إرث الحريرية يُعزّز التباين الأميركي-السعودي في لبنان

إذا كان هناك من انتكاسة لتعليق رئيس تيار المستقبل سعد الحريري عمله السياسي فهي انتكاسة أميركية بإمتياز. لماذا؟

منذ بدايات مشروع توريثه في العام 2005، كان سعد الحريري أقرب إلى الأميركيين من السعوديين. حتى أن الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبد العزيز لم يكن متحمساً لتمويل قوى “14 آذار” في تلك المرحلة، وكانت الرياض في ذروة هذه المواجهة مع حزب الله تُفَضّل أن تقود واشنطن هذا الصراع الداخلي في لبنان.

في أواخر العام 2010، كتبتُ مقالةً في جريدة “السفير” عرضت فيها كيف اشتكى سعد الحريري إلى مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى آنذاك جيفري فيلتمان عن ضغوط تمارسها القيادة السعودية عليه لكي يزور دمشق وكيف أن حكومته الأولى غداة إنتخابات العام 2009 باتت على وشك السقوط. وبالفعل سقطت بعد أشهر أثناء زيارة الحريري الى واشنطن في الشهر الأول من عام 2011، وتحديداً خلال إجتماعه بالرئيس الأميركي باراك أوباما. كانت واشنطن حينها في موقع المعترض على التقارب السعودي-السوري في لبنان، وتمكنت من عرقلته في نهاية المطاف.

بعد صعود الملك سلمان ونجله محمد الى السلطة وأفول سطوة النظام السوري بالتزامن مع تحولات السياسة الخارجية في ظل أوباما، زادت الفجوة بين سعد الحريري والقيادة السعودية، كما انقلبت الأدوار بين السعودية وأميركا. أصبح تركيز الرياض على إيران وحزب الله فيما أصبحت الأولوية الاميركية توقيع اتفاق نووي لادارة النزاع مع طهران. هذا التبادل للأدوار في لبنان جعل الرياض في موقف المعرقل للتفاهمات الاميركية-الايرانية في لبنان، بما في ذلك صفقة الرئاسة بين ميشال عون وسعد الحريري عام 2016. هذا الاعتراض السعودي أتى عبر اربع موجات عكست تطور الموقف السعودي في لبنان وتخبط العلاقة بين واشنطن والرياض خلال العقد الأخير.

زار بهاء الحريري واشنطن قبل فترة والتقى بمسؤولين أميركيين كان انطباعهم مُرحِباً بمواقفه المعلنة، لكن هناك تساؤلات في ادارة بايدن حول قدرته على فرض نفسه في المشهد السياسي كما تساؤلات حول نواياه وكيف سيؤثر دخوله على السياسة اللبنانية في هذه المرحلة وحول مدى الدعم السعودي لخوضه الانتخابات وقيادة ارث الحريرية

الموجة الأولى كانت في شباط/فبراير 2016 مع فرض أول عقوبات سعودية شملت سحب الودائع المالية من مصرف لبنان المركزي والغاء منحة الـ 4 مليارات دولار السعودية الى القوى العسكرية والامنية اللبنانية (3 مليارات في آخر عهد ميشال سليمان ومليار جُيّرت للحريري في مطلع العام 2014)، وذلك بعدما قررت الحكومة اللبنانية الامتناع عن التصويت على قرار في جامعة الدول العربية يدين الهجوم على السفارة السعودية في إيران بعد اعدام الشيخ السعودي نمر النمر. هذا كان أول مؤشر سعودي بأن الرياض لم تعد تعطي مساعدات مجانية لتعويم النظام اللبناني، وبالتالي تتوقع مقابلاً سياسياً، لا سيما في قضايا السياسة الخارجية التي تعني المملكة مباشرة.

بالتزامن مع تلك الفترة، بدأت المواجهة السياسية والاستخباراتية المباشرة بين الرياض وحزب الله، وهو مسار تراكمي من الشكوك المتبادلة دشّنه إغتيال رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005 وتفاقم أثناء حرب تموز/يوليو مع اسرائيل عام 2006.

