

جورج عبدالله ليس مجرّد رجلٍ طوته الزنزانة منذ 41 عاماً، بل ظلٌّ كثيف الحضور يتسرّب من غبار القيد إلى تراب الذاكرة، ويتوهّج حين يخبو المعنى، ويصحو في اللحظات التي يبدو فيها أن زمن القيم قد ولّى.
في عصرٍ تتفكّك فيه المعاني وتسيل الهويات كما لو أنّها أمواجٌ بلا شاطئ، يبرز جورج إبراهيم عبدالله كنقيضٍ للزمن السائل؛ تجلٍّ حيٌّ لـ”الصلابة الأخلاقية” في مواجهة مؤسّساتٍ بَلِيَت رموزها. فبين جدران السجن، لا يعود الجسد مجرّد كيانٍ بيولوجيّ، بل يتحوّل إلى “دليلٍ حيّ” لقدرة الإنسان على طيّ الزمن بالثبات.
لقد استوفى شروط الإفراج عنه منذ أكثر من ربع قرن، لكن النظام القضائي الفرنسي، تحت وطأة الضغوط السياسية المتشابكة، ولا سيما الأميركية، واصل تجاهل ما يفرضه القانون. وهكذا، تحوّل السجن إلى مرآةٍ لا تعكس صورة السجين فحسب، بل تكشف هشاشة العدالة حين تواجه من يصمد خارج مقاييسها المألوفة.
في هذا المشهد، لا يبدو المعتقل مجرّد سجين، بل رمزًا تأويليًا يُحرِج المنظومة: مقاومةٌ تسكن الجدران، ووعيٌ يعاند المحو، ووجودٌ يحرّض الذاكرة السياسية على العودة إلى بداياتها النقية. تلك اللحظات التي كان فيها النضال خيارًا أخلاقيًا لا مجازفة وجودية.
وحتى لو كانت الهوية، كما وصفها زيغمونت باومان، مشروعًا متحولًا يُبنى ويُفكّك باستمرار، فإنّه هنا يأخذ شكلًا نادرًا من “الهوية الأصل”؛ هويةٌ لا تنغلق على أصلٍ بيولوجي أو ولاءٍ ضيّق، بل تتجذّر في اختيارٍ حرّ للانتماء إلى قضايا تتجاوز الفرد وتلامس البُنى الأعمق للعدالة والحرية. إنها هوية لا تخضع لقوانين السوق، ولا تقبل التحوّل إلى رأسمالٍ رمزيٍّ قابل للتداول أو التسليع.
لم يكن جورج يومًا تابعًا لعقيدة عمياء، ولا مرتهنًا لهويةٍ مُغلَقة. بل مثّل دومًا امتدادًا لـ”شبكة انتماءات متداخلة”، كما لو أنّ الذات قد تشكّلت من فسيفساء أخلاقية وسياسية تشقّ طريقها عبر الزمن، لا عبر الولاء بل عبر الاقتناع. ومنذ لحظة شبابية مبكّرة، حين اختار التموضع في قلب صراع تتقاطع فيه الجغرافيا مع الكرامة، لم يرَ في فلسطين مجرّد أرضٍ محتلة، بل فضاءً رمزيًا لاختبار المعنى، ومختبرًا حيًّا تتكشّف فيه تناقضات نظام عالميّ يتواطأ على الشعوب بينما يرفع شعارات الحرية وحقوق الإنسان.
في عالم تُعاد فيه صناعة الطائفة والعشيرة كملاجئ نفسية أخيرة في ظل تفكّك الدول الوطنية، ويُنظَر فيه إلى النضال كفعلٍ رومانسيٍّ منقرض، يظهر كفائضٍ في معادلة القوة. لا النظام القضائي يعرف كيف يتعامل معه، ولا الإعلام السائد قادر على تطويقه. فصمته – لا تصريحاته – هو ما يُدوّي، وثباته – لا تحوّله – هو ما يُحرج الجميع.
في لحظة يُعاد فيها تعريف البطولة بوصفها تسويقاً لصورة أو شعوراً مؤقتاً بالاستحقاق، يطلّ جورج كنوعٍ مضاد من الحضور: لا نجمًا، بل أثراً. لا قائدًا طامحًا، بل دلالةً حيّة على أن بعض المفاهيم مثل “العدالة” و”الحرية” ما تزال تُعاش بجدية، وإن في أقسى تجلياتها.
هنا، لا تعود الهوية مشروعًا سرديًا يُبنى أو يُفكّك كما يرى باومان، بل تتحوّل إلى “موقف ميتافيزيقي” من العالم. ليس مجرد ذاكرة مقاومة، بل بنيةً متجدّدة من الصمود الأخلاقي في مواجهة آلةٍ سياسيةٍ تشتغل على تعويم المعنى وتذويب الرموز.
وفي زمن بات فيه كلّ شيء مؤقتاً، القيم، التحالفات، والانتماءات، يذكّرنا ذاك الثابت بأنّ بعض الهويات، حين تُصقَل بالإنسانية، لا تنكسر، بل تتحوّل إلى حجارة حادّة في مجرى الزمن.