الصراع مع إسرائيل.. التاريخ وسردياته وضرورة المواجهة الشاملة

ما تعيشه منطقتنا العربية أو "الشرق أوسطية" هي متاهة لا تعرف لها أول من آخر. السبب ليس استحالة فهم ما يجري وإدراكه، بل لأن المُعلن هو غير المخفيّ، والمُمارس هو غير المطلوب، فتتقاطع الدروب وتتناقض المنطلقات وتلتبس المواقف، فنصبح على واقع "إعجازي" في تفسيره، وصعب في فهمه ومُكلف في ترجمته.

“إذا سكت أهل الحق عن الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حق”

(الإمام عليّ)

لم يكن ابتلاء المنطقة ممّا أتاها من جهة الغرب فقط، بل أيضاً من طبيعتها التكوينية، إن لجهة التنوع أو التعدد أو الولاءات؛ أضاعت البوصلة اتجاهاتها فضاعت معها الشعوب وتاهت القيم في أتون مفرمة بدأت ولمّا تنته بعد.

كان الكيان الصهيوني، “الدخيل المصطنع”، هو عنوان التحدّي الذي زُرع في منطقة الزلازل الدائمة. أتى من ضمن مشروع أوسع وأكبر وبمستَهدفات متنوعة. مارس البلطجة من أوسع أبوابها وأوضحها. جاهر بالقتل والتنكيل وتفاخر بوجهه القبيح. اختلف “أهل الأرض” في منطقتنا على كلّ شيء: المشروع القادم وطبيعته وكيفية التعاطي معه، المواجهة وعملية توفير مقومات الصمود والدعم، التموضعات والولاءات.

لم يتفق أهل المنطقة على مقاربة واحدة لمنطق الصراع وطبيعت. أتت المقاربات من مواقع مختلفة، سواء حول المشروع الغربي وأهدافه في المنطقة، أو الأنظمة وأدوارها، بالإضافة إلى الموقع والجغرافيا والمصالح والنفوذ والتبعية والهيمنة والسيطرة والتحكم؛ فالتناقض الأساسي لا تشوبه شائبة من وجهة نظر الشعوب؛ التحرير والتحرر وكسر الهيمنة والتبعية التي تنتهجها قوى المركز الرأسمالي هو ما يجب أن تتحدد في ضوئه طبيعة المعركة وأهدافها. مصالح الشعوب ليست مجيّرة لأحد بل لأصحابها، هم من يستطيعون فهم طبيعة الصراع ويعملون على انتاج مقومات الصمود وتوفير الإمكانات للمواجهة. بالرغم من أن التنوع والتناقض السائدين في المنطقة يجعل المشهد أكثر صعوبة وتعقيداً، واستكمالاً طبيعة الأدوار لكيانات أو أنظمة أو دول، التي تتأرجح بين الدور الوظيفي أو المصلحي ما يُصعّب أمر المواجهة.

البدائل الضائعة

لماذا هذا التعطيل غير المفهوم وغير المبرر لقيام أوسع حالة مواجهة وطنية عربية في وجه ما يجري؟ هل التناقض الأيديولوجي أو المنطلقات الفكرية والسياسية تمنع ذلك؟ هل فعلاً المسائل الوطنية والقضايا المرتبطة بكل بلد هي من تُحدّد أفق المواجهة وساحاتها؟

هذه أسئلة جداً مشروعة وهي متنوعة الاتجاهات، ولو دقّقنا بالمعايير والمقاييس التي يضعها سواء من يُبالغ في التقييم من جهة أو بعجزه من جهة أخرى، تُصبح المواجهة من جهة أو الانكفاء من جهة أخرى، كما لو أنها وجهة نظر وليست فعلاً واجباً؛ البيانات وحدها لا تحرر أرضاً والمواقف الرمادية لا تعطي أفقاً للمواجهة… فهل من إمكانية لإعادة صوغ برنامج مختلف يتسع للجميع بأفق تحرري وطني واضح؟

