شمال غرب سوريا بين احتمالات التصعيد.. والتهدئة!

تتصاعد وتيرة التصريحات حول التصعيد العسكري المحتمل في مناطق شمال غرب سوريا مع استمرار الغارات والهجمات، وسط حالة من القلق على مصير الهدوء النسبي الذي حقّقته التفاهمات الدولية في سوتشي ومحادثات أستانا.

ومع التعثر الواضح في مسار مفاوضات المصالحة والتطبيع الذي ترعاه موسكو بين أنقرة ودمشق، تتبدى أسئلة حيال غموض مستقبل منطقة شمال غرب سوريا، حيث تبدو السيناريوهات متباينة بين تصعيد عسكري محتمل أو تجميد الوضع الميداني انتظاراً لأية تسويات سياسية مقبلة، لا سيما في ضوء التوجهات التي سترسمها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في السنوات الأربع المقبلة من سني ولايته الثانية والأخيرة.

تخفيف التصعيد

أطلقت روسيا وتركيا وإيران في العام 2017 محادثات أستانا بهدف الوصول إلى اتفاقات تهدف إلى تخفيف التوتر في سوريا، وهو ما أفضى إلى اتفاق على إنشاء مناطق خفض التصعيد، والتي شكّلت خطوة مبدئية نحو تقليل المواجهات العسكرية الكبرى بين المعارضة ودمشق وحلفائهما.

في العام 2018، عزّز اتفاق سوتشي جهود التهدئة، إذ تم التوافق بين روسيا وتركيا على إنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب، مع سحب الأسلحة الثقيلة وإجراء دوريات مشتركة. وركّز هذا الاتفاق على تجنب التصعيد العسكري في آخر معاقل المعارضة. لكن برغم ذلك، واجه الاتفاق تحديات مستمرة، حيث تتجدد الاشتباكات بين فترة وأخرى، مما يؤدي إلى عرقلة استدامة الاستقرار ويُعرّض حياة المدنيين للخطر.

أدّت تفاهمات الدول الثلاث وبالتحديد روسيا وتركيا وعبر مسار أستانا المستمر حتى تاريخنا هذا، إلى الحفاظ على حالة الهدوء النسبي، ولكن في العام 2020 شهدت المنطقة خسارة تركيا فرصة كبيرة في تحديد مصير حركة التجارة والنقل في الطريق الدولي بين دمشق وحلب M5 لمصلحة روسيا من دون أن تتمكن الأخيرة من تحويله إلى إنجاز سياسي واقتصادي. نجحت هذه الاتفاقيات إلى حد كبير في تهدئة الصراع حتى الآن، وتوفير الحماية المؤقتة لبعض المناطق، ووقف انهيار الجبهات لمصلحة دمشق وحلفائها، وتعزيز نفوذ تركيا في شمال غرب سوريا ومواقفها التفاوضية اللاحقة لدى مناقشة القضايا الخلافية والتفصيلية، إقليمياً ودولياً، على الرغم من استمرار الخروقات من مختلف الأطراف.

تصاعد العمليات العسكرية

في الأشهر الأخيرة، تصاعدت وتيرة العمليات العسكرية في أرياف إدلب وحلب وحماه، إذ كثّفت دمشق وحلفاؤها من قصفهم لمواقع المعارضة، واستُخدمت الطائرات المُسيّرة في استهداف مناطق متعددة من مناطق سيطرة دمشق، فيما يبدو أنها هجمات لـ”هيئة تحرير الشام”. وقد أدى هذا التصعيد إلى نزوح آلاف المدنيين من 37 قرية في ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي والجنوبي (خلال 48 ساعة نزح 1800 شخص جُلهم من النساء والأطفال). وبالتزامن مع هذا التصعيد صرّحت الفصائل المسلحة المعارضة في غرفة عمليات “الفتح المبين” عن جاهزيتها العسكرية لمواجهة أي هجوم محتمل من قبل قوات دمشق وحلفائها لا سيما أن الأخيرة عزّزت وحداتها العسكرية في مختلف المناطق.

