من غزة إلى بيروت.. التنازع بين الشرعي والمشروع!

في هذه الحقبة اللبنانية والعربية التاريخية، يُركّز الناشطون السياسيون على التمسك بمفهوم الدولة، في مرحلة أصبحت فيها الأرض مهددة بتغيير حدودها، والشعب لم يعد مكوِّناً متناغماً، وثمة متغيرات في معايير السلطة وعناصرها وأدواتها. أما السيادة فأصبحت مرنة إلى حد الانكشاف السياسي والأمني والإقتصادي إلخ..

يتجلى التغيير الحالي في رسم الأنظمة بفكرتين أساسيتين بدأ تداولهما خلال عام الإبادة المستمرة على غزة، الأولى؛ “النظام القائم على القواعد” أو ما يُعرف بالـ (Rules based order)؛ العبارة التي كرّرها الرئيس الأميركي جو بايدن في خطاباته بدلاً من “حكم القانون” السائد في أدبيات مشاريع المنظمات غير الحكومية، والثانية؛ مبدأ “تشارك السلطات” حيث بدأت دراسة هذا المفهوم من خلال شراكات أكاديمية مع منظمات محلية ودولية باعتبار لبنان نموذجاً يمكن تعميمه على الدول المحيطة التي عاشت حروباً طويلة. عن أي نظام وأية قواعد وأية سلطات نتحدث؟

إذا نظرنا إلى التغيرات التي شابت العشرين عاماً المنصرمة من هذا القرن، ولا سيما مع طرح مبادرة “الأرض مقابل السلام” (قمة بيروت العربية عام 2002)، بينما كنا نشهد ترجمة لمفهوم آخر هو “الرفاهية مقابل السلام”، يمكننا ملاحظة الآتي:

أن السلطات المعنية بالتشارك، لم تعد تعني بالضرورة السلطات الرسمية الدستورية المرتبطة بالهيكلية القانونية للدولة، بل أصبحت تتناول سلطات واقعية ذات تأثير في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للأفراد.

إذ إضافة إلى التقليدية منها، نلحظ القوى الاقتصادية العالمية باستثماراتها المختلفة ودور التكنولوجيا الرقمية في ادارة المجتمع وفرض مرجعيات جديدة غير مرتبطة بالدول كمؤسسات ناظمة، وغير معنية أصلاً بمواقف الدول بل على العكس تفرض نفسها وشروطها وأدواتها عليها. وليس مستغرباً ظهور هذه التكنولوجيا في الحروب، في هذه المرحلة التحولية بالتحديد، في إشارة واضحة إلى الانتقال إلى مرحلة جديدة بكل مقاييسها وأنظمتها.
وفي مقابل هذه القوى الجديدة، الاقتصادية والتقنية، تبلورت أدوار فاعلة في الحقبة الزمنية نفسها، لمنظمات المجتمع المدني وبرامج مختلفة يتم تنفيذها من خلال مؤسسات الدولة والمؤسسات الأكاديمية العامة والخاصة. تبنت هذه المشاريع أدبيات مستوردة-معولمة وأهدافاً نفعية لا يمكن تجاوزها.

نضيف إلى هذه القوى المختلفة، قوى محلية ذات طبيعة فئوية وقبلية تقليدية، وجماعات ذات طبيعة مستحدثة على غرار الجماعات التي تجد نفسها متقاربة حول قضايا منبثقة عن التوجه الجديد لحقوق الإنسان عالمياً.
هذه الأدوات وهؤلاء الفاعلون يبحثون في ما بينهم عن أطر ناظمة مرنة تقابلها الوسائل البديلة لحل النزاع وكل هذه الأطر تعرف بالقواعد والحلول اللينة التي تتجاهل وجود مؤسسات الدولة والقواعد والقوانين الصادرة عنها.
يتقاطع طرح هاتين الفكرتين (تشارك السلطة والنظام القائم على القواعد)، مع التحولات التي فرضت نفسها على العالم لناحية الطبيعة النيوليبرالية التي تتبلور في مبادئ المرونة والتشاركية، أو الشراكة الثلاثية الأبعاد بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني كنموذج جديد للديموقراطية، والدور الناظم للدولة، والفردية المطلقة، ومبادئ المنافسة واطلاق العنان لقواعد السوق ومنها سوق القوانين، والتركيز على المؤسسات القوية (أمن وقضاء إلخ..) في تغييب واضح لمعنى القوة وفاعلية دورها. هذه المعايير حلّت محل الدولة القوية ودولة الرعاية والنمط الاجتماعي لحياة الأفراد.

