

على الرغم من أن معظم الدراسات تُركّز على نضال أساتذة جامعة طهران، يسعى هذا البحث للكشف عن قصة أوسع وأكثر تعقيدًا. يهدف إلى تسليط الضوء على كيفية امتداد هذه الحركة عبر المشهد الأكاديمي الإيراني بأكمله، لتشمل الجامعات الإقليمية والمعاهد المتخصصة والخاصة. إذ خاطر أساتذتها وطلابها بكل شيء لتشكيل رؤية بديلة لمستقبل إيران. لكن التساؤل الذي يُطرح هنا: ما مصير هؤلاء الأكاديميين بعد تحقيق التغيير الذي ناضلوا لأجله؟
وللإجابة على التساؤل كان لا بدّ من الاستناد على مجموعة واسعة ومتنوعة من المصادر الأولية والثانوية، وشملت سجلات أعضاء هيئة التدريس في جامعة طهران (من 1960 إلى 1979)، وملفات المراقبة والاعتقال من أرشيف الشرطة السرية الإيرانية (السافاك)، بالإضافة إلى مذكرات قادة سياسيين بارزين مثل مهدي بازرگان، وأبو الحسن بني صدر، وإبراهيم يزدي، لتقديم صورة شاملة لهذه الحركة العلنية – السرية.
كما اعتُمد على أرشيف الصحف الإيرانية المعاصرة في سبعينيات القرن الماضي، وبخاصة صحيفتي “كيهان” و”اطلاعات“، إلى جانب تقارير السفارات الأجنبية، ولا سيما الأميركية والبريطانية. واستعين بأطروحات الدكتوراه من جامعات غربية حول الثورة الإيرانية، وأرشيف الجامعات الإقليمية مثل شيراز ومشهد وأصفهان وتبريز لتوثيق مدى انتشار الحركة.
ولا مناص هنا من الإقرار بوجود تحديات منهجية كبيرة في توثيق هذه الحركة السرية، حيث كانت المعلومات عرضةً للإخفاء أو التلف المتعمّد من قبل “السافاك”. لذلك، نسعى إلى تقديم صورة شاملة قدر الإمكان من خلال تجميع شذرات من مصادر متعددة، بما في ذلك الروايات الشفوية التي تضيء على جوانب خفية من حركة الجامعات وأساتذتها وطلابها.
سياق الحرب الباردة ودور “السافاك”
جاءت معارضة الأكاديميين لنظام محمد رضا بهلوي في سياق تاريخي معقّد، حيث سعى الشاه إلى تحديث إيران وفق نموذج غربي مفروض من الأعلى. هذه السياسات، عرفت باسم “الثورة البيضاء“، والتي شملت إصلاحات زراعية ومنح حقوق التصويت للمرأة وإصلاحات تعليمية، لكنها قوبلت بمقاومة شديدة من المثقفين والأكاديميين، فقد رأوا فيها تهديدًا للهوية الإيرانية الأصيلة، وتغريبًا قسريًا يقطع البلاد عن جذورها الثقافية والدينية.
ومنذ تأسيسها في أوائل القرن العشرين، كانت الجامعات الإيرانية أرضًا خصبة للتخمر السياسي والفكري. وازدادت هذه الخاصية حدة خلال فترة الحرب الباردة، حيث تحولت هذه المؤسسات إلى ساحات للصراع الأيديولوجي بين التيارات السياسية المختلفة، من الليبراليين والماركسيين إلى الإسلاميين والقوميين. شكّلت هذه التيارات منابر فكرية داخل الجامعات، وقادت نقاشات حادة حول مستقبل إيران وهويتها، متحدية بذلك السردية الرسمية للنظام. الطلاب، الذين كانوا في طليعة هذه الحركات، لم يترددوا في التظاهر في طهران والمدن الأخرى، مطلقين شعارات قوية مثل “مرگ بر شاه” (الموت للشاه)، معلنين بذلك رفضهم العلني للاستبداد.
وكشفت ملفات “السافاك” عن حجم المراقبة والقمع الذي مارسته الأجهزة الأمنية ضد الأساتذة الجامعيين. لم يقتصر هذا القمع على النشاطات السياسية المباشرة، بل امتد ليشمل المحتوى الأكاديمي والبحثي، والعلاقات الشخصية، وحتى التفاعلات اليومية مع الطلاب والزملاء. كان المناخ الأمني الخانق يفرض جدارًا من الريبة، حيث أصبح الزميل مخبرًا محتملاً، وتحولت النقاشات الأكاديمية إلى فخاخ قد تؤدي إلى السجن أو الفصل.
ووفقًا لوثائق “السافاك”، كانت هناك شبكة واسعة من المخبرين داخل الجامعات، تضم طلابًا وموظفين إداريين وحتى بعض أعضاء هيئة التدريس. هذا المناخ من الخوف ساهم في تأجيج المشاعر المعادية للنظام بين الأساتذة والطلاب على حد سواء، ما دفع العديد من الأكاديميين إلى العمل السري أو اتخاذ أساليب “المقاومة الناعمة” كسبيل وحيد للتعبير.