تأتي هذه الاستعدادات والتكهنات عن عملية عسكرية في شمال غرب سوريا، بل ذهب البعض للحديث عما أسموها “معركة حلب”، وسط حديث عن إعادة انتشار وتموضع القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها ولا سيما حزب الله على طول الأراضي السورية، بفعل تكثيف الاستهداف الإسرائيلي المركز لهذه القوات، مما قد يُشجّع أطرافاً سورية ودولية فاعلة في سوريا على إعادة ترتيب أولوياتها على الأرض.

يتطلب تحديد مسار مستقبل شمال غرب سوريا تحليلاً متأنياً من جميع الأطراف المتنازعة، لا سيما في ضوء ما يُمكن أن يحمله فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية من فرص ومخاطر وتحولات قد تخدم مصالح بعض الأطراف على حساب أطراف أخرى. وعليه، لا يبدو أن المنطقة ستشهد تغييرات جذرية في المرحلة المقبلة

الميدان أداة ضغط سياسي

هل سنشهد في الأيام المقبلة معركة في شمال غرب سوريا أم أنها مجرد تهديدات وتكهنات، ومن سيكون المستفيد؟

تسعى تركيا بشكل متزايد للتطبيع مع دمشق، حيث أبدت استعدادها عبر تصريحات رسمية ورسائل ترسلها بين الحين والآخر بإعادة بناء علاقاتها مع دمشق. كما ظهرت مؤشرات إيجابية من طرف دمشق في البداية، إذ أدلى الرئيس السوري بشار الأسد في مجلس الشعب الجديد بتصريحات لافتة للانتباه تؤكد على دخول سوريا مرحلة التغيير وحاجتها إلى أدوات جديدة تتطلب تغييراً في السياسات وكسر حالة الاستعصاء والانطلاق إلى آليات تفكير جديدة والبدء بالعمل بالخيارات الصعبة وفتح الباب أمام اللقاء مع الأتراك والتراجع عن الشروط المسبقة وأن لا عداء دائماً في عالم السياسة، وقد عزّز الوسطاء الروس هذه الإشارات الإيجابية بين الجانبين السوري والتركي.

لكن ما لبثت دمشق أن تراجعت عن موقفها بإعلان تمسكها بشروط ترى أنها أساسية قبل الحديث عن أي خطوات سياسية نحو التطبيع، وأبرزها انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية وضمان السيادة السورية، مُقلّلة من مصداقية أنقرة حيال ما تُصرّح به بعدم رغبتها في أن تبقي جنودها على أرض سوريا، لكن شريطة وجود ضمانات لحماية أمن حدودها الجنوبية مع سوريا والوصول إلى “اتفاقية أضنة المعدلة”، إلا أن تركيا تجاهلت الشروط السورية، مُتسلحة بإحباط موسكو من موقف دمشق المتشدد تجاه عقد القمة التركية السورية.

في هذا السياق، ربما تكون رسالة أنقرة لدمشق، قبيل أستانا المقبل تتمثل في التلويح باستخدام القوة عبر عملية عسكرية من قبل الفصائل المعارضة لاستعادة السيطرة على بعض المناطق كسراقب وغيرها بل ربما يتسع الأمر للوصول إلى مدينة حلب الاستراتيجية، مما يُعزّز من قوة الموقف التفاوضي التركي وبالتالي ممارسة المزيد من الضغط على دمشق للتطبيع حيث تشهد الأخيرة تراجعاً في قواتها العسكرية لا سيما في ظل تقييد حركة أهم حلفائها على الأرض، أي إيران وحزب الله، فضلاً عن رسائل عربية وغربية وصلت إلى دمشق وتتصل تحديداً بتحييد أصول الدولة السورية عن دعم أي عمليات نقل أسلحة ومسلحين على خط طهران ـ دمشق وصولاً إلى بيروت.