هكذا يلهث ناظمو المجتمع على اختلاف هوياتهم (عام أو خاص او مدني) وراء الاعتراف والعرفان من المؤسسات العالمية بوجودهم، رغبة في التشارك في السلطات التي ستنشأ في المرحلة القادمة المفترضة، وتبقى الشعوب تتلقى آثار هذه المنافسة وتقدم التضحيات بغية تقرير مصيرها

الحقوق المشروعة والأنظمة الشرعية

لعل مفتاح التغيير الأساسي يكمن في تحول القانون ـ بما يعنيه من قواعد صلبة رادعة وحامية ـ من ضابط لهذه المصالح المتنازعة إلى عنصر من عناصر التنازع. إذ لم يعد القانون رادعاً وهو ما ثبت في ظل حرب غزة المستمرة وأصبحت القوة النووية وتهديد مصادر الطاقة هما من أبرز عناصر الردع بين الدول.

كان للقوى الناعمة (منظمات المجتمع المدني والبرامج الأكاديمية والتربوية) الدور الأساس في ترويج هذه المفاهيم. وقامت مبادرات ومشاريع هذه القوى على تبني نظم مرسومة سلفاً، متعلقة بقواعد الإدارة الذاتية والمرونة والتكيف (resilience) بدلا من الانتظام العام والصمود والمواجهة. واستبدلت القوانين بقواعد (rules) مرنة ترتبط بمعايير ذاتية تخضع للتقدير والمفاوضة والمفاضلة. وعلى امتداد العقدين الأخيرين، تم تخصيص ثروات لـ”برمجة” الأفراد على مفهوم الاستدامة استفادت من الشراكات المحلية والعالمية، ولم تحقق هذه البرامج مشروعاً مستداماً واحداً يُمكّن الأفراد من مواجهة الأزمات ومخاطرها، التي يفترض أن “يتكيفوا” معها.
في مواجهة هذا الرسم التوصيفي، نراجع كيف تجلت هذه التحولات في معالجة الحرب القائمة بين “الدولة” الإسرائيلية وشعوب المنطقة، في وقت تقف الأنظمة العربية في موقع المتلقي والمنفذ.

نلحظ التضارب بين الحقوق المشروعة والأنظمة الشرعية. وذلك في طبيعة الصراع بين ما يتمسك به النظام العالمي من حقوق للدولة الصهيونية للدفاع عن نفسها بكل الوسائل غير الشرعية، وبين اتهام حركات المقاومة بالإرهاب وهو مفهوم غير “مشرع” بموجب القوانين الجنائية الدولية. وفي كلا الحالتين نحن أمام أطر مرنة غير قابلة للضبط والحسم. وفي الوقت نفسه، لا يمكننا أن نتجاهل أن الأسس القانونية الثابتة قد تحجمت وغاب دورها في ضبط سلوك الدول ومواقفها.

فإذا كانت شرعية الحقوق هي المبنية على القوانين التي انبثقت عن الدول، فإن مشروعية الحقوق (في معاييرها المرنة) تفسر على قياس المصالح، وكأن الصراع الدولي الحالي مبنيٌ على الاستفادة من هوامش هذه الضبابية لحين الانتهاء من هذه المرحلة، قبل البدء في مخطط إعادة رسم العالم والمنطقة، مع قوى جديدة وأطر جديدة ونظم جديدة.

إقرأ على موقع 180  حراكٌ لافتٌ في الشرق الأوسط.. حربٌ أم سلام؟

فمن ناحية، وبرغم أن الدفاع المشروع في تحديد أبعاده القانونية يتطلب توازناً بين الفعل ورد الفعل، ولا ينطبق على علاقة الدولة المحتلة مع الشعب الخاضع للاحتلال، الذي يستفيد قانوناً من حق المقاومة، نجد أن الدول المعنية في تفعيل هذه المعايير في مؤسسات الأمم المتحدة تضرب عرض الحائط بكل الأسس القانونية التي بنيت عليها هذه الحقوق.

ومن ناحية ثانية، وبرغم إلتزام المقاومة باحترام مبادئ القانون الدولي منعاً لخضوع أعمالها للجرائم المصنفة، اتهمتها إسرائيل ورعاتها الغربيين بالإرهاب وتبنت أنظمة عربية هذا التعبير.

التنازع بين الشرعي والمشروع

وبالعودة إلى مفهوم الإرهاب، نجده وصفاً لم يتم تعريفه بشكل واضح لتجريمه بموجب القانون الجنائي الدولي. فقد تم استخدام هذا الاتهام على طرف دون آخر، وهو ما زال شعاراً هجومياً تهويلياً لا يخضع لقوانين ناظمة واضحة، بينما تتجاهل الأنظمة الغربية كل الارتكابات الصهيونية التي تخضع، بشكل لا لبس فيه، لتوصيف الجرائم المحددة بنصوص واضحة، وهي جرائم العدوان وجريمة الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة.

وتنضوي قوى المقاومة في نضالها تحت مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، في وقت تحمي الأنظمة العربية نفسها خلف القواعد الشرعية الناظمة العلاقات الدولية ومصالح الدول. أما إسرائيل، التي تتجاوز كل أسس القانون الدولي، فهي تتمسك بحق الدفاع المشروع عن أمنها، هذا الحق نفسه لا يُعترف به للآخرين-المقاومة، بما أن السلطات التي يفترض أن تمثل هؤلاء الآخرين لا تنبث ببنت شفة. كما أن القانون الدولي لم يلحظ أن الدفاع المشروع يمكن أن يتناول الخطر المستدام-المستمر الذي يتمثل بالاحتلال والحصار والاستعمار، انطلاقاً من أن الدفاع المشروع مقر فقط للدول دون الاعتراف بها للشعوب، التي أعطيت حق تقرير المصير. فبقي معيار الاستدامة جزءاً من المفاهيم البيئية الاقتصادية الربحية دون ربطه بالعدوان المستمر وأثره وأضراره، كما هي حال غزة.

وفي هذا السياق، نلحظ أن التركيز على المصالح المشروعة المطروحة من قبل قوى المقاوِمة، التي يُشكّك في شرعيتها بما أن الممارسة لم تبنثق عن “سلطة شرعية” بالمعنى القانوني، يأخذ مشروعيته من الاحتضان الشعبي لهذه القضايا، بعد أن أدركت هذه الشعوب أن القوانين السابقة، لم تحقق الضمانات والحقوق التي اعلنت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. في حين أن الحقوق المشروعة المعلنة من الدولة الصهيونية تكتسب قوتها “الشرعية” من تبني الأنظمة لها. وهنا تطرح الإشكالية الأساسية حول عدم مشروعية هذه القواعد الشرعية وأن حكم الشعوب-على المستوى الدولي كما المحلي- يستخدم القانون لفرض سلطته بالقوة في غياب التبني الشعبي.

يبقى هذا التنازع بين الشرعي والمشروع هو التوصيف القانوني لخلفية الحرب، في بهتان دور المحاكم الدولية، وفي غياب طرح معاقبة إسرائيل تحت الفصل السابع لنظام الأمم المتحدة

أمام هذا الواقع للأنظمة والشعوب العربية، لعبت ايران، في دورها الفاعل، بحنكة على توازنات الشرعي والمشروع، بين حراكها الدبلوماسي والقانوني المؤسساتي في الأروقة الدولية، وبين دعمها لحقوق الشعوب وتحديد توقيت حراكها العسكري، وأعلنت على لسان المرشد الأعلى في خطبة الجمعة بتاريخ الرابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي باللغة العربية “حق الشعوب في الدفاع عن نفسها”. أما الدولة اللبنانية والسلطة الفلسطينية، فقد اكتفتا بلعب دور المنظمات غير الحكومية في البحث عن تمويل للاغاثة.. والبكاء على الخسائر والأطلال.

يبقى هذا التنازع بين الشرعي والمشروع هو التوصيف القانوني لخلفية الحرب، في بهتان دور المحاكم الدولية، وفي غياب طرح معاقبة إسرائيل تحت الفصل السابع لنظام الأمم المتحدة، ويبقى الحل الرادع معلقاً على الحلول الدبلوماسية المرنة بطبيعتها، والتي لا تفرض بالضرورة قواعد واضحة غير قابلة للتنازع لاحقاً.
هكذا يلهث ناظمو المجتمع على اختلاف هوياتهم (عام أو خاص او مدني) وراء الاعتراف والعرفان من المؤسسات العالمية بوجودهم، رغبة في التشارك في السلطات التي ستنشأ في المرحلة القادمة المفترضة، وتبقى الشعوب تتلقى آثار هذه المنافسة وتقدم التضحيات بغية تقرير مصيرها.
فإذا كانت الحقبة السابقة من نضالات الشعب الفلسطيني منيت بإحباطات من سلوك السلطات التي مثلتها في لعبة المصالح الدولية، فإن تطلعاتها في هذه المرحلة تتناتشها، ليس فقط الأنظمة الحاكمة، وانما أطراف متعددة متقلبة ومتغيرة شكلاً ومضموناً مع تطور منظومة المصالح.
هذه الصورة من العلاقات المتشابكة بين القوى ذات الطبيعة المختلفة، أصبحت نمطاً سائداً ومرجواً ـ ضمن هذا النسق العالمي- بين المصالح التجارية المحلية والدولية، وبين الأنظمة الحاكمة المحلية والدولية والمجتمع المدني المحلي والدولي. إلا أن دعاته يرفضون التشارك مع المقاومة من زاوية حرصهم على مؤسسات الدولة القوية، في وقت تهجّن مفهوم الدولة ومعيار قوتها وعناصر أركانها، وطبيعة دورها تجاه القاطنين على أرضها. أصبحت الدول العربية الفاقدة للمبادرة والدور، مجرد مدير ناظم لتلك المصالح المعترف بها، واحتفظت فقط بدور أمني-بوليسي رافض لتطلعات الشعوب التي تعيش في كنفها.

Print Friendly, PDF & Email
عزة ح. سليمان

أستاذة في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، بيروت

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  كمال الصليبي.. الإستعانة باللغة على المعنى (3)