تراجع التمويل الدولي للمجتمع المدني.. ما هو أثره على سوق العمل اللبناني؟

الأزمة السورية لم تكن مجرد عبء على سوق العمل اللبناني بل وفّرت في مراحلها الأولى دفعة توظيفية عبر القنوات الدولية والمحلية غير أن هذا الأثر كان مرحليًا ولم يتحوّل إلى فرص عمل مستدامة تندمج في الاقتصاد المنتج.. ومع تقلص التمويل برزت هشاشة هذه الوظائف وانكشاف آلاف العاملين على مخاطر البطالة ما يستدعي استراتيجيات لربط هذه الخبرات المكتسبة بقطاعات إنتاجية قادرة على الصمود

شهد لبنان منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011 طفرة غير مسبوقة في نشاط المجتمع المدني سواء عبر المنظمات الدولية أو الجمعيات المحلية التي استفادت من تدفق التمويل الإنساني بعنوان إغاثة النزوح السوري على الأراضي اللبنانية، ما أدى إلى خلق آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة في بلد يعاني أصلًا من هشاشة اقتصاده وسوق عمله. هذه الدينامية التي ازدهرت على مدى أكثر من عقد من الزمن تواجه حاليًا اختبارًا قاسيًا مع تراجع التمويل الدولي ما يطرح تساؤلات جديّة حول مستقبل هذه الجمعيات وانعكاسات ذلك على سوق العمل اللبناني.

الجدير ذكره أنه مع تدفق التمويل، ارتفع عدد الجمعيات المرخصة في لبنان إلى مستويات غير مسبوقة وارتبط الجزء الأكبر من هذا النمو بتداعيات الأزمة السورية، إذ تم تفريخ جمعيات لم يكن لها أي نشاط يُذكر قبل العام 2011 وتحوّلت فجأة إلى فاعل رئيسي في العمل الإغاثي لكن اللافت للانتباه أن الكثير من هذه الجمعيات كان مجرد واجهة سياسية أو حزبية فيما تبنّت بعضها خطابًا مناهضًا للنزوح السوري على المستوى الإعلامي في الوقت الذي كانت تستفيد من التمويل المخصص لخدمة النازحين!

توظيف.. ورواتب

وظائف الجمعيات الممولة دوليًا خلال ذروة التمويل كانت غالبًا عبارة عن عقود قصيرة الأمد مرتبطة بمشاريع محددة لكنها قدّمت رواتب وامتيازات تفوق بكثير ما هو سائد في السوق اللبناني في حين كان الحد الأدنى للأجور في لبنان لا يتجاوز 675 ألف ليرة لبنانية (قبل الأزمة المالية)، كانت بعض الوظائف في القطاع الأهلي المُمول دوليًا تتخطى عدة آلاف من الدولارات شهريًا خصوصًا في المستويات الإدارية والتقنية. هذا التفاوت خلق فجوة واضحة بين رواتب العاملين في القطاع المدني الممول دوليًا وباقي القطاعات وجعل الانتقال لاحقًا إلى سوق العمل المحلي بعد انتهاء التمويل أمرًا بالغ الصعوبة.

انتعاش القطاع المدني الممول دوليًا ترك أثرًا مزدوجًا في سوق العمل اللبناني. من ناحية ايجايبة أتاح فرص عمل لآلاف الشباب ووفّر دخلًا مستقرًا نسبيًا لفئات كانت تعاني من البطالة أو الهجرة القسرية. من ناحية سلبية أسهم في خلق اقتصاد موازٍ قائم على عقود مرتبطة بالتمويل الخارجي غير قابلة للاستدامة ولا ترتبط بالاقتصاد الإنتاجي المحلي.

ولكن مع تراجع التمويل، ظهرت فجوة في سوق العمل، حيث لم تستطع القطاعات الأخرى، عامة أم خاصة، من استيعاب الأعداد الكبيرة من العاطلين الجدد عن العمل، ما زاد من معدلات البطالة وعمّق الأزمة الإجتماعية.