الموجة الثانية كانت مع احتجاز سعد الحريري في الرياض واجباره على اصدار بيان استقالة من رئاسة الحكومة في تشرين الثاني/نوفمبر 2017. بغض النظر عن مبررات هذا الاحتجاز، أي العلاقة بين سعد الحريري والقيادة السعودية، أعطت هذه الخطوة أوضح رسالة اعتراض سعودية ضمنية على التسوية الرئاسية التي أتت بميشال عون رئيساً للجمهورية، أي لتهاون سعد الحريري في التعامل مع حزب الله وحلفائه. تدخلت ادارة دونالد ترامب بشكل حاسم وفعال حينها لانقاذ سعد الحريري نتيجة التناغم بين وزارتي الخارجية والدفاع في واشنطن وبالتنسيق المباشر مع فرنسا إيمانويل ماكرون. تمكن الحريري من العودة الى رئاسة الوزراء مع ترتيب هش لعلاقته بالقيادة السعودية في آذار/مارس 2018 بمباركة من ادارة ترامب، ما أوحى حينها بأن ربما هناك عودة محتملة للسياسة السعودية الى لبنان. لكن نقطة التحوّل كانت انتفاضة اللبنانيين في 17 اكتوبر/تشرين الاول 2019 التي فرضت استقالة حكومة سعد الحريري بتشجيع اميركي هذه المرة في ظل الضغوط الشعبية حينها، ما انهى عمليا الصفقة الرئاسية وتداعياتها الداخلية والخارجية.

بعدها بقيت السعودية على حيادها السلبي ولم تبارك خيار عودة الحريري الى رئاسة الوزراء، كما بقيت رافضة لاعادة الانخراط في لبنان برغم محاولات الاقناع الاميركية-الفرنسية.

الموجة الثالثة جاءت بعد فترة ركود سعودي حيال لبنان دامت ثلاث سنوات، وكانت شرارتها مواقف أطلقها وزير الاعلام اللبناني جورج قرداحي انتقد فيها الحرب السعودية في اليمن قبل تسلمه منصبه الوزاري. الاجراءات التي اتخذتها السعودية دبلوماسياً وتجارياً نجحت في افتعال الصدمة التي حاصرت حكومة نجيب ميقاتي الهشة أصلاً، لكنها قلّصت مرة أخرى أوراق القوة السعودية في لبنان، ولو أنها فرضت إستقالة قرداحي نهاية العام الماضي.

الموجة الرابعة الحالية فرضت هذه المرة تعليق سعد الحريري دوره في الحياة السياسية اللبنانية، وهو سيناريو كانت تفضل ادارة جو بايدن تفاديه في المرحلة الحالية. هناك محاولة لتكريس دور بديل لبهاء الحريري وتوسيع هامش دوره في نظام يبدو غير راغب بإشراكه في اللعبة السياسية. واشنطن تخشى أن يملأ “المتطرفون” او حلفاء حزب الله فراغ سعد الحريري فيما ترغب الرياض أن يملأ هذا الفراغ من هم في خانة المناهضين لحزب الله. تشرذم مقاعد الحريري النيابية يفضي حكما إلى خلل بنيوي جديد في النفوذ السعودي في لبنان لا سيما في ضوء قرار المملكة منع المساعدات المالية عن نظام في حالة افلاس حتى يقوم باصلاحات ويغيّر جذرياً سياسته الخارجية.

تبدو علاقة واشنطن بسعد الحريري مترسخة على الرغم انها لم تقف معه في مفاصل اساسية في مسيرته السياسية كما لن تخوض الآن معارك مع الرياض لأجل إسترجاع دوره السياسي. لا تزال ادارة بايدن تفضل ان تفهم عن بعد مشروع بهاء الحريري السياسي وتتابع مدى قدرته على تحقيق مكاسب انتخابية وسياسية في المرحلة المقبلة

إنسحاب الحريري من شأنه أن يُضيّق هامش المناورة في الموقف الاميركي الذي لا يزال بدون سياسة واضحة في لبنان وبالتالي يجعل السعودية في موقع افضل للتعاون مع اطراف في “14 آذار”، ما يعني تصاعد محتمل للتجاذبات السياسية في الداخل اللبناني. ما يحصل في لبنان جزء من هذا التوتر المضمر في العلاقات الاميركية – السعودية ومحاولة من الرياض للقول بأن لديها اوراق قوة، لكن الحكم على هذا الرهان السعودي ينتظر نتائج الانتخابات النيابية والى أي مدى يمكنها احداث اختراق انتخابي يكفي لتعديل موازين القوى في النظام اللبناني.

