

الجيش الجمهوري الإيرلندي
تعود جذور الجيش الجمهوري الإيرلندي (IRA) إلى عام 1919 خلال الحرب الإيرلندية من أجل الاستقلال ضد بريطانيا. إلا أن الشكل الأكثر راديكالية وظهورًا له كان في أواخر الستينيات، في سياق تجدّد الصراع الطائفيّ والسياسيّ في إيرلندا الشمالية، والذي عُرف بـ”الاضطرابات” (The Troubles). كان هذا الصراع ناتجًا عن التمييز الممنهج ضد الكاثوليك واحتجاجاتهم المدنية المتصاعدة.
في العام 1969، انقسم الجيش الجمهوري إلى جناحين. الأول هو الجيش الجمهوري الإيرلنديّ الرسميّ (Official IRA)، الذي كان يميل إلى الماركسية، وتخلى لاحقًا عن الكفاح المسلح مفضلاً العمل السياسيّ. أما الجناح الثاني، الجيش الجمهوري الإيرلندي المؤقت (Provisional IRA)، فكان أكثر راديكالية، واستمرّ في الكفاح المسلّح، ورفض أي تسوية سلمية لا تتضمن انسحابًا بريطانيًا كاملًا من إيرلندا الشمالية.
قام الجيش الجمهوري على منطلق قوميٍّ أساسيّ، وهو السعي لتوحيد جزيرة إيرلندا في دولة جمهورية واحدة مستقلة، وإنهاء الحكم البريطاني. من الناحية السياسية، دعم الجيش المجتمع الكاثوليكي الذي كان يعاني من التمييز المؤسّسيّ من قبل الحكومة البروتستانتية الموالية لبريطانيا. أما من الناحية الأيديولوجية، فقد جمع فكر الجيش الجمهوري الإيرلندي بين القومية الإيرلندية الراديكالية وبعض الأفكار الاشتراكية، وبخاصةً لدى الجناح الرسميّ.
استقطب الجيش الجمهوري في صفوفه فئات متنوعة من المجتمع الكاثوليكي. كان أبرزهم العمّال والكادحون الذين عانوا من التمييز والفقر، بالإضافة إلى الشباب الناشط في الحركة الحقوقية الذي تعرّض للقمع من الشرطة البريطانية. كما انضم إليه أفراد متشبّعون بثقافة المقاومة والتاريخ الاستعماري البريطاني الطويل لإيرلندا. تلقى الجيش دعمًا لوجستيًا وماليًا من الشتات الإيرلندي، وبخاصة في أميركا.
اتّبع الجيش استراتيجية حرب العصابات في المدن، وتضمنت نصب الكمائن، وتنفيذ التفجيرات، والاغتيالات. استهدف في عملياته الجنود البريطانيين والشرطة الملكية، ووسع نطاق عملياته ليشمل تفجيرات في بريطانيا نفسها بهدف نقل المعركة إلى قلب الدولة البريطانية. اعتمد الجيش على التمويل الذاتي عبر التبرعات من المغتربين، وعمليات تهريب، وفي بعض الأحيان الجريمة المنظمة.
نفذ الجيش العديد من العمليات البارزة، من أبرزها تفجير غيلدفورد وبارمنغهام عام 1974، التي خلّفت قتلى مدنيين وأثارت جدلاً واسعًا حول شرعية المقاومة المسلحة. كما حاول اغتيال رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر عام 1984 عبر تفجير فندق برايتون. واستخدم بشكل متكرّر تكتيكات القنص والتفجير ضد قوات الجيش البريطاني والشرطة في إيرلندا الشمالية، والاعتماد على السيارات المفخخة والرسائل الملغّمة.
شكّل الجيش الجمهوري الإيرلندي أبرز مثال على حركة مسلّحة قومية في أوروبا الغربية خلال فترة الحرب الباردة، حيث جمع بين الأهداف السياسية والعمل المسلّح. انتهى الصراع تدريجيًا باتفاق “الجمعة العظيمة” عام 1998، الذي أدى إلى نزع سلاح المليشيات مقابل إدماج سياسي واسع. برغم ذلك، بقيت بعض الجماعات المنشقة مثل (Real IRA) تنشط بعد الاتفاق، لكنها لم تحظَ بنفس القبول الشعبي الواسع.
