البحرية واطلاق صواريخ مضادة للصواريخ من المياه الدولية المقابلة للمياه الإقليمية اللبنانية.
ومن خلال هذه المقارنة البسيطة، يُمكن القول إن “إسرائيل” لا تستطيع مواصلة حرب استنزاف طويلة الأمد مع إيران على هذا المنوال ما لم تحصل على مساعدة مباشرة في هجماتها الجوية، وقد أعلن مسؤولون أميركيون أن “إسرائيل” طلبت من الإدارة الأميركية منذ اليوم الثاني للحرب المشاركة في الهجوم على إيران لكن حتى الآن لا نية لدى البيت الأبيض للتجاوب مع هذا الطلب. في المقابل، باستطاعة إيران مواصلة الحرب على هذا المنوال إلى أمد طويل، ولديها تجربة غنية في هذا المجال من خلال الحرب العراقية عليها بين العامين 1980 و1988 حيث تعرضت طهران ومعظم المدن الإيرانية لقصف جوي عراقي عنيف في ظل ضعف الدفاعات الجوية لديها في ذلك الحين أيضاً.
استنتاجاً لما سبق، لا يملك نتنياهو سوى حبل خلاص وحيد، وهو استعداد الولايات المتحدة للانخراط في الحرب بكل قدراتها مع ما يرافق ذلك من تداعيات على الأمن الاقليمي لا سيما بعد أن بدأت الصين، بطريقة ناعمة، تمد يد العون لإيران (نشرت بعض وسائل الإعلام أن الصين أرسلت جوا مساعدات عسكرية عاجلة إلى طهران لم يكشف عن ماهيتها)، كما كان لافتاً للانتباه موقف الباكستان الداعم لإيران وذلك من باب رد الجميل لها في مساعدة باكستان خلال مواجهتها مع الهند خلال الشهر الماضي، وصحيح أن باكستان دولة فقيرة غير أنها دولة تملك سلاحاً نووياً ولذلك يمكن أن يكون لهذا الأمر الكثير من الاعتبارات.
في الخلاصة، الكرة في ملعب دونالد ترامب: إما أن يُقدّم اقتراحاً مقبولاً من إيران لوقف اطلاق النار والعودة إلى المفاوضات النووية مع إيران بطموحات أقل من تلك التي كانت لديه وبذلك ينزل نتنياهو عن شجرة عجرفته وإما أن يجن ترامب مع حليفه نتنياهو ويذهبا سوية إلى حرب مفتوحة تُهدّد الأمن والاستقرار ليس فقط في الشرق الأوسط بل في العالم أيضاً.