عودٌ على بدء. إذا كانت المعركة مع المشروع الأساس فلا ضير من جمع كل من يتناقض معه على برامج مرحلية قد تشكل أرضية لا بأس بها لكسره؛ فهل من يتقدم لكسر الموروثات البالية من شعارات أصبحت بعيدة عن واقع اليوم الذي بلغ فيه الدم حدّ الركب؛ الدول الوطنية تتلاشى، إن بالجغرافيا أو بالوظيفة وتتحول إلى كيانات عاجزة ومتناقضة. المشاريع الفئوية، مذهبية كانت أم عرقية، تتقدم وتحجز لها حيزاً ودعماً وحماية. ألا يشكّل ذلك حافزاً لإعادة صوغ مشاريع للمواجهة تأخذ مستجدات المنطقة والعالم بالاعتبار؟ ألم يحن أوان الخروج من زوايا الفئوية الضيقة والمشتبه بها إلى أفق أكثر اتساعاً ووضوحاً؟ هي تساؤلات ربما قد تجد آذاناً صاغية عند كثيرين.

العودة إلى الأرض 

كثيرة هي المحطات التي دارت فصولها في منطقة الشرق الأوسط. وما يحصل اليوم هو الفصل الأكثر دموية ووضوحاً؛ فجبهات القتال مستعرة، على كل خطوط التماس مع العدو الصهيوني. منها ما تحول إلى حروب باردة أو مؤجلة ومنها يحتدم ويتطور فصولاً. هي منازلة مفتوحة، إن من حيث القوى أو الطرق أو النتائج المتوخاة أو المأمول منها. لن نعيد التاريخ منعاً للتكرار. سنبدأ من “الانتفاضة الأولى” (انتفاضة الحجارة في فلسطين)، التي شكّلت، في حينه، منطلقاً لإعادة جوهر الصراع إلى مساره الطبيعي، فتبدلت معطيات الواقع باتجاه صراع أكثر حدّة وجذرية من ناحية المكان أو القوى أو الأهداف. عاد جزء كبير من القرار الوطني الفلسطيني إلى داخل الأرض المحتلة ومقاوميها، ما وضع حداً واضحاً لمجموع الالتباسات التي وقعت فيها الثورة الفلسطينية في مساراتها التاريخية. أفرزت تلك الانتفاضة باقة من القادة الجدد ومن منابت فكرية وايديولوجية مختلفة، فكانت حماس والجهاد إلى جانب قوى اليسار الفلسطيني، وحركة فتح وغيرها من الفصائل الوطنية، بالإضافة إلى بروز أجيال جديدة تعكس نبض الضفة والأراضي المحتلة، بشكل أكثر وضوحاً وعلنيةً.

عجّلت الانتفاضة الفلسطينية في إطلاق “مسارات التفاوض” لقضايا الشرق الأوسط وفي الطليعة منها القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني. ثم جاءت اتفاقات أوسلو، التي أبرمتها منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة الراحل ياسر عرفات مع العدو، لتشكّل بداية مسار سياسي وأمني مختلف للقضية الفلسطينية. فالخيار الذي اتخذته (م.ت.ف) بفتح قنوات سرية مع العدو، وتُرجم باتفاق “غزة – أريحا أولاً”، الذي تخلى عن شعار التحرير الكامل وحق العودة وبناء الدولة الفلسطينية لتحلّ محلها كلمة “السلطة”، أوقع الانقسام، الذي تطور إلى اشتباك استفاد منه العدو وغذّته دولٌ عربية في إطار مسارات التطبيع الذي بدأتها الكثير من الأنظمة.

جاء مسار أوسلو في ظروف دولية غير مؤاتية؛ العالم أصبح برأس واحد، ودول “جبهة الصمود والتصدي” أصبحت أسيرة هيمنة أميركية تخيّرها بين الحروب أو البصم. وحركات التحرر الوطنية العربية ضاعت بين ركام المتغيرات الناتجة عن الانهيارات.. أسّست تلك المرحلة موازين قوى مختلفة عن السابق. تصاعدت المقاومة مع تصاعد مسارات التطبيع تحت مسميات “السلام العادل” وفك المسارات. وفي المقابل، برز التطرف الصهيوني بأشكال أكثر عنفاً ورفضاً حتى لمجرد التفاوض، الذي كان بمعظمه تنازلات مجانية. أفرزت تلك المستجدات صعوداً لقوى اتخذت من المقاومة خياراً لتحرير الأرض، واستفادت من مناخ شعبي بدأ يتلمّس أهمية نقل المعركة إلى داخل منازل الاحتلال، سواء في فلسطين أو لبنان، مدعومة من بعض دول عربية وإيران.. فالبشرية دخلت عهد الأحادية من مختلف جوانبها، وعليه انتظمت الحروب وتنوعت. وقعت القضية الفلسطينية في فخ الاستخدام المؤشكّل لذلك التعريف لتنقسم ساحاتها بين خيارين. من هنا بدأ وهن القضية التي تنازعتها صفة “الشرعية”، فوقعت في المأزق. اختلفت المسارات والتشبيكات، فبين “سلطة” متوسلة الدعم للبقاء بأدوارها المطلوبة، و“مقاومة” عينها على بعض من سلطة، وقع المحظور لتُصبح القضية على مفترق الخيارات الإقليمية وتناقضاتها. فتوزعت الولاءات والإملاءات والتموضعات.

إقرأ على موقع 180  مفارقات شيعية بين لبنان والعراق.. هل من حزب للدولة؟ (1)

طوفان الأقصى

في هذا السياق، شكّلت عملية “طوفان الأقصى” محطة “تأسيسية” في الصراع المفتوح في المنطقة. جاءت بعكس المسارات الي كانت بدأت بالتشكل، إن لناحية التنفيذ أو التوقيت أو الطريقة. فاجأت الجميع، حلفاء وأعداء، وأدت إلى استجلاب الغرب الاستعماري بعدته وعديده وأمواله للدخول في المعركة وإدارتها بالمباشر. بينت قلق “نظم الغرب” وقائدته الولايات المتحدة من تآكل قوة الردع عند العدو وفقدانه لوظيفته كموقع متقدم لمشروعهما وأداته الضاربة في المنطقة، وبان، في المقابل، الموقف العربي أكثر تخاذلاً ومشاركاً في تغطية العدوان.

من جهته، أظهر الشعب الفلسطيني قدرة متجددة للمواجهة والصمود، فقاتل وحوصر وأنهك لكنه لم يرفع راية بيضاء. هي عدالة القضية التي ناهزت الثمانين من عمرها. مذبحة غزة ما تزال مفتوحة وعلى مرأى العالم ونظره وسمعه. ظلم ذوي القربى أكثر مضاضة. فأنظمة التطبيع تشارك في الحصار وتسكت عن الجريمة، لا بل تُسهّل للعدوان وتمنع العون عن شعب محصور بين معبرين.. وقعت “قوى المقاومة” في مأزق الحدث. فالمشاركة ستكون مكلفة في ظل اختلال موازين القوى. والأهداف السياسية للعملية لا تتوافق مع ما يُحضّر للمنطقة؛ فمنطق التطبيع هو السائد، وأي مسار معرقل لن يكون موضع ترحيب من النظم بل من أكثريتها. هكذا أعادت عملية “الطوفان” القضية الفلسطينية إلى مربّع البدايات: “العالم الرسمي” بأغلبية حكّامه يُغطي العدوان والشعوب بأكثريتها تغطي عدالة فلسطين ومقاومتها. هي معادلة سوريالية إن لناحية التموضع أو القرار.

حرب الإسناد من لبنان

لبنان الواقع على حدود القضية القومية ومشاركاً في نضالاتها وبقوة، تحمّل العدوان والغزو فقاوم وانتصر بحرب إسناده لغزة… لم تكن خيارات الشعب اللبناني ومقاومته كثيرة. لكن كان لا بدّ من نصرة فلسطين، فسقطت الحدود الوهمية المرسومة بإرادة دولية، منحازة إلى جانب العدوان، ونظام لبناني قائم على توازنات لا تتحمل القضايا الكبرى، لأن الرعاة الخارجيين ليسوا على صراط واحد، فبدأت حرب الاسناد لتتحول إلى حرب شاملة، كان الشعب اللبناني بأطيافه كافة شريكاً بتحمل أثمانها الكبيرة.