المعارضة من طهران إلى الأقاليم
على الرغم من أن جامعة طهران كانت تحظى بالاهتمام الأكبر في دراسات المعارضة الأكاديمية، إلا أنها لم تكن الوحيدة. كانت الجامعة بمثابة النموذج الذي احتَذت به الجامعات الأخرى، إذ ضمت نخبة من الأساتذة المؤثرين في مختلف التخصصات. فمن خلال سجلات أعضاء هيئة التدريس للفترة 1960-1979، يمكن تتبع أنماط المعارضة وتطورها. كانت كليات الآداب والعلوم الإنسانية والحقوق الأكثر نشاطًا في المعارضة، بينما شهدت الكليات العلمية والطبية مستوى أقل من الانخراط السياسي المباشر.
ويمكن الحديث هنا عن أبرز الاتجاهات الفكرية في جامعة طهران:
- أبرز أعلام التيار الليبرالي الإسلامي:
- أولاً؛ مهدي بازرگان: كان أستاذًا للهندسة الميكانيكية وشخصية محورية تجمع بين الالتزام الديني والفكر الليبرالي. انتقد بشدة الاستبداد والفساد، ودعا إلى حكومة قائمة على مبادئ إسلامية ديموقراطية. أسّس حركة “حرية إيران” وسُجن عدة مرات ولعب دورًا قياديًا في الثورة، ليصبح أول رئيس وزراء بعد سقوط الشاه.
- ثانياً؛ الدكتور يدالله سحابي: كان أستاذًا للجيولوجيا وزميل بازرگان في حركة “حرية إيران”. لعب دورًا بارزًا في توجيه الطلاب نحو الفكر الإسلامي التقدمي الذي يمزج بين الأصالة والتحديث.
-
شريعتي ثالثاً؛ الشهيد الدكتور علي شريعتي: برغم أنه لم يكن أستاذًا متفرغًا في جامعة طهران، إلا أن محاضراته الكاريزمية في حسينية إرشاد بطهران، التي استقطبت آلاف الطلاب والمثقفين، كان لها تأثير أكاديمي وثوري هائل. قدم شريعتي قراءة ثورية للإسلام، مؤكدًا على العدالة الاجتماعية ومواجهة الاستعمار والاستبداد والتمييز الطبقي، مما جعله من أبرز منظري الثورة الإسلامية وملهمًا لجيل كامل من الشباب الإيراني.
- التيار الماركسي/اليساري: شهدت كليات العلوم الاجتماعية والآداب، وحتى بعض الأقسام التقنية، حضورًا لأكاديميين ذوي ميول ماركسية، غالبًا ما كان نشاطهم سريًا بسبب قمع النظام الشديد للشيوعيين. ركّز هؤلاء على النقد الطبقي والتحليل البنيوي لمشكلات المجتمع الإيراني، ونادوا بإصلاحات جذرية لتوزيع الثروة والسلطة. أثّرت أفكارهم بعمق في أجيال من الطلاب، وساهمت في تشكيل الوعي النقدي تجاه التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية. كما تأثر بعض الأكاديميين بأفكار منظمة “فدائيي خلق” التي حملت رؤى اشتراكية ثورية ودعت إلى الكفاح المسلح.
- التيار القومي العلماني: برزت شخصيات أكاديمية في كليات الحقوق والعلوم السياسية، مثل الدكتور كريم سنجابي (أستاذ القانون الدستوري) الذي كان مقربًا من “الجبهة الوطنية”. ركز التيار القومي على الديموقراطية، حكم القانون والاستقلال الوطني، وعارض النفوذ الأجنبي وسياسات الشاه الداخلية التي اعتبرها استبدادية وتتعارض مع المصالح القومية الإيرانية العليا.
- التيار الفلسفي والأدبي: برز منه أساتذة مثل الدكتور حسين بناهي وكان أستاذًا للفلسفة والدكتور عبد الحسين زرين كوب، وكان أستاذًا للأدب الفارسي، وهؤلاء لم ينخرطوا مباشرة في السياسة، لكن كتاباتهم وتحليلاتهم النقدية للتاريخ والأدب والثقافة الإيرانية، كانت تساهم بشكل غير مباشر في إيقاظ الوعي النقدي لدى الطلاب وتحدي السرديات الرسمية التي كانت تسعى لمحو جوانب من الهوية الإيرانية الأصيلة.
الجامعات الإقليمية: مراكز مقاومة
لم تكن المعارضة حكرًا على العاصمة؛ فقد شكلت الجامعات الإقليمية معاقل مهمة للمعارضة، غالبًا بنكهات فكرية تعكس خصوصيات مناطقها. كانت هناك روابط ويتم التنسيق بشكل سري، بين أساتذة هذه الجامعات وأقرانهم في طهران، حيث كانت الاجتماعات السرية والمراسلات وسيلة لتبادل المعلومات وتوحيد المواقف.
