

إنّه المشروع الصهيوني الاستعماري، ولُبّه الاحتلال والاستيطان وطرد السكان وارتكاب المجازر والتوسع والدَوْس على القوانين الدولية، لاحتكامهم لقوانينهم التوراتية. ماذا بعد كي يتفاجأ العرب والعالم؟ إنها “إسرائيل الكبرى” بلا حدود جغرافية طالما أن السماء مفتوحة إلى حيث تصل حمم صواريخ طائراتهم وصواريخهم.
نسوق هذا الكلام للحديث هنا عن كُتيّب صدر حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية من إعداد سليم سلامة بعنوان “في المواقف الإسرائيلية ما بعد حكم الأسد سَعيٌ للتجزئة وإعادة رسم النفوذ” (193 صفحة). يحتوي الكتاب على مجموعة مقالات ودراسات منشورة بأقلام محللين عسكريين وسياسيين إسرائيليين عقب سقوط نظام الأسد في سوريا في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، وتمحورت حول ثلاثة أقسام – عناوين: إسرائيل وسوريا الجديدة؛ الانعكاسات على سوريا وإيران والمقاومة؛ والانعكاسات على العالم العربي وتركيا وروسيا.
محظور الجهاديين والسلاح
في المقدمة التي خطّها بقلمه، يورد أنطوان شلحت (باحث في الشؤون الإسرائيلية، وناقد أدبي أنجز مجموعة أبحاث في هذا المجال، كما ترجم العديد من الكتب من العبرية إلى العربية) عدداً من الملاحظات على الشكل الآتي:
تصويب إسرائيل على تجزئة سوريا، لأنها وفور سقوط نظام الأسد أعلنت أن سلاحها الجوي سوف “يمر على كل ما ينطوي على قدرة عسكرية تتجاوز المستوى التكتيكي ويقوم بتدميره” (وهذا ما فعلته في اليوم الثاني لسقوط النظام بتنفيذ خمسمائة غارة جوية على أهداف عسكرية سورية وتدميرها، وهذا ما نفذته في عدوانها على إيران، ومؤخراً على دولة قطر ناهيك عن تدمير معظم قدرات حزب الله في لبنان).
ثمة إجماع في أوساط المحللين العسكريين والأمنيين على أن هذا الإجراء يعتبر درساً مهماً في نظرية أمنية إسرائيلية آخذة في التبلور تقارب ما هو مطلوب لدولة الاحتلال بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وعملية “طوفان الأقصى”. أحد أبرز هذه الدروس أن المبدأ الناظم للعقيدة الأمنية التي على إسرائيل انتهاجها الآن بسيط وفحواه ما يلي: “عندما يقف في مواجهتها خصم مسلم ديني أصولي فإن إيديولوجيتها الأساسية هي تدميرهم”! مع الإشارة إلى أن “هذا الخصم المسلم الديني الأصولي – كما في توصيفهم لأحمد الشرع- سارع إلى إبداء الرغبة بعلاقات مريحة مع إسرائيل، وقد أخذت طريقها إلى عقد اللقاءت المباشرة، فأين هذا الخطر على إسرائيل التي لا ترى في الآخر سوى “الغوييم” ومحل تشكُّك وبالتالي هدفاً للقتل؟
المصلحة الإسرائيلية الاستراتيجية تحتم على إسرائيل أن تسعى لاختفاء سوريا وأن تحل محلها خمسة كانتونات، كما يتعين على اسرائيل “تعميق سيطرتها في الداخل السوري ولا سيما في الداخل الدرزي”، ربما “لإحياء حلم ياغال آلون القديم بإقامة دولة عازلة درزية في جنوب سوريا”، وفي الوقت نفسه “تخوض اسرائيل عبر الدروز في سوريا صراع نفوذ مع التدخل التركي وتحاول احباط جهود الشرع الذي تعتبر نظامه جهادياً خطراً”
أما في صلب مشروع إسرائيل القديم/الجديد/المتجدد فهو ما استقرأه شلحت خلف سطور محتوى الكُتيّب والقاضي بالحؤول دون وقوع الأسلحة الاستراتيجية في أيدي الجهات الإسلامية المتطرفة أو الداعمة لحركات مقاومة أو حتى لأي جهة من الجهات، وعلى رأسها تقليص النفوذ الإيراني في سوريا بصورة كبيرة ومنع إعادة بناء قدرات حزب الله في لبنان، وتأييد ضرب المنشآت النووية الإيرانية ولذلك “يواصل سلاح الجو الإسرائيلي زيادة استعداداته وجهوزيته لمثل هذه الضربات المحتملة في إيران” (وهذا ما حصل)، متوقفاً عند مقالة اللواء في الاحتياط يعقوب عميدرور الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي الذي قال إن إيران في لحظة الحسم فشلت في تقديم الدعم إلى حزب الله الذي تلقى ضربة قاسية في الحرب ضد إسرائيل كما فشلت في حماية النظام السوري الموالي لها والمعتمد عليها.
