سوريا وإسرائيل.. مختبر الترسيمات الكبرى

في السياسة، الخريطة أهم من الخطاب. الكلمات، مهما حملت من وعود، تظلّ أدوات تزيين لأجندات تُدار في العمق بمعايير جيوسياسية صارمة، حيث تُعاد صياغة الخرائط وفق ميزان القوة لا وفق منطق الشعارات.

ما فعلته إسرائيل في سوريا بعد انهيار النظام السابق وصعود بديله الهش لم يكن ردّ فعل عسكرياً فحسب، بل تجسيداً لمشروع أوسع لإعادة ترسيم المنطقة: قصف جوي دمّر ما تبقّى من المؤسسة العسكرية، توغلات ميدانية تجاوزت خطوط 1974، إعلان أحادي بإنهاء اتفاق الفصل، ثم تأسيس شبه معلن لوجود عسكري دائم في العمق السوري، تحت لافتة “أمن إسرائيل”.

وما تسرّب حول الاتفاق الأمني المرتقب بين دمشق وتل أبيب يكشف عن جوهر التفكير الإسرائيلي في لحظة إعادة رسم الخرائط. فالمسألة لا تقتصر على ترتيبات تقنية، بل تعكس فلسفة أمنية تريد إسرائيل من خلالها التحكم بمسار سوريا ما بعد الأزمة السورية. منع تركيا من إعادة بناء الجيش السوري مثلاً ليس مجرد بند عسكري، بل خطوة لحرمان دمشق من أي حليف سني ـ إقليمي قد يوازن الكفة في المستقبل، وهو ما يضع أنقرة خارج المعادلة السورية ويُبقي الكلمة العليا لتل أبيب.

أما حظر نشر الأسلحة الإستراتيجية ـ من صواريخ وأنظمة دفاع جوي ـ فيكشف عن إصرار إسرائيلي على الحفاظ على حرية الحركة الجوية كشرط وجودي، بما يعني أن السيادة السورية ستبقى منقوصة، وأن سماء هذه الدولة ستظل امتداداً للفضاء الأمني الإسرائيلي.

وفي ما يتعلق بإنشاء ممر إنساني إلى جبل الدروز في السويداء، فالمسألة أبعد من الإغاثة: إنها محاولة لتفكيك النسيج السوري عبر إثارة الحساسيات الطائفية والمذهبية وربطها بممرات مراقبة دولية، بما يُحوّل السويداء إلى ورقة جيوسياسية على طاولة التوازنات.

جوهر الصراع يتجاوز دمشق وتل أبيب. نحن أمام مشهد إقليمي يعاد ترتيبه في سياق أوسع: من خطوط الجولان إلى امتدادات العراق، من اضطرابات السويداء إلى حدود الجنوب اللبناني. الصراع لم يعد محصوراً بدولة ضد أخرى، بل تحوّل إلى اختبار لمعادلات تتصل بالهويات، بالإثنيات، وبأوطان تتحول تدريجياً إلى أوطان مرقمنة، تُدار عبر شبكات النفوذ والوسائط الرقمية بقدر ما تُدار عبر الجيوش

أما نزع السلاح من مرتفعات الجولان حتى تخوم دمشق، فيُكرّس فكرة “منطقة آمنة” لإسرائيل، لكنها في العمق منطقة منزوع السيادة، تُحوّل جزءاً من الجغرافيا السورية إلى مجال حيوي إسرائيلي بغطاء قانوني. وإلى جانب ذلك، تُطرح وعود بإعادة الإعمار عبر دعم أميركي وخليجي، وهي وعود لا تنفصل عن مشروع إعادة إدماج سوريا في منظومة إقليمية مرقمنة، حيث المساعدات تتحول إلى أدوات نفوذ، وإعادة البناء تصبح مرادفاً لإعادة التموضع وتقليص النفوذ الإيراني.

في دمشق، وجدت السلطة الجديدة نفسها أمام مشهد معقد يفوق قدرتها على الاحتواء: جيش مفكك، اضطرابات متصاعدة في السويداء، إثنيات قلقة تبحث عن موقعها في دولة فقدت مركزيتها، وضع إقتصادي ومالي واجتماعي صعب، وسلطة مضطرة للاكتفاء باحتجاجات دبلوماسية تُسجل في المحافل الدولية من دون قدرة على ترجمتها إلى فعل ميداني. هكذا انزلقت سوريا من دولة كانت تشكّل ركناً في معادلات الردع الإقليمي، إلى ساحة مفتوحة تُعاد على مسرحها هندسة التوازنات.

أما “السلام”، فيتبدى كفكرة براغماتية مؤقتة أكثر مما هو مشروع استراتيجي. إسرائيل لا ترى شريكاً مستقراً يمكن أن تبني معه معاهدة نهائية، ولا تريد أن تُقيد نفسها بالتزامات تحدّ من حركتها. أقصى ما تعرضه هو اتفاقات أمنية جزئية تُثبّت مكاسبها وتؤدلج حضورها كقوة فوق القانون الدولي. في المقابل، ترى واشنطن في هذا المسار فرصة مزدوجة: تقليص الاحتكاك الإسرائيلي ـ السوري من جهة، والإبقاء على دمشق رهينة الحاجة المستمرة إلى وساطة أميركية من جهة أخرى.

لكن جوهر الصراع يتجاوز دمشق وتل أبيب. نحن أمام مشهد إقليمي يعاد ترتيبه في سياق أوسع: من خطوط الجولان إلى امتدادات العراق، من اضطرابات السويداء إلى حدود الجنوب اللبناني. الصراع لم يعد محصوراً بدولة ضد أخرى، بل تحوّل إلى اختبار لمعادلات تتصل بالهويات، بالإثنيات، وبأوطان تتحول تدريجياً إلى أوطان مرقمنة، تُدار عبر شبكات النفوذ والوسائط الرقمية بقدر ما تُدار عبر الجيوش.

بهذا المعنى، ليست المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية سوى جزء من مختبر إعادة الترسيمات الكبرى في المشرق. ليس بحثاً عن تسوية نهائية، بل إدارة للصراع بأدوات متجددة، تجعل من الخريطة ـ مرة أخرى ـ النص الأول للسياسة، فيما تبقى الشعارات مجرّد هوامش على أطراف المشهد.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إيران إلى "النادي النووي".. أم تبقى خارجه؟
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  من الحاكم إلى صانع الرأي.. إنّه المُعتقل مجدداً