إقرأ على موقع 180  الإستبداد الذي لا بد منه.. صندوق النقد نموذجاً

هناك تساؤلات اميركية حول مرحلة ما بعد سعد الحريري، جزء منها مرتبط بنتائج الانتخابات النيابية وما ستفرزه وجزء آخر مرتبط بمصير “فلول” الحريرية في النظام اللبناني. هناك مراكز قوى رئيسية في قوى الامن الداخلي والادارات والمؤسسات الرسمية، فهل سيبقى ولاءها معقوداً لسعد الحريري؟

امام بهاء الحريري تحدٍ كبير في الاشهر المقبلة لفرض نفسه داخل عائلته نفسها وبيئته والطبقة الحاكمة كما في علاقاته الدولية لا سيما مع السعوديين والاميركيين. زار بهاء الحريري واشنطن قبل فترة والتقى بمسؤولين أميركيين كان انطباعهم مُرحِباً بمواقفه المعلنة، لكن هناك تساؤلات في ادارة بايدن حول قدرته على فرض نفسه في المشهد السياسي كما تساؤلات حول نواياه وكيف سيؤثر دخوله على السياسة اللبنانية في هذه المرحلة وحول مدى الدعم السعودي لخوضه الانتخابات وقيادة ارث الحريرية.

في الوقت نفسه، تبدو علاقة واشنطن بسعد الحريري مترسخة على الرغم انها لم تقف معه في مفاصل اساسية في مسيرته السياسية كما لن تخوض الآن معارك مع الرياض لأجل إسترجاع دوره السياسي. لا تزال ادارة بايدن تفضل ان تفهم عن بعد مشروع بهاء الحريري السياسي وتتابع مدى قدرته على تحقيق مكاسب انتخابية وسياسية في المرحلة المقبلة.

المقاربة السعودية للبنان منذ سنوات يمكن اختصارها بأنها لم تعد مهتمة بتخصيص وقت وموارد في بلد يهيمن عليه حزب الله. الرياض كانت تتوقع انخراطا اميركيا معها وموقفا اميركيا اكثر تشددا حيال حزب الله، لكن أتت مقاربة ادارة بايدن اكثر مرونة في شروط تشكيل الحكومة اللبنانية الحالية وفي ملف نقل الغاز المصري الى لبنان عبر الأردن وسوريا. لا تزال واشنطن تعتقد أن إنخراطها في لبنان أفضل من الانسحاب منه والسماح للآخرين مثل إيران وروسيا بتعزيز نفوذهم فيه. النهج السعودي يعني عملياً أن على كل لبنان أن يدفع ثمن هيمنة حزب الله على النظام السياسي اللبناني، لكن ليس واضحاً بعد اذا كان لدى الرياض خطة واضحة أو نفوذاً كافياً لتحقيق اهدافها. المبادرة الكويتية هي محاولة اميركية ـ فرنسية لاعطاء ضمانات او فوائد محتملة للرياض حتى يعود دورها طوعاً وتدريجياً الى لبنان، فيما يبدو أن القيادة السعودية ترى لحظة تحوّل في ظل الانهيار الاقتصادي في لبنان او فرصة مؤاتية لتعديل دينامية السياسة اللبنانية.

وبرغم التركيز على التداعيات المحتملة للاتفاق النووي الاميركي-الايراني على الصعيد الإقليمي، إلا أن عدم اليقين الاكبر في المرحلة المقبلة هو تأثير العلاقات الاميركية-السعودية على لبنان. هذا الامر قد ينعكس في صلب النزاع السياسي داخل عائلة الحريري وطبيعة دورها في المسرح السياسي وضمن منظومة الحكم في المرحلة المقبلة. وبالتالي حوّلت السعودية الانظار في المرحلة المقبلة الى معارك سياسية داخل طائفة لبنانية وحتى داخل عائلة سياسية (آل الحريري)، فيما تركيز انتفاضة اللبنانيين كان على تعديل أسس هذا النظام الطائفي الذي تُعيد الرياض بث الحياة فيه حالياً من حيث تدري أو لا تدري.

Print Friendly, PDF & Email
جو معكرون

صحافي وكاتب لبناني مقيم في واشنطن

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  نتنياهو يُراوغ مع بايدن لمصلحة ترامب.. ماذا لو فازت هاريس؟