

اللعبة التي تلعبها الصين في جوهرها بسيطة لكنها بعيدة المدى: إنتاج أكثر، تصدير أكثر، توسيع التجارة الخارجية مع دول أكثر، وتدريجياً تقليص دور “الدولار الأمريكي” في المعاملات العالمية.
قد يبدو هذا الطموح صعباً أو حتى مستحيلاً، لكن الأرقام تقول غير ذلك. ففي عام 2010، كانت الغالبية العظمى من المعاملات التجارية الدولية العابرة للحدود في الصين تتم بالدولار الأمريكي، مع نسبة ضئيلة باليورو. أما في منتصف العام 2025، فيتم تسوية نحو 52% من التجارة الدولية الصينية باليوان، العملة الوطنية للصين. هذا تحول جذري في أقل من 15 عاماً.
ولنأخذ روسيا مثالاً على هذا التحول. بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2022 وفرض عقوبات غربية عليها، بما في ذلك استبعادها من نظام “سويفت” العالمي، لم يكن أمام موسكو سوى خيار واحد: التحول إلى اليوان. ومنذ ذلك الحين، تتم أكثر من 90% من التجارة الثنائية بين الصين وروسيا بالروبل واليوان، وتبلغ قيمتها مئات المليارات من الدولارات سنوياً.
وها هي إيران تسير أيضاً في الاتجاه ذاته؛ ففي حزيران/يونيو 2025 وحده، اشترى الصينيون 90% من صادرات النفط الإيراني، من دون أن يلعب الدولار أي دور يُذكر في هذه المعاملات التجارية.
***
يقف العالم حالياً على أعتاب حرب عالمية اقتصادية، لا تشبه الحروب السابقة. الرئيس الصيني شي جين بينغ لا يُهدّد أمريكا بالصواريخ وحاملات الطائرات، بل بالسلع؛ بشبكة العلاقات التجارية وبقدرة صناعية هائلة يمكن أن تغمر الأسواق العالمية، وتربط مزيداً من الدول بالعملة الصينية
تتجه الأنظار الآن إلى أفريقيا، حيث تُعد الصين أكبر شريك تجاري لأغلب دول القارة السوداء بفعل ضخها استثمارات هائلة في العديد من الدول الافريقية في العقدين المنصرمين. وبالتالي ثمة منطق بسيط: لماذا تستخدم الصين عملة أجنبية وهي الشريك التجاري الأول لأكثر من 120 دولة حول العالم؟
الخطوة التالية للصين في تحركاتها لإزاحة الدولار تمثلت بإصدار ديون سيادية باليوان. هكذا، ستتمكن البلدان التي تقترض هذه العملة باستخدامها لشراء المنتجات الصينية، أو حتى للتجارة مع دول أخرى ضمن شبكة نفوذ الصين، من روسيا إلى إيران إلى عشرات الدول في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية..
هنا ينبغي القول إن المال ليس إلا “شبكة” (Network) ومن يملك العدد الأكبر من المستخدمين، سيملك القوة الحقيقية. قوة أمريكا كانت تتأتى من نظامها المالي: وول ستريت، البنوك الاستثمارية، أسواق السندات والأسهم، وشبكة الدولار التي كلها تُستخدم في كل زاوية من الاقتصاد العالمي. هذه الشبكة، المدعومة بثقة المستثمرين والمؤسسات، هي سلاح أمريكا الأكثر فتكاً. وإذا بدأت الولايات المتحدة تفقد مستخدميها لصالح شبكة اليوان، فإن أساسات الإمبراطورية المالية الأمريكية ستبدأ بالاهتزاز.
الولايات المتحدة تدرك الخطر الصيني جيداً؛ ولذلك يُمكننا أن نتوقع منها أن تفعل كل ما بوسعها لمنع توسع “شبكة اليوان”.
***
في أول ستة أشهر من هذا العام والتي دشّنها وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، اهتزت ثقة العالم بالدولار الأمريكي وتولدت حالة من عدم اليقين بين المستثمرين العالميين بعيدًا عن “العملة الخضراء”، الأمر الذي يُؤشر إلى بدايات تهديد الدولار ومكانته كأكثر العملات استخدامًا في التجارة العالمية، وهذا الأمر يُثير تساؤلات حول مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية رئيسية.
وكما ورد في جريدة “الفايننشال تايمز” مؤخراً، تراجعت قيمة الدولار مقابل سلة مكونة من ست عملات حوالي 15% منذ بداية العام. وقد تضافرت عدة عوامل لتقويض ثقة المستثمرين في الدولار بما فيها المخاوف بشأن تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع التضخم بسبب الرسوم الجمركية، إلى جانب تزايد القلق بشأن السياسة المالية الأمريكية وبخاصة بعد خفض “موديز” تصنيفها الائتماني الأعلى للبلاد، وبروز مخاوف من زيادة قانون “ضرائب ترامب” لاحتياجات التمويل، إلى جانب المخاوف بشأن استقلالية المصرف الفيدرالي وسط الانتقادات المتكررة التي يوجهها ترامب لرئيس البنك جيروم باول.
***
يقف العالم حالياً على أعتاب حرب عالمية اقتصادية، لا تشبه الحروب السابقة. الرئيس الصيني شي جين بينغ لا يُهدّد أمريكا بالصواريخ وحاملات الطائرات، بل بالسلع؛ بشبكة العلاقات التجارية وبقدرة صناعية هائلة يمكن أن تغمر الأسواق العالمية، وتربط مزيداً من الدول بالعملة الصينية.
هل يعرف شي جين بينغ كيف ستنتهي هذه الحرب؟
ربما يعرف؛ لكن المؤكد أن العالم سيدخل فصلاً جديداً من الصراع لا يُقاس النصر فيه بالدبابات أو العقوبات، بل بمن يهيمن على “شبكة المال العالمية”.. لننتظر ونرَ.