ولعل أحد أبرز التحديات الأخلاقية التي كشفتها تجربة السنوات الماضية هو انحراف بعض الجمعيات عن رسالتها الأساسية وانتقالها إلى النشاط الإغاثي لمجرد جذب التمويل حتى لو كان ذلك بعيدًا عن أهدافها المعلنة عند التأسيس.

هذا التحول لم يؤثر فقط على صورة العمل الأهلي بل أضعف الثقة المجتمعية في الجمعيات وأثار تساؤلات حول مدى التزامها بالقيم والمبادئ التي يفترض أن تحكم العمل المدني خصوصًا في غياب آليات رقابة فعّالة على وجهة استخدام التمويل.

أرقام وإحصاءات

قدّر البنك الدولي ومنظمة العمل الدولية (ILO)عدد اللاجئين السوريين بحلول عام 2013 بما يقارب المليون نسمة، أي نحو 22% من سكان لبنان، ما دفع المجتمع الدولي إلى ضخ أموال لدعم المجتمعات المضيفة وتخفيف الضغط على البنى التحتية والخدمات. هذه التمويلات تحوّلت بسرعة إلى محرّك رئيسي لخلق فرص عمل مؤقتة للبنانيين في مجالات الإغاثة، البنية التحتية، الإدارة والخدمات الاجتماعية.

أدّى تزايد المشاريع الممولة دوليًا إلى خلق آلاف الوظائف للبنانيين في الجمعيات المحلية والمنظمات الدولية  (INGOs) خصوصًا في المناطق الريفية والبقاع والشمال حيث تركزت التجمعات الكبرى للنازحين السوريين.

ووفق تقرير (Executive Magazine) عام 2021 وفّرت هذه المنظمات فرصًا برواتب تفوق المعدل المحلي ما ساهم في استقرار مؤقت لمداخيل آلاف العائلات إلا أن توقف أو خفض التمويل لاحقًا تسبب في فقدان الاقتصاد اللبناني نحو 220 ألف وظيفة عام 2020 كان معظمها في القطاع غير الربحي أو العقود الممولة دوليًا.

وأطلقت منظمة العمل الدولية عبر برنامج EIIP- (Employment‑Intensive Infrastructure Programme) مشاريع لتحسين البنية التحتية في المجتمعات اللبنانية المضيفة. هذه المشاريع، الممولة من دول مانحة كألمانيا، وفّرت منذ 2017 وحتى 2021 آلاف فرص العمل المؤقتة للبنانيين، بما في ذلك أعمال صيانة الطرق الزراعية إعادة تأهيل المدارس وإنشاء شبكات المياه والصرف الصحي وفي 2024 وسّعت المنظمة هذه البرامج لتشمل بيروت وطرابلس مع التركيز على تشغيل الفئات المهمشّة (نساء، ذوو إعاقات، شباب عاطلون عن العمل إلخ..).

وبحسب بيانات البنك الدولي عام 2018 فإنه خصّص برنامجاً بقيمة 400 مليون دولار لخلق ما يقارب 52,000 وظيفة دائمة و12,000 وظيفة مؤقتة للبنانيين عبر البرنامج الوطني للتوظيف (NNJP) معظمها مرتبطة بالمجتمعات المتأثرة بالنزوح السوري.

إقرأ على موقع 180  حتى لا تكون نهاية ثورة

كما أظهرت إحصاءات سوق العمل أن نسبة مشاركة اللبنانيين في القوة العاملة ارتفعت من نحو 7% في 2011 إلى قرابة 47% في 2017 مدفوعة بفرص العمل التي وفرتها برامج الإغاثة والتنمية الممولة خارجيًا.

وبرغم أن هذه الفرص حسّنت مؤقتًا القدرة الشرائية لشريحة واسعة من اللبنانيين، فإنها اتسمت بعدة سمات تحدّ من أثرها الطويل الأمد:

قصيرة الأجل: معظمها عقود محددة المدة مرتبطة بتمويل مشاريع محددة.