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين رسميًا في كانون الأول/ديسمبر 1967 بقيادة جورج حبش، الطبيب الفلسطيني الذي كان من أبرز وجوه القومية العربية والراديكالية اليسارية في تلك المرحلة. جاءت الجبهة كامتداد وتطوير لـ”حركة القوميين العرب”، لكنها اتّخذت مسارًا ماركسيًا لينينيًا أكثر صرامة. تزامن تأسيسها مع نكسة 1967، التي اعتبرتها الجبهة ليست مجرد هزيمة عسكرية، بل نتيجة لبنية اجتماعية وسياسية فاسدة تحتاج إلى تغييرٍ جذريّ. تأثرت الجبهة الشعبية بالثورة الكوبية والنضال الفيتنامي وفكر ماو تسي تونغ.
تمحورت رؤية الجبهة حول فكرة “تحرير فلسطين من خلال الثورة”، ورفضت أي تسويات أو حلول وسط مع إسرائيل. اعتمدت على خطابٍ ثوريٍّ أمميّ، يرى في القضية الفلسطينية جزءًا من النضال العالميّ ضد الإمبريالية والرأسمالية. تأثرت الجبهة بأفكار فرانز فانون حول العنف الثوريّ، واعتبرت أن فلسطين لا يمكن أن تُحرَّر إلا عبر حربٍ شعبيةٍ مسلحة طويلة الأمد تشمل المنطقة بأسرها.
جذبت الجبهة عناصر يسارية وقومية من الطبقة الوسطى والمثقفين والطلاب، بالإضافة إلى مناضلين من خلفيات عمّالية وشعبية من مختلف دول العالم. كان لها امتداد قوي بين اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، خصوصًا في لبنان وسوريا والأردن. تميزت الجبهة بتنظيمها الصارم والعمل السريّ والعسكريّ.
اشتهرت الجبهة بعملياتها الجريئة والعابرة للحدود. كانت أول فصيل فلسطيني يستخدم خطف الطائرات كوسيلة إعلامية وسياسية، وذلك عبر المناضلة ليلى خالد التي خطفت طائرتين في 1969 و1970، ممّا لفت أنظار العالم إلى القضية الفلسطينية. كما نفّذت بالتعاون مع الجيش الأحمر الياباني عملية مطار اللدّ عام 1972، التي أسفرت عن مقتل وإصابة عشرات الأشخاص. نفذت الجبهة أيضًا عمليات في أوروبا وأفريقيا ضد أهداف إسرائيلية وغربية، بالتعاون مع منظمات ثورية مثل بادر ماينهوف (ألمانيا) والألوية الحمراء (إيطاليا).
أقامت الجبهة الشعبية تحالفات قوية مع حركات التحرر العالمية مثل الجيش الأحمر الياباني، وحزب الفهود السود، والجيش الجمهوري الإيرلندي، وفصائل يسارية أوروبية. شاركت أيضًا في مؤتمرات أممية لدعم الكفاح المسلح ضد الإمبريالية. لاحقًا، شهدت الجبهة انقسامات عدة، منها تأسيس “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين” بقيادة نايف حواتمة، بسبب خلافات أيديولوجية حول الأسلوب الثوري والموقف من العمل السياسي مقابل العمل المسلح.
الجيش الأحمر الياباني
تأسّس الجيش الأحمر الياباني (JRA) عام 1971 على يد فوساكو شيغينوبو ورفاقها، الذين انفصلوا عن الحركة الطلابية اليسارية اليابانية وقرروا تبني الكفاح المسلح لتحرير اليابان من “الهيمنة الإمبريالية” ودعم الثورات العالمية. كان الهدف الأساسي هو تأسيس جيشٍ ثوريٍّ عالميٍّ يعزّز الثورة المسلحة في اليابان وخارجها.
فكريًا، تأثرت المنظمة بالماركسية-اللينينية، وبخاصة نسختها الماوية التي تدعو إلى الثورة المسلّحة العالمية. آمن الجيش الأحمر بأن الثورات التحرّرية في العالم الثالث، مثل الثورة الفلسطينية، هي جزء من الثورة العالمية ضد الرأسمالية والإمبريالية. انضمّ إليها شباب يابانيون من الطبقة المتوسطة والمتعلّمة، ولا سيما طلاب الجامعات.