العازل الدرزي والصمام الكردي
ومن الإشارات ذات الدلالة أيضاً في إحدى القراءات ضمن هذا الكتاب أن المصلحة الإسرائيلية الاستراتيجية لأبعد مدى تحتم على إسرائيل أن تسعى لاختفاء سوريا وأن تحل محلها خمسة كانتونات (باتت شبه قائمة) كما يتعين على اسرائيل “تعميق سيطرتها في الداخل السوري ولا سيما في الداخل الدرزي” (وهذا ما تقوم به)، ربما “لإحياء حلم ياغال آلون القديم بإقامة دولة عازلة درزية في جنوب سوريا”، وفي الوقت نفسه “تخوض اسرائيل عبر الدروز في سوريا صراع نفوذ مع التدخل التركي وتحاول احباط جهود الشرع الذي تعتبر نظامه جهادياً خطراً”. (أغلب المقالات ذكرت الشرع بلا صفة الرئيس واكتفت بالجولاني)، وفي إحداها “أنه يغير مظهره باستمرار من الزي الجهادي إلى زي بدلة قتالية تكتيكية ومؤخراً إلى بدلة عمل أنيقة ومصممة بصورة جيدة وهي محاولات خرقاء لإرباك الاستخبارات الإسرائيلية”!
والأمر نفسه ينطبق على الأكراد ففي بعض المقالات أن لإسرائيل علاقات صداقة قديمة معهم وفق ما يعنيه الكانتون الكردي من تحقيق غاية اختفاء سوريا فإنه أيضاً سوف يكون جالساً “فوق رأس أردوغان” على طول حدود تركيا الشرقية (بالرغم من العلاقات الوثيقة التركية الإسرائيلية وصمت أردوغان تجاه حرب الإبادة في غزة).
قلق وجودي
القلق الوجودي الدائم الذي تعيشه إسرائيل يدفع بمراكز الأبحاث والدراسات الإسرائيلية لوضع الخطط وتبادل العصف الفكري في خدمة السياسة التنفيذية. قلقٌ يجعل يسحاق بريك يحذر من أن الأردن أيضاً يضم 92% من المسلمين السنة (برغم اتفاقية السلام والتطبيع وهدوء الحدود المشتركة)، وإشارة ألوف بن في صحيفة “هآرتس” إلى البعد الصراعي الديني فيكتب “أن احتلال جبل الشيخ السوري مناسب أيضاً للعلاقة الهَوَسية التي تربط إسرائيل بجارتها الشمالية منذ قيام الدولة ذلك أن جذور هذه العلاقة تمتد إلى عهد التوراة على جرائم دمشق الثلاث. (في الكتيّب توضيح لمعنى جرائم دمشق الثلاث الواردة في الكتاب المقدس العبري وتحديداً من سفر عاموس “الإصحاح الأول، الآية الثالثة”. يقول الاقتباس “هكذا قال الرب: من أجل ذنوب دمشق الثلاثة والأربعة لا أرجع عنه لأنهم داسوا جلعاد بنوارج من حديد”.
أما النظرة الإسرائيلية لتركيا فتاخذ حيزاً في تفكير هؤلاء، ما يدفعهم للرهان على الأكراد، ولكن مع الإشارة إلى وجود معضلات أبرزها إذا ما انسحبت القوات الأميركية من سوريا. (تأكيد على ضعف إسرائيل من دون الدعم الأميركي). وفي دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب بتاريخ 8-5-2025 بقلم ثلاثة باحثين والمقالة بعنوان “ما هي الفرصة الاستراتيجية لإسرائيل في سوريا”، تبرز النقطة الأهم بدعوتهم إلى أن يتضمن التعاون مع النظام الجديد في سوريا قيوداً على نشر أنظمة الدفاع الجوي التركية في سوريا.
ومن القسم الثاني من الكتيّب بعنوان “الانعكاسات على سوريا وإيران والمقاومة”، ننتقي مقالة أماتسيا برعام بعنوان “تفكيك حزب الله هو الهدف المشترك لنتنياهو والجولاني” وهذا الهدف من الطرفين يقضي بتجريد حزب الله من سلاحه الثقيل والسماح له بالوجود فقط كحزب سياسي في لبنان وتدعو إلى تفكيك كل مؤسسات الحزب التي تشكل دولة داخل الدولة في لبنان ومنع سيطرته على المطار والمرفأ وعلى المعابر وغيرها (ص 112).
أما في القسم الثالث بعنوان “الانعكاسات على العالم العربي وتركيا وروسيا”، فقد وردت في (الصفحة 175) مقالة بوعاز ليبرمن بعنوان “هل سوريا هي الحل للمشكلة الفلسطينية في الشرق الأوسط”؟.
الإسرائيليون الأوائل صمتوا ألفي عام وفعلوا.. والعرب ثرثروا ولم يفعلوا.