مركزة جغرافيًا: استفادت منها المناطق المضيفة الكبرى بينما بقيت مناطق أخرى مهمشة.

غير مستدامة: تعتمد على استمرارية التمويل الدولي، ما يجعلها عرضة للانقطاع.

وبرغم غياب إحصاءات رسمية دقيقة تشير تقديرات منظمات بحثية إلى أن القطاع المدني في لبنان استوعب عشرات الآلاف من الموظفين والعاملين الميدانيين في ذروة النشاط الإغاثي بين عامي 2012 و2017.

لكن منذ 2018 ومع بداية انحسار التمويل خسر هذا القطاع جزءًا كبيرًا من قوته العاملة تقارير محلية تفيد بأن أكثر من نصف الجمعيات التي نشطت خلال الأزمة باتت في حالة خمول أو توقفت كليًا فيما اضطر العديد منها إلى تسريح الموظفين أو الدمج مع جمعيات أخرى هذا التراجع لم يقتصر على أعداد العاملين فقط بل شمل فقدان كوادر متخصصة كانت تمثل العمود الفقري للعمل المدني الممول دوليًا.

التحديات البنيوية للمجتمع المدني

تواجه الجمعيات في لبنان اليوم تحديات بنيوية تتجاوز مسألة التمويل:

  • غياب استراتيجية وطنية تحدد أولويات العمل المدني بما يتناسب مع الحاجات الفعلية.
  • ضعف الاستقلالية عن القوى السياسية ما يحد من قدرتها على العمل بفعالية طويلة الأمد.
  • الاعتماد المفرط على التمويل الخارجي بدل تطوير مصادر دخل ذاتية أو شراكات مستدامة.
  • غياب الشفافية والمساءلة في إدارة الأموال وتنفيذ المشاريع.

المؤشرات الحالية تدل على أن عدد الجمعيات النشطة في لبنان سيتقلص بشكل ملحوظ خلال السنوات المقبلة إذا استمر شح التمويل الدولي وعدم قدرة الجمعيات على تنويع مصادر دخلها أو إعادة هيكلة برامجها، الأمر الذي يُهدّد باختفاء الكثير من الجمعيات أو أن يصبح عملها رمزياً ومحدوداً؛ هذا الانكماش قد يفرز مشهدًا أهليًا أكثر مهنية وواقعية لكنه في الوقت نفسه سيحرم شرائح واسعة من فرص العمل والخدمات التي كانت توفرها هذه الجمعيات.

أمام هذا الواقع، هناك ثلاثة مسارات محتملة:

أولاً؛ إعادة التمويل المشروط: قد تعيد بعض الجهات المانحة تمويل برامج محدودة مع اشتراط إصلاحات هيكلية في الحوكمة والشفافية.

ثانياً؛ التحول إلى اقتصاد اجتماعي محلي: عبر تطوير مشاريع إنتاجية وخدماتية ذات مردود مستدام بدل الاعتماد على المنح فقط.

ثالثاً؛ الاندماج والتخصص: تقليص عدد الجمعيات عبر الدمج مع التركيز على قطاعات محددة ذات أثر مباشر مثل الصحة والتعليم والتنمية المحلية.

أزمة التمويل الحالية تضع المجتمع المدني اللبناني أمام اختبار وجودي فإما أن تنجح الجمعيات في إعادة تعريف دورها ضمن أطر أكثر استقلالية واستدامة أو أن نشهد انهيار جزء كبير من هذا القطاع الذي شكّل لعقد من الزمن أحد أهم مشغّلي اليد العاملة ومقدمي الخدمات في لبنان.

المسألة اليوم لم تعد مرتبطة فقط بقدرة الجمعيات على تنفيذ مشاريع بل بمدى قدرتها على التحول من كيان تابع للتمويل الخارجي إلى فاعل محلي مستقل يخدم المجتمع اللبناني أولًا.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  مع نهاية العولمة.. لماذ فشل الغرب في الحفاظ على مكانته الصناعية؟