تنظيميًا؛ عمل الجيش الأحمر كخلايا صغيرة وسرّية، وركّز نشاطه على العمليات المسلحة خارج اليابان. اعتمد على التعاون والتنسيق مع حركاتٍ ثوريةٍ أخرى، أبرزها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. شملت عملياته اختطاف طائرات، تفجيرات، ومواجهات مسلحة مع القوات الأمنية، حيث استخدموا الأراضي العربية كمناطق دعم وتموين. كانت عملية مطار اللدّ عام 1972 من أبرز عملياتهم، حيث أدت إلى مقتل 26 شخصًا وإصابة أكثر من 80 آخرين، وأثارت اهتمامًا عالميًا بأساليب الجيش الأحمر.
الخاتمة
يمكن القول إن ظهور الحركات اليسارية الراديكالية في أواخر الستينيات من القرن العشرين لم يكن ظاهرة منعزلة، بل كان نتيجةً لتفاعلٍ معقّدٍ بين عدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. لقد أدّت حرب فيتنام والقمع السياسي إلى فقدان الثقة في الأنظمة السياسية القائمة، بينما أدّت التحوّلات الاقتصادية وعدم المساواة إلى تفاقم الشعور بالظلم. وفي الوقت نفسه، شكّلت الثورة الثقافية للشباب، ونهوض الحركات النسوية، وحركات التحرر العالمية، وعيًا جديدًا بضرورة التغيير الجذري.
على الرغم من أن معظم هذه الحركات المسلّحة فشلت في تحقيق أهدافها الثورية المباشرة، إلا أنها تركت إرثًا فكريًا وسياسيًا عميقًا. لقد ساهمت في زعزعة ثقة الناس في السلطة القائمة، ودفعت باليسار العالميّ إلى إعادة النظر في أساليب نضاله، كما أنّها شكلت إلهامًا للأجيال اللاحقة في نضالها من أجل العدالة الاجتماعية والسياسية.
المراجع:
- Ando, T. (1998). The Japanese Red Army: A History of a Revolutionary Movement. University of Tokyo Press.
- Aust, S. (2009). The Baader-Meinhof complex. London: The Bodley Head.
- Chaliand, G., & Blin, A. (2016). The history of terrorism: From antiquity to ISIS. Berkeley: University of California Press.
- Cobban, H. (1984). The PLO and the Politics of Survival. Institute for Palestine Studies.
- Gitlin, T. (1993). The Sixties: Years of Hope, Days of Rage. Bantam Books.
- Gress, D. (1985). The ideology of the RAF. Journal of Contemporary History, 20(2), 201–220.
- Hobsbawm, E. (1994). The Age of Extremes: A History of the World, 1914–1991. Vintage.
- Kraushaar, W. (2006). Die RAF und der linke Terrorismus (Vol. 1). Hamburg: Hamburger Edition.
- Morgan, R. (Ed.). (1970). Sisterhood is Powerful: An Anthology of Writings from the Women’s Liberation Movement. Vintage.
- Murch, D. (2010). Living for the City: Migration, Education, and the Rise of the Black Panther Party in Oakland. University of North Carolina Press.
- Piketty, T. (2014). Capital in the Twenty-First Century. Harvard University Press.
- Rand, A. (1971). The New Left: The Anti-Industrial Revolution. Penguin.
- Ross, K. (2002). May ’68 and Its Afterlives. University of Chicago Press.
- Surí, J. (2003). Power and Protest: Global Revolution and the Rise of Détente. Harvard University Press.
- Varon, J. (2004). Bringing the war home: The Weather Underground, the Red Army Faction, and revolutionary violence in the sixties and seventies. University of California Press.
(*) راجع الجزء الأول بعنوان اليسار الراديكالي في ستينيات وسبعينيات القرن الـ20.. سياقه وأسبابه؟
(**) راجع الجزء الثاني بعنوان اليسار الراديكالي في أوروبا وأميركا من “الألوية الحمراء” إلى “الفهود السود”