وفي الوقت ذاته، تستمر أنقرة في محاولاتها الدبلوماسية في انتظار دور روسي حاسم يُفضي إلى ترتيب اللقاء الموعود بين رجب طيب أردوغان وبشار الأسد، نظراً للعلاقات الجيدة التي تربط موسكو بالرئيسين وبكلا البلدين ودورها في تهدئة التوترات الإقليمية.

إقرأ على موقع 180  كلُ مَن يحكُم أفغانستان.. تنتظره اللعنات القبلية!

عملية عسكرية محدودة ومحددة

تعدّدت الأزمات في المنطقة وتراجع الاهتمام بالملف السوري برغم تبعاته الكبرى لا سيما على دول الجوار وبالتحديد تركيا التي أصبح أمنها القومي مُهدداً بسبب ملف “حزب العمال الكردستاني” وقضية اللاجئين السوريين على الأراضي التركية، مع إحجام دمشق عن المضي في ملف التطبيع وتصريح الروس بتوقف المفاوضات بين دمشق وأنقرة وعدم عقد لقاء حتى اليوم بين الأسد وأردوغان.

وتزداد تبعات هذه الملفات على الداخل التركي، الأمر الذي قد يدفع أنقرة إلى تحريك هذا الملف من خلال توسعة نفوذها داخل سوريا كضرورة أمنية لحماية أمنها القومي وتعزيز موقفها التفاوضي لاحقاً عبر استعادة السيطرة على سراقب ومعرة النعمان وخان شيخون (مناطق اتفاق سوتشي)، الأمر الذي سيُساعدها في تشكيل منطقة آمنة قادرة على استيعاب اللاجئين العائدين الذين أصبحوا يشكلون عبئاً كبيراً عليها لا سيما في السياسة الداخلية وعدم قدرة المناطق الحالية على استيعاب عائدين جدد كما تنظر تركيا بريبة لتوسع الدور الإسرائيلي في المنطقة لا سيما في سوريا، وهو أمرٌ يتزامن مع التصريحات الإسرائيلية المتكررة حول تشكل شرق أوسط جديد.

وتُلمح أنقرة إلى أن توسع الدور الإسرائيلي يُهدّد أمنها القومي لا سيما مع استمرار رفض دمشق لمسار التطبيع والانحياز لمحور إقليمي ودولي آخر منافس في المنطقة؛ لذا قد ترى أنقرة في توسعة نفوذها داخل سوريا عسكرياً ضرورة، وهذا ما قد يُبرّر الحديث عن توسعة العملية العسكرية و”معركة حلب” تحديداً من قبل فصائل المعارضة السورية، على حساب التواجد الإيراني الذي تراجع في الآونة الأخيرة استعداداً لتفاهمات جديدة وتسويات تُعيد رسم خرائط المنطقة.

هنا من المفيد الإشارة إلى أن ضمور الدور الإيراني يتزامن مع حديث عن احتمالات تدخل إسرائيلي في جنوب سوريا وأيضاً مع مشاورات تجريها تل أبيب مع موسكو لأجل توفير ضمانات روسية لمنع دخول أسلحة وذخائر إيرانية إلى لبنان عبر الحدود السورية. كما يتزامن ذلك مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، مع ما قد يطرح هذا الوصول من أسئلة حول السياسة الشرق أوسطية التي ستتبعها الإدارة الجمهورية وهل سيُعيد ترامب تفعيل خيار سحب الجيش الأميركي من الأراضي السورية!

في المقابل، ووسط الصراع الإقليمي في المنطقة، قد يخدُم التصعيد العسكري في شمال غرب سوريا مصالح دمشق ويُعطيها مبررات بانشغالها في جبهاتها الداخلية مقابل التزامها الصمت تجاه الهجمات على إيران وحزب الله، حليفيها الاستراتيجيين من جهة ويصرف النظر عن التوغل الإسرائيلي في جبهتها الجنوبية من جهة أخرى؛ كما أنّه قد يُوفر فرصة في ظل التشتت الدولي لاستعادة السيطرة على المناطق الخارجة عن نفوذ دمشق وزيادة أوراقها التفاوضية.