الإنهاك السوري من الحروب المتتالية أغرق النظام ورجالاته فتبخروا وسقطت سوريا، إن بالموقع أو بالجغرافيا، وشبح التقسيم والتطبيع يحومان فوقها. أمّا إيران فقد أصبحت مسرحاً لحروب واسعة النطاق ومتعددة الأوجه.

عَودٌ على بدء

كل النظام الرسمي العربي ذهب إلى التفاوض، منهم من طبّع، ومنهم من نفّذ ما طُلب منه بالخروج من الصراع، ومنهم من ينتظر الفصول الأخيرة كي يبني خياراته. من تصدى لمفاعيل أوسلو تضرر، ومن بينهم، كان هناك من فهم طبيعة الصراع فانخرط فيه طوعاً، ومنهم من تورط فحاول اللوذ بنفسه عن موجبات المواجهة ولجأ إلى المماطلة والتسويف. في المحصلة، تفرقت القوى على مضارب مختلفة. تغوّل المشروع الغربي مستفيداً من أحداث 11 أيلول/سبتمبر فأنتج مصطلح الارهاب. التطبيع جال وصال في الدول العربية. حركة التحرر الوطني العربي بكل فصائلها تحتمي بالتاريخ لتستر حاضرها العاجز: اعتزال عن العمل وابتعاد عن القضايا، فقط للنقد والتوصيف والمطولات الكلامية المتكررة.. فهل بدأ اقفال مفاعيل اتفاقات أوسلو بكل مندرجاتها؟

من وقّع الاتفاقيات لم يأخذ ما يريد؛ هياكل وهمية لسلطات عاجزة، حُوصر ياسر عرفات في مقاطعته وقتل. وها هي السلطة الفلسطينية تجهد لتبقى على قيد الحياة. لقد أصبحت عنواناً من عناوين انقسام الشعب الفلسطيني. ومن عمل على تعطيل مفاعيل الإتفاقيات، وقع تحت تصنيفات متعددة بدءاً بالإرهاب وبعدها الحصار والعقوبات، وها هم يُقَاتَلون ويُقتلون بفعل حروب، ساحاتها المنطقة كلها: فهل ثمة من لا يزال يؤمن بحتمية الصراع مع ذلك المشروع والانتصار عليه؟ وهل نضجت “الواقعية السياسية” التي تقرأ صحيحاً وتعمل على إنضاج مشاريع تتسع لبعض المنطلقات المتناقضة في المرجعية لكن المتلازمة في التسديد؟

كثيرةٌ هي القوى المعنيّة بالإجابة عن هذه الأسئلة وبأن تكون الإجابات رهن عقل “براغماتي”، يقدم الأساسي على الثانوي والجمع على التفريق، ووضع الوجهة صوب العدو، المعروف بالاسم والصفة ومعلوم باقي الهوية.

لا مكان لإعادة التجارب السابقة التي أثبتت فشلها. العدوان شامل وواضح، إن بقواه أو أهدافه، فلماذا لا تكون المواجهة شاملة: حلف المتضررين أصبح أمراً واقعاً موضوعياً، فمن سيتقدم ليمنع تردداً ساد عقوداً كي يكسر هذه الحلقة المفرغة التي دوّخت المنطقة وقواها فأغشتها وأصبحت لا تبصر أو تبادر؟ الشعوب معنية بالجواب، القوى المناهضة والمتضررة معنية، اليسار بكل أطيافه معني، القوى القومية والإسلامية التي وضعت تحرير فلسطين غاية وجودها وعلته معنية. الانتظار أصبح سمة العاجز والمبادرة لن تقوى على الانتظار… فلنبادر.

Print Friendly, PDF & Email
حسن خليل

أكاديمي وكاتب سياسي، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  تطور أدوات الإستعمار القديم ـ الجديد.. والأمم الطامحة إلى التحرّر (4/1)