

لا شك في أنّ الكاتب رضا الكرعاني شاء الخوض في غمار تجربة إنسانيّة بأبعاد دراميّة لغاية تُبرّرها أجواء الرواية وشخصياتها، ممّا يحيلني إلى سؤال المفكر الفرنسي رولان بارت (Barthes) الذي يشير إلى التجربة الكتابيّة بالتالي: «ما هي النصوص التي يمكن أن أقبل بكتابتها (أو بإعادة كتابتها)، أن أرغب فيها، أن أدفع بها كقوّة في هذا العالم الذي هو عالمي؟ » بدا لي أنّ رضا الكرعاني قد أمسك بخيوط النسيج السردي بإحكام ليُقدّم، كما قال بارت، عمله من عالمه أي من عمق القيروان.
***
في الصفحات الأولى ومن دون أية ديباجات، تتكثّف أحداث رواية “النهر الحزين” بوتيرة سريعة. يُؤسّس المرض والظلم والفقر والموت لخلفيّة الواقع القاسي. يُنبئنا مختار في جملته الأولى بلغة بسيطة عارية «مات أبي وأنا طفل صغير»، ثم يروي كيف شاهد طفلا مقتل والده وتحوّل جسده إلى قطع لحم متناثرة. افتتاحية تذكر بافتتاحية كامو Camus الشهيرة في روايته «الغريب» في إعلانه: «اليوم ماتت أمي». وإن استقبل مرسو نبأ وفاة أمه ببرود مذهل، كأنّما فقدت الحياة معناها سلفاً، فإن مختار يحاول ولو عبثاً استرجاعها طيلة حياته. يبدأ كلٌّ منهما رحلته بإعلان وفاة كتفصيل عابر ثم يتتابع البؤس بأشكال مختلفة ليلتقيا مجدداً في النهاية، عبر مشهديّة ينبجس فيها العنف الداخلي المتراكم.
***
مع مرور صفحات الرواية، يتكوّن شيئاً فشيئاً هذا النسيج من العنف فينقش مفاتيح أسلوبيّة تقرّبه من تيار “التريمانديسمو” (El Tremendismo) الإسباني الّذي ظهر في أربعينيات القرن الماضي. يستند هذا الانطباع إلى بنية النصّ الواقعيّة القاسيّة والمضطربة ومن شخصياته المهمّشة، وهي عناصر أدّت إلى رؤية تشاؤميّة وسمت هذا التيار السردي. وإذا شئنا أن نقرّبه من عملٍ ما في تلك المرحلة، فإنّ رواية «عائلة باسكوال دوارتي» لكاميلو خوسيه ثيلا هي أوّل ما يتبادر إلى ذهني. إذ وجدت في شخصيّة باسكوال قدراً كبيراً من التشابه مع شخصيّة مختار في رواية «النهر الحزين».
قصة مختار تُثير القلق والحزن، دون إثارة الشفقة. في لغة الأنا يُعبّر عن كيان يُعاني، يُراقب، يحتجّ، يسخط، يضرب، يندفع. بعبارة أخرى، الأنا ليست شخصية بطوليّة متعالية تتّسم بالقوّة، بل هي هشّة ومُرهَقة. لأنّ مختار أراد أن يروي ليكون، استناداً إلى مقولة بول ريكور Ricoeur «أنا ما أرويه». أي أنّ هويّة الانسان تتكوّن وتتمحور من خلال القصّة التي يرويها. فتؤسّس من هذا المنظور لمسافة خصبة من شأنها إعادة تركيب هويّة اضطربت في كينونتها، فالحكاية تبني لتعيد ترميم ما تشظّى حسب ريكور.