تُلمح أنقرة إلى أن توسع الدور الإسرائيلي يُهدّد أمنها القومي لا سيما مع استمرار رفض دمشق لمسار التطبيع والانحياز لمحور إقليمي ودولي آخر منافس في المنطقة؛ لذا قد ترى أنقرة في توسعة نفوذها داخل سوريا عسكرياً ضرورة، وهذا ما قد يُبرّر الحديث عن توسعة العملية العسكرية و”معركة حلب” تحديداً من قبل فصائل المعارضة السورية

ستاتيكو الاستقرار النسبي  

تتباين المصالح ما بين أنقرة و”هيئة تحرير الشام” وقد تكون الدعوة لعملية عسكرية في شمال غرب سوريا والحديث عن “معركة حلب” هي مجرد تلويحات من قبل “هيئة تحرير الشام”، تسعى الأخيرة من خلالها إلى تحسين موقفها التفاوضي مع كل من دمشق وأنقرة، خصوصاً أن التكهنات تؤكد أن التطبيع بين دمشق وأنقرة قادم مهما تأخر، وقد تضطر تركيا للتضحية بـ”الهيئة” للوصول إليه.

من الناحية العسكرية، ربما تحاول “الهيئة” استغلال ضعف النظام السوري وانشغال حلفائه لتحقيق بعض المكاسب في هذا الشأن. غير أن “الهيئة” تفتقد للغطاء الشرعي والدعم اللوجستي إذ لم تصدر أي تصريحات رسمية تركية حول احتمالية التصعيد العسكري في المنطقة بل تُشير بعض التقديرات إلى أنه عمل يتعارض مع مصالح أنقرة في الوقت الراهن؛ فبالأمس القريب فقط تمت إعادة فتح “معبر أبو الزندين” أمام الحالات الإنسانية بعد أن تعثّر فتحه سابقاً بسبب اعتراضات من قبل بعض الفصائل المعارضة، من عسكرية ومدنية، كما ترى أنقرة أن تجميد الوضع الراهن والالتزام بتفاهمات أستانا هو الخيار الأمثل ريثما تتضح معالم المرحلة المقبلة للمنطقة ومعرفة مآلات الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان لا سيما في ضوء نتائج الإنتخابات الأمريكية، كما أن أي تصعيد عسكري في المنطقة اليوم سيؤدي إلى موجات نزوح كبيرة للمدنيين باتجاه المناطق الحدودية الأكثر أماناً وهذا سيُشكل عنصر ضغط إضافي على الجانب التركي وبالتالي ارتفاع احتمال الانزلاق إلى مرحلة الفوضى التي تتقاطع مع مصالح قوى إقليمية عديدة ترغب في توسعة نطاق الحرب في المنطقة، مما يجعل ترجيح العملية العسكرية في شمال غرب سوريا أمراً مستبعداً وفق المعطيات الحالية.

وفي ضوء هذه المصالح المتشابكة، سيتطلب تحديد مسار مستقبل شمال غرب سوريا تحليلاً متأنياً من جميع الأطراف المتنازعة، لا سيما في ضوء ما يُمكن أن يحمله فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية من فرص ومخاطر وتحولات قد تخدم مصالح بعض الأطراف على حساب أطراف أخرى. وعليه، لا يبدو أن المنطقة ستشهد تغييرات جذرية في المرحلة المقبلة، ما لم تحدث مفاجآت كبرى عوّدتنا هذه المنطقة على حدوثها، إلى درجة يبدو معها العقلاني هو المفاجأة الكبرى!

Print Friendly, PDF & Email
ندى أسود وناز حمي

باحثاتان واستشاريتان في الشأن المدني السوري، سوريا

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  مداراة غربية لطهران.. لا تفاهمات نووية قبل الإنتخابات الأمريكية