- جامعة شيراز (جامعة بهلوي سابقًا): كانت شيراز، مهد الحضارة الفارسية، تحمل ثقلاً رمزياً خاصًا. انعكس هذا البعد الثقافي على طبيعة المعارضة الأكاديمية في جامعة شيراز، التي تميزت بطابعها المحافظ والمتجذّر في التراث الإيراني. ضمت الجامعة أساتذة في كليات الآداب والعلوم الإنسانية عارضوا سياسات التغريب. وشهدت المدينة وجود علماء دين مؤثّرين مثل آقا سيد نورالدين الشيرازي، الذي وُصف بأنه “فقيه سياسي-اجتماعي”، وقد أثّر بشكل كبير على الخطاب الأكاديمي في الجامعة، مضفيًا طابعًا تقليديًا وإسلاميًا عميقًا على المعارضة.
جامعة تبريز: حافظت تبريز على تقليدها في المعارضة السياسية. وبذلك أصبحت جامعة تبريز، التي تأسست عام 1947، مركزًا للنشاط السياسي والفكري التمردي المعارض. تميزت معارضة أساتذتها بطابعها القومي، حيث ركزت على الهوية القومية الإيرانية-الآذرية وعارضت السياسات المركزية المفروضة من طهران. برز هنا أكاديميون يدافعون عن الحقوق الثقافية واللغوية للأذربيجانيين داخل الإطار الإيراني، مستخدمين تخصصاتهم في الأدب الفارسي والتاريخ لنقد السياسات الحكومية بطريقة غير مباشرة.
- جامعة أصفهان: أصفهان، عاصمة الإمبراطورية الصفوية سابقًا، كانت مركزًا مهمًا للمعارضة الثقافية والسياسية. شهدت جامعة أصفهان، التي تأسست عام 1946، حركة ثقافية معارضة، وبخاصة في كليات الفلسفة والأدب. تميز أساتذتها بمحاولتهم التوفيق بين الحداثة والتقليد، داعين إلى تحديث إيران من دون التخلي عن هويتها الثقافية والدينية. هذا الموقف جعلهم في صدام مستمر مع سياسات الشاه التغريبية، وغالبًا ما اتخذ نقدهم طابعًا فلسفيًا عميقًا.
- جامعة مشهد: كونها مدينة دينية مقدسة تضم ضريح الإمام الرضا. تميزت مشهد بطابع خاص في معارضتها للشاه. ضمت جامعة فردوسي في مشهد، التي تأسست عام 1949، عددًا من الأساتذة الذين جمعوا بين التكوين الأكاديمي والثقافة الدينية. لعب هؤلاء الأساتذة دورًا مهمًا في تأطير المعارضة دينيًا وفكريًا، حيث استخدموا منابرهم الأكاديمية لنقد سياسات الشاه من منظور إسلامي. كان هناك تواصل واضح بين الوسط الأكاديمي وعلماء الدين البارزين في الحوزة العلمية بمشهد، مثل آية الله ميلاني وآية الله خامنئي (الذي كان له نشاط أكاديمي أيضًا)، مما خلق شبكة معارضة متماسكة وفعّالة في حشد الدعم الشعبي. فعلياً، كانت جامعة مشهد المركز الديني والأكاديمي، ونقطة التقاء الحوزة والجامعة.
- جامعة شهيد بهشتي (جامعة ملي سابقًا): على الرغم من أنها لم تحظ بنفس القدر من الضوء التاريخي مثل جامعة طهران في تلك الفترة، إلا أن جامعة شهيد بهشتي كانت أيضًا مركزًا للنشاط الأكاديمي المعارض. يظهر هذا بشكل خاص في نمط القمع الأكاديمي المستمر بعد الثورة، حيث تم فصل عدد من أساتذتها مؤخرًا لدعمهم الطلاب أثناء احتجاجات 2022-2023، بما في ذلك محمد فاضلي، عالم الاجتماع البارز. وهذا يسلط الضوء على استمرارية المعارضة والقمع عبر الأنظمة في إيران.
خصائص المعارضة المثقفة خارج طهران:
- الطابع المحافظ: كان المثقفون في المدن الإقليمية أكثر تمسكًا بالقيم التقليدية الإيرانية، مما جعل رفضهم لسياسات التغريب التي تبناها الشاه أكثر عمقًا وارتباطًا بالهوية الثقافية والدينية.
- التأثر بالفكر الديني: العديد من الأساتذة الجامعيين في المدن الإقليمية كانوا متأثرين بالمرجعيات الدينية المحلية، مما أثرى خطابهم المعارض بصبغة إسلامية وساهم في ربط الحركة الأكاديمية بالقواعد الشعبية الدينية.
- الانتماء القومي: عارضوا سياسات الشاه المؤيدة للغرب، مطالبين بسيادة إيرانية حقيقية ومستقلة، وتعزيز الهوية الوطنية في مواجهة النفوذ الأجنبي.