***
ما رافقني طيلة قراءتي للرواية، أسلوبها الخالي من الشوائب، فهو صاف ودافق كالنهر في مجراه، لا يحيد عن حدّه كمن يؤكد القدريّة في مصيره. ولغتها لا تعكرها شوائب ولا تدخل المغالاة في أشكالها البلاغيّة. ها هو ذا كاتبنا رضا الكرعاني، يتألّق في روايته الثانيّة، فيعيد رسم المكان كاشفاً في ثناياه عن عمق تاريخي وعن حضن ثقافي ولغوي زاخر مطبوع بخصوصيّة الأصالة
باستخدام اللغة الذاتيّة يُضفي الكاتب رضا الكرعاني صدقًا وشفافية في وصف العنف والفقر والظلم. ليُعطي للألم حقّه في الوجود اللغوي، ويجعل منه فعل مقاومة مقابل التهميش.لأنّ ما لا يُوصف يُنسى، وما لا يُوثَّق يُطمس. من ناحية أخرى، سوّغ لنا الكاتب فضاءً يضيق، في قدريّة لا تفلت شخصياتها من سلطة القوانين الوجوديّة وأحكامها، فتسرّبت إلى العلاقات ودمغت اللغة والأجساد، فتُعبّر بتكرار دائري لانكسارات تؤكد حكم الظروف القاهرة.
***
من الريف التونسي، يُقذف مختار إلى فضاء السجن. وهناك، يتقاطع مصيره مع مصير أيمن رجل العقيدة الصارمة والنظرة المغلقة. لكنّ ذاته القلقة تأبى الانجذاب إلى المطلقات برغم معاناتها.
وبرغم أنّ مختار يعيش في بلد استقلّ عن سلطة المستعمر فهو يواجه تحديدا لتحركاته من قبل الشرطة «التسكّع غير مسموح في الأماكن السياحية»، تلك حقيقة تنبّأ بها المعمر فلاديمير قبلها بسنوات عندما خاطب الجدّ عبدالله قائلاً «لن تتغيّر حياتك يا عبدالله، باستقلال تونس، ستظلّ راعي غنم، أنصحك أن لا تفرح بأمر لا يعنيك». لا يسعنا إلا أن نتساءل عن هذا التطفل بلغة من يدري في شؤون البلاد أكثر من مواطنيها فيُنصّب نفسه في موقع العالم بأمورها وما ستؤول إليه. وأكثر من ذلك فهو يحدّد لعبدالله كيفية التفاعل مع حدث تاريخي كبير كالاستقلال.
إنه نصّ موحش وحزين، فالعزاء فيه شحيح كأنّ مؤلّفه أراد تكثيف الوجع لإعادة صياغة المكان فيظهر عمق الخراب والمعاناة. فكان انطباعي الأوّل الذي رافقني طوال هذه الرواية التي تُقدّم مكاناً مشروعاً للحزن في عالم تسود فيه الفرديّة ويُعرض فيه الإنسان عن معاناة الآخر. فيأتي الأدب وأهمّيته ليجسّد ويؤنسن. لأن كل معاناة لها وجه، ولها اسم، ولها قصّة. حين نصف الشقاء، فإننا نرفض اللامبالاة ونربط التجربة الفرديّة بالتجربة الإنسانيّة.
***
ما رافقني طيلة قراءتي للرواية، أسلوبها الخالي من الشوائب، فهو صاف ودافق كالنهر في مجراه، لا يحيد عن حدّه كمن يؤكد القدريّة في مصيره. ولغتها لا تعكرها شوائب ولا تدخل المغالاة في أشكالها البلاغيّة. ها هو ذا كاتبنا رضا الكرعاني، يتألّق في روايته الثانيّة، فيعيد رسم المكان كاشفاً في ثناياه عن عمق تاريخي وعن حضن ثقافي ولغوي زاخر مطبوع بخصوصيّة الأصالة.
وكما سبق وأشرت سأنهي هذه القراءة بفقرة «تخييل للخيال». أجد نفسي في أحد نصوص بورخيس حيث يلتقي أبطال الروايات. اتبعوني على أطراف الأصابع لنستمع إلى حوار بين مختار رضا الكرعاني وباسكال كاميلو خوسيه ثيلا. يتراءى لنا مختار جالساً على حافة النهر، تحت شجرة بطم قديمة وقدمه الوحيدة تغوص في الرمل البارد. في عينيه كللُ من عانى أكثر مما يطيق من القلق والترقّب. أقبل من خلفه رجل بثياب ريفيّة، يحمل بين أصابعه سيجارة التكروري. جلس بجانبه وعيناه تجولان في المكان. من وادي زْرود على يمينه ومقبرة سيدي فايد على يساره.
