فبركة الحقيقة في معامل السلطة

في كل بنية اجتماعية تُنتج طمأنينتها داخل جهاز الدلالة، لا تكون السلطة مجرد بنية تشريعية أو آلة أمنية، بل منظومة تنظيم إدراكي تعمل في اللاظاهر، حيث تتسرب في اللغة، في الصور، في اللحن العابر، في ترتيب الكراسي، في مضمون اللافتة، في موقع اللوح داخل الصف، في ما يُقال إنه لا يحتاج إلى شرح.

إن ما يُسمى “وعيًا” هو نتيجة تعاقد حر بين الذات والحقيقة، ونتيجة هندسة خطابية ناعمة تترسّب عبر العادة، وتُقنِّن تلقّي العالم ضمن شروط تمنع السؤال قبل أن ينشأ.

الأفكار الزائفة تُقحم على الذهن، وتُنشّأ فيه كما تُنشّأ البنية العضلية على الاستخدام المتكرّر، فهي تدخل بوصفها صدمة عقلية وسلوك لغوي يمرّر نفسه عبر تكرارٍ مشبّع بمؤشرات التلقين. لا تحتاج الفكرة الزائفة إلى منطق، بقدر ما تحتاج إلى شبكة تلقي قادرة على احتضانها دون مقاومة، في نظام لا ينتج القناعة بل يحاكيها بوسائل تعويضية: التكرار، التواطؤ الشعوري، القبول الجماعي، واختزال الحق إلى ما هو مُرضٍ.

في هذا السياق، يتحوّل التعليم إلى أداة ضبط ناعم تستهدف إنتاج الفهم، وإعادة تمثيل الخطاب المُسيطر، بحيث يصبح التلميذ الجيّد هو الذي يعيد بثّ ما لُقّن له على اللوح، لا الذي يطلب تجريبًا أو ارتيابًا. وهكذا يُعاد تشكيل الفرد بوصفه ذاتًا فاعلة وحلقة في تسلسل بثّ مشفّر، جزءًا من ماكينة إدراكية تُكرّر ما كُتبَ لها أن تُعيده، وما يُسمى فهمًا ليس إلا براعة في أداء الصيغة.

الإعلام، في هذه البنية، لا يُنتج الواقع، بل يُعيد إخراجه بصيغة قابلة للتداول السياسي: الحذف، الترتيب، الضوء، الزاوية، كلها أدوات لبثّ الخبر ولإعادة إنتاج الشرعية. ما يُعرض على الشاشة ليس ما وقع، بل ما يُراد للجماعة أن تعتقد أنه وقَعَ، لا بما يُوافق الحقيقة بل بما يَدعم البنية السياسية المُهيمِنة. الانحيازات المعرفية التي تُوصف في علم النفس كسهو أو خطأ، هي هنا أجهزة دفاع أيديولوجية تُفعّل تلقائيًا لحماية الجسد الجماعي من الأسئلة التي تفتح على الهاوية. الجماعة لا تسأل: هل هذا صادق؟ إنها تسأل: هل هذا يُبقينا موحَّدين؟ وهكذا يُعامَل الشك كخطر رمزي، ويُعاد تعريف التفكيك كنوع من الانحراف السلوكي، بينما يُصنَّف النقد كتهديد مباشر للأمن الإدراكي. وكلما ضعفت الفكرة، تضاعف تكرارها، وكلما بدا النظام هشًا، ارتفعت أصوات المؤيدين له في المذياع واللوحات والمناسبات.

قابلية التصديق لا تأتي من صلابة المنطق، بل تنشأ من تشبّع الفضاء العام باللازمة الإيقاعية للفكرة: تُذاع، تُغنّى، تُلقّن، تُطبع، تُعلّق، تُتلى، وتُقدَّس. لا يعود العقل الفردي هنا جهاز اختبار، إنما يتحوّل إلى مستقبل نشِط للبثّ الجماعي. كل لحظة تفكير تُعامَل كاشتباه في الانتماء، كتأمل نقدي، وكعرض جانبي لخلل في العقيدة الجماعية.

السلطة، في هذا النسق، لا تتجلى كقوة صريحة، إنما تأتي متخفّية في هيئة العُرف. تفرض حضورها عبر الصراخ، وعبر التكرار الهادئ، ولا تتكلم بلسانها، بل بلسان “ما يجب أن يكون”.

أما السياسة، فتبدو، في هذا الإطار، استمرارًا لصدى سابق على كل قرار، سليلًا لجهاز إدراكي لا يُسائل ذاته لأنه لا يتخيّل غيره. الأفكار لا تُعمَّر بسبب قوتها العقلية، بل لأنها قابلة للاستخدام، مرنة بما يكفي لتُستنسخ، تُدرَّس، تُبثّ، تُرسم، تُعلن، وتُسوَّق، وتُعاد صياغتها في النكتة كما في البيان، في اللغة كما في الحفل الوطني. وهكذا، تتفوق على الحقيقة من خلال الإقناع، والأهم من خلال الحضور الكثيف، وتُكتسب شرعيتها لقدرتها على الخدمة: خدمة الجماعة، خدمة السلطة، خدمة السوق، وخدمة النظام السياسي الذي يعيش من الإجماع أكثر مما يهاب الجهل.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  تحديات وتحولات عالمية.. و"الدولة العربية" مؤجلة!
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  أيها الفلاسفة والحكماء: هل نحن حقاً من هذا العالم؟ (2)