– صادفتُ عمّك في الطريق، وأعطاني هذه السيجارة!
***
اعتاد باسكوال دوارتي أن يجلس حيث يقيم الألم، وحيث تمتدّ الأرض قاحلة متشقّقة تحت وطأة شمس لاذعة. ساد بينهما صمت لا يثقل عليهما بأكثر ممّا هما عليه. على مقربة منهما غطّ طائر الغرنوق على غصن شجرة. نظر مختار إلى الأعلى مراقباً إياه تحت سماء تجانست حتى تخالها قطعة قماش مشدودة. تساءل عن قصد والده عندما قال له: إذا رأيت غرنوقاً طائراً في الجو قلْ لهُ: أعطني المطر لأعطيك التمر.
أطرق قليلا مفكّرا، ثمّ التفت إلى باسكوال وسأله:
– كيف وجدتني؟
– جمعنا الخيال الجامح، نحن أبناء الخيال يا مختار.
– هل هربت من السجن؟
– مازلت مسجونا حتى الآن، انتظرُ الحكم.
تذكّر مختار سجنه فأردف قائلا:
– كم شخصا قتلت يا باسكوال؟
ضحك باسكوال ضحكة ثقيلة خرجت من بين أسنانه كغمغمة ميّت:
– ثلاثة، وربّما أنا منهم!
قال مختار:
– البارحة.. دخلتُ بيتاً في الظلام ثم خرجت. فتحت بابه ثم أقفلته على من فيه.
هزّ باسكوال رأسه:
– من يلوم اليد التي دفعت الباب؟ مفاتيحه صيغت منذ الطفولة.
أحمل رأسي كأنه قنبلة موقوتة لا أعرف متى تنفجر.
ردّ باسكوال:
– أنا انفجرتُ منذ زمن، وما تراه الآن ليس إلا دخاناً.
هبّت رياح خفيفة، ارتعشت لها أوراق الشجر. النهر أمامهما شاهد قديم، رأى رجالًا يُرمون في جوفه، ولا يعودون. أردف مختار:
– قرأت عن عائلة دوارتي في السجن.. سوف أحكي كذلك سيرة حياتي. رغم بؤسها وضحالتها أكتبها.
– اكتب.. إن كتبوا عنّا لن يغفروا لنا. لن نطلب الصَفح. نحن فقط نقول الحقيقة، ولو كانت قبيحة.
تذكّر مختار صديقه أيمن وقال:
– سأسمّيه النهر الحزين مشيرا إلى النهر أمامه. فأنا متعب وحزين مثله. هنا كان يجلس جدّي وهنا وجدته ميّتا.
– ولماذا هذا النهر؟ فهو يتابع جريه غير مكترث.
– أنت لا تفهم النهر، باسكوال.. إنه لا يجري، بل يهرب.
لم يجب باسكوال. نظر إلى ظلال اشجار السدر وإلى طابية هندي بجواره. قال بصوت خشن:
– قصّتي حزينة كذلك. تعلم أنّني قتلتُ أمّي. كان العالم يصرخ في رأسي، ولم أجد غير دمها لأُسكته.
همس مختار بصوت مخنوق:
– أعرف هذا الصوت جيّداً.
ثم ساد سكون وكأنه صمت الجبال القريبة.
أردف مختار:
– قال لي رضا ذات مرة: إذا لم تتكلّم ستتحوّل إلى حكاية من حكايات عين الذئب يتداولها الساهرون وهم يشربون الخمرة ويدخّنون.
إبتسم باسكوال بمرارة وقال:
– وأنا. لولا الكتابة لكنت مجرّد صفحة في تقرير الشرطة.
– أخبرني يا باسكوال، هل وجدت في القتل شفاء؟
– لا، وجدت فراغاً أكبر، وأنت؟
– أنا وجدت فيه موتاً أبطأ.
ومضى النهر أمامهما يجري هارباً من صدى الصمت، حزيناً كإله أرهقته خيبة خلقه يجرّ في سيلانه